لا ينفك السودانيون من التنقل في تصفح أخبار بلادهم ما بين شارع لا يهدأ من الحراك وأزمة سياسية تواجه رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، بعد عودته الى السلطة باتفاق 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، عقب انقلاب قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر. ويترقب السودانيون بين هذا وذاك مصير فترة انتقالية محفوفة بالصعاب، ما برحت تمر بمطبات عديدة، بلغت ذروتها بعد الانقلاب الذي لم يحقق لقائده أي مكاسب، بل ضيّق عليه فرصه الضئيلة في التسوية، وألحق بالبلاد خسائر لا تُحصى، بلغت مداها بتعليق الدعم الدولي الذي كان، قبل الانقلاب، قد بدأ يتدفق بعد لأي.
عودة الانتهاكات الجنسية ضد النساء تُعيد فتح السؤال المُلح!
وكأن السودانيون لم يطووا صفحة جهاز أمن نظام البشير الذي عُرف بانتهاج أبشع أساليب القمع والانتهاكات. فعلى نحو أعاد ذاكرة التصعيد الثوري إلي أيام المخلوع البشير، ارتكبت القوات النظامية السودانية انتهاكات جسيمة، صاحبت فض المواكب السلمية التي تصاعدت في أعقاب انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، حين أزاح قائد الجيش شركائه المدنيين في تحالف "الحرية والتغيير".
وفي أضخم موكب سلمي عقب اتفاق حمدوك-البرهان في 19 كانون الأول/ ديسمبر، والذي وافق الذكرى الثالثة للثورة، مارست قوات الشرطة والجيش أبشع أنواع الانتهاكات، التي لم تتوقف عند القتل بالرصاص الحي أو جراء الإفراط في إطلاق الغاز المسيل للدموع والضرب والتنكيل، بل مارست هذه المرة القوات انتهاكات جنسية ضد الشابات، وبشكل يبدو ممنهجاً وليس محض تصرف فردي، وفقاً لما ذكرته مسؤولة وحدة حماية العنف ضد المرأة، وهي وحدة حكومية وثقت 8 حالات اغتصاب، اثنان منها اتخذت فيها إجراءات قانونية، هذا عطفاً لحالات التحرش الواسعة. لكن تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن تعرض 13 امرأة وفتاة لاغتصاب فردي وجماعي. وبحسب الوحدة الحكومية، فإن مرتكبي الانتهاكات هم أفراد من قوات الشرطة والجيش.
أدركت لجان المقاومة التي أحكمت سيطرتها على المشهد الآن، تعقيدات المسرح السياسي، وأن التصعيد الثوري لن يكفي. فهي أمام امتحان التنظيم والقيادة الذي يُمكن أن يُحصّنها من الانزلاق نحو "اللاشيء"، خاصة بعد تجربتها مع القوى السياسية التي قدمت أداءً متواضعاً خلال الشراكة مع العسكريين.
الأمر الذي حرّض عدد كبير من المجموعات النسوية الحقوقية للوقوف مع ضحايا الاغتصاب والانتهاكات الجنسية. فسيّرت المجموعات والناشطات النسويات موكباً سلمياً لإدانة ما حدث وللفت نظر المجتمع المحلي والدولي لانتهاكات القوات النظامية.
والتحرش كان قد استُخدم كسلاح ضد النساء إبان الاحتجاجات ضد نظام البشير، قبل أن تتسع رقعتها وتنتهي برحيله في نيسان/ أبريل 2019. في أحد مواكب شهر شباط/ فبراير 2019، وثقت صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي حالات تحرش خلال عمليات الاعتقال الواسعة التي طالت النساء آنذاك، وهي لم تكن مجرد تصرفات فردية بل خطة أمنية للحد من مشاركة النساء الواسعة في الحراك ضد نظام البشير.
صحيح أن هذه الأساليب لم تتمكن من وقف الحراك ضد البشير بل زادت الموقف النسوي إصراراً وقوة، وكانت النتائج مبهرة بمشاركة النساء الفعلية في إزاحة البشير، غير أن عودة هذه الأساليب الممنهجة بواسطة القوات النظامية تفتح الباب أمام سؤال الاستحقاق الكبير: "ما الذي أنجزته الحكومة الانتقالية في إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية؟"، والواقع بعد الانقلاب يجيب بوضوح: "لا شيء!".
في 19 كانون الأول/ ديسمبر، وفي أضخم موكب سلمي عقب اتفاق حمدوك-البرهان، لم تكتفِ قوات الشرطة والجيش بالقتل بالرصاص الحي أو جراء الإفراط في إطلاق الغاز المسيل للدموع، والضرب والتنكيل، بل أقدمت على انتهاكات جنسية ضد الشابات، وبشكل يبدو ممنهجاً وليس كتصرف فردي، وفقاً لما ذكرته مسؤولة "وحدة حماية العنف ضد المرأة"، وهي وحدة حكومية وثقت 8 حالات اغتصاب.
وبوضوح أكثر فإن الانقلاب وتداعياته أعادت المشهد الثوري إلى نقطة البداية التي جعلت الجميع يتساءل: "ما الذي حققته الحكومة الانتقالية في مطالب الثورة ككل؟". وربما يتولى الإجابة على هذا السؤال الكبير حجم الرفض الشعبي الواسع لاتفاق حمدوك-البرهان، الذي تترجمه المواكب السلمية المنتظمة منذ الانقلاب الأخير، وهذا بجانبه الآخر يعكس حجم الرفض للشراكة المدنية-العسكرية ابتداء، والتي قُبلت على مضض. أما وأنها لم تحقق الحد الأدنى من مطالب الثورة، وانتهت بانقلاب، فالشارع في غنىً عنها، أو هكذا هي رسالة الرافضين لاتفاق حمدوك الذين عادوا للتظاهر رافعين شعار اللاءات الثلاث ("لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة") ليتحول المطلب الرئيسي إلى: سلطة مدنية كاملة غير منقوصة، عاجلة غير آجلة.
مأزق الانقلاب…مأزق الاتفاق
إن كان انقلاب البرهان لم يتمكن من التقدم خطوة للأمام تحت الضغط الجماهيري المتصاعد المطالب برحيله، فإن حمدوك ليس في وضع أفضل من البرهان على أي حال. حمدوك الذي قبل العودة وحده رفقة البرهان، يواجه اليوم عزلة سياسية ممتدة، اضطرته إلى التلويح بالاستقالة. وفشل حمدوك بعد مرور شهر من عودته لمنصبه في تشكيل حكومة كفاءات مستقلة وفقاً لاتفاقه مع البرهان، يؤكد حالة العجز والحيرة التي سيطرت على المