عرفت السياسة السودانية الحديثة بيتيْن دينييْن رئيسييْن هما "بيت الميرغني" الذي خرج منه حزب الشعب الديمقراطي، ثم أصبح بعد اندماجه مع سواه "الحزب الاتحادي الديمقراطي" بزعامة محمد عثمان الميرغني، و"بيت المهدي" الذي خرج منه "حزب الأمة القومي" بزعامة الراحل الإمام الصادق المهدي، وهما تشاركا في حكم البلاد لفترات. اللافت أن نساء المهدي انخرطن في السياسة والعمل العام رغم تحدرهن من بيت ديني، وربما يعود ذلك إلى أن الحركة المهدية، وإن كانت حركةً دينية، لكنها بالأساس حركةٌ سياسية تبنت مقاومة المستعمر وقادت البلاد إلى التحرر من الاستعمار، بينما "البيت الميرغني" نشأ بيتاً صوفياً وأسس الطريقة الختمية، إحدى أكبر الطرق الصوفية في السودان.
لم يعرف السودانيون حضوراً لنساء "البيت الميرغني" في السياسة والعمل العام بتاتاً، ولا ترد سيرتهنَّ في مجالس المدينة، لكن سيرة مريم الميرغنية أو "الشريفة مريم"، إحدى نساء هذا البيت، حاضرةٌ في المشهد العام في حياتها ومماتها، وعلى نحو خاص في أقصى شرق السودان حيث مولدها ونشأتها وتأثيرها الاجتماعي الطاغي.
هي مريم ابنة السيد محمد هاشم بن السيد محمد عثمان الميرغني الختم، مؤسس الطريقة الختمية. ومريم هي جدة (عمّة والد) محمد عثمان الميرغني زعيم "الحزب الاتحادي الديمقراطي" الحالي والذي يقيم في مصر منذ سنوات. وسيرة مريم لا تطبعها أي أبعاد سياسية بسبب ارتباط بيتها بالحزب الاتحادي، وربما كان ذلك لأنها توفيت قبل استقلال السودان، لكن مما لا شك فيه أن الظلال الدينية أسهمت بشكل فاعل في سيرتها، بل كانت العامل الرئيسي في أن تصبح مريم الميرغنية رائدةً في العمل النسوي سابقة لعصرها، ولأن للطرق الصوفية في السودان نفوذاً اجتماعياً واسعاً محاطاً بالقبول، فإن مريم المتصوفة ما كانت تستطيع فعل ذلك بدون هذا الارتباط.
نساء السودان: معركة حقوقية وسط صراع سياسي محتدم
05-06-2021
لماذا انتفضت نساء السودان ضد الإسلام السياسي؟
18-05-2019
ووفقاً لسيرتها الموثقة في كتاب بعنوان "في رحاب أم البركات" فهي وُلدت في العام 1287 من الهجرة - 1886 من العام الميلادي، في منطقة "سواكن" بشرق السودان والتي تبعد نحو 780 كلم من العاصمة الخرطوم، وتوفيت عام 1952 بمدينة بورتسودان، أكبر مدن الشرق، ثم نُقل جثمانها إلى مدينة "سنكات" بشرق السودان حيث يحيي الآلاف من النساء والرجال ذكراها سنوياً في شهر رجب، فيما يُعرف شعبياً بـ "الحوليّة". ولا يحتاج الناس هناك - رجال ونساء - إلى إعلام كثيف للتذكير بالاحتفال السنوي، إلا بالمتاح، لأن موعده ثابتٌ وهو أول خميس من شهر رجب، ومكانه كذلك ثابت بضريحها في سنكات، هذه الآلاف لا زالت تحفظ فضلها الواسع في الإنفاق جيلاً بعد جيل.
وعلى الرغم من أن مريم عاشت في زمن لم تكن فيه المرأة تخرج حتى للتعليم بحكم المجتمع الذي نشأت فيه وهو مجتمع شديد المحافظة، مبالغ في حساسيته تجاه النساء، إلا أنها استطاعت ودون وقوع أي شكل من الصدام المجتمعي، أن تحقق أثراً لافتاً في شرق السودان بشكل خاص. وذكراها السنوية، وهي من أكبر التجمعات البشرية في السودان تؤكد هذا التأثير، ويحيها الرجال والنساء على حدٍ سواء
من سيدة ثرية.. إلى زاهدة شديدة التقشف!
إذاً، كيف تمكنت من هذا الانفتاح وبذل الدعم لكافة الناس وهي في مجتمع منغلق، بالكاد تستطيع فيه المرأة الخروج من البيت؟ بحسب سيرتها، فإن وفاة زوجها شكلت نقطة تحوّل في حياتها، ويؤرخ الكتاب الذي وثق سيرتها بداية نشاطها الاجتماعي مع وفاة زوجها. يقول الكاتب وهو خليفة (1) في الطريقة الختمية إن زوجها، ابن عمها، حضر إليها قبل ليلة من وفاته، وقضى معها الساعات الطوال، سماها الكاتب "جلسة الوصايا العظيمة". وبعد انفضاض الجلسة، خلعت مريم كل زينتها وبدأت مرحلة جديدة في حياتها، بذلت فيها ما تملك في خدمة المساكين والمحتاجين" وسُميت "أم المساكين" لكثرة إنفاقها عليهم.
لا يحتاج الناس هناك - رجال ونساء - إلى إعلام كثيف للتذكير بالاحتفال السنوي، لأن موعده ثابتٌ وهو أول خميس من شهر رجب، ومكانه كذلك ثابت بضريحها في سنكات. وهذه الآلاف لا زالت تحفظ فضلها الواسع في الإنفاق جيلاً بعد جيل. وذكراها السنوية، من أكبر التجمعات البشرية في السودان وهي تؤكد هذا التأثير، ويحيها الرجال والنساء على حدٍ سواء.
لم تكن مريم تخرج للعامة، وتمارس عملها الاجتماعي الهائل كما يُمكن أن نتخيل من واقع نشاطها الممتد، ولا تحفظ لها ذاكرة محرك البحث الأشهر "غوغل" أي صورة، على الرغم من أن مؤشرات البحث تقودك لصورة سيدة واسعة العينين، يتضح أنها ليست لمريم كما يظن كثيرون، إنما لشقيقتها. ويحدثنا أحد المقربين من سيرتها أن لمريم صورةُ وثيقة السفر، وصورةٌ أخرى تجمعها ببعض أفراد أسرتها، تحتفظ بهما الأسرة ضمن تاريخها و"حتى هذه لا يظهر فيها وجهها" كما يقول محدثنا. كانت مريم تدير نشاطها الاجتماعي كله من داخل بيتها، وحينما تقابل وكلاء الطريقة أو خلفاءها، بما تستدعي حاجة نشاطها الاجتماعي، كان يتم ذلك من وراء حجاب.
وتتنقل مريم شتاءً وصيفاً بين سواكن وسنكات. وخلال رحلة التنقل السنوية تتمكن من عمليات مسح شاملة لخارطة احتياجات مجتمع المنطقة الذي أصبح بالنسبة له مقْدمُ مريم مفتاحَ الحل لكثير من القضايا الملحة التي تؤرق تلك المناطق الفقيرة.
____________
من دفاتر السفير العربي
من تراث ربّات القلم
____________
بذلت مريم نصيبها الذي ورثته عن أملاك البيت الميرغني في الحجاز خدمةً للمجتمع، بينما التزمت هي زهداً صارماً في مظهرها ومأكلها ومشربها ومسكنها، وهي الغنيّة بمحبة أهلها ومجتمعها. ومما يُذكر في زهدها أنها لم تكن تتزيّن بأي حُلى إلا بوضع دبوس صغير على الأنف وهو ما يُعرف بـ "الزمام"، بينما كان لبسها ثوباً أبيضاً، كانت تحرص على أن تقص منه قطعة ثم تعيد خياطتها فيصبح الثوب مرقوعاً، وترقيع الثياب عند الصوفية هو دلالة زهد وتقشف. وكانت مريم تسكن في بيت من الطين، أو ما يُعرف في السودان ب"الجالوص" وهو طين مخلوط بروث الأبقار، بينما كانت تشيّد لمن حولها بيوتاً من الحجارة والطوب، وكانت تغدق على النساء العاملات معها بالعطايا الثمينة من حُلي وثياب.
نشاط واسع في تعليم النساء
ومن خلف هذه القيود الدينية والاجتماعية، استطاعت مريم أن تكون فاعلةً في تشييد عدد من المساجد والمدارس في مناطق سواكن، مصوّع، جبيت، سنكات، سلوم، تهاميام وتلجريب. وبحسب سيرتها، كانت تجتهد في تعليم النساء، ويُذكر أنها أوفدت بعض النساء للتعليم ثم أصبحن قابلات في مناطقهنَّ يساعدن النساء على الولادة الآمنة. أسهمت مريم بقدر في عملية التعليم، وأسست مع آخرين عدداً من المدارس، منها "المدرسة الأهلية" في بورتسودان، وتذكر سيرتها أنها كانت تتحمل أعباء رواتب عدد من المعلمين. لكن مناطق شرق السودان تُصنف ضمن الأعلى نسبةً في الأميّة والتسرب المدرسي، ولا تزال المرأة هناك، خاصةً في الأرياف، مكبلةً بالقيود الاجتماعية.
كانت مريم تنتقل شتاءً وصيفاً بين سواكن وسنكات وهي مدن في شرق السودان. وخلال رحلة التنقل السنوية تلك، تتمكن من عمليات مسح شاملة لخارطة احتياجات مجتمع المنطقة الذي صار يرى في مقْدمُ مريم مفتاحَ الحل لكثير من القضايا الملحة التي تؤرق تلك المناطق الفقيرة.
صحيح أن مريم تلقت تعليماً دينياً محدوداً مثل القليل من رصيفاتها في ذلك الزمان، لكنها كانت - عبر خلفاء الطريقة الختمية - تجمع أكبر قدر من المعلومات عن مجتمعها واحتياجاته وتحدد على إثر ذلك ما يُمكن تقديمه له.
لم تسافر مريم في حياتها إلا مرات معدودة، باستثناء تنقلها السنوي داخل مدن شرق السودان. لكن مما ذُكر أنها سافرت مرةً إلى مصر للاستشفاء. وحينها أرسل لها الملك فاروق الباخرة الملكية ("المحروسة")، بعد ما علم بشكواها من علة، وهي الباخرة ذاتها التي أبحر عليها الملك إلى خارج مصر بعد الإطاحة بملكه.
توفيت مريم عام 1952 بعد عودتها من مصر بفترة وجيزة، لتظل رائدةً نسوية سابقة لعصرها لم يُوثّق لها على قدر بذلها وجهودها وأثرها الطاغي في تلك المجتمعات.
1 - الخلفاء هم القائمين بأعمال زعيم "الطريقة" دينياً وإدارياً وهي مرتبة دينية رفيعة في الطريقة لكن أرفعها هو "خليفة الخلفاء" الذي يدير شبكة خلفاء الطريقة في جميع أنحاء البلاد، والخلفاء هم الرجال الثقاة لزعيم الطريقة.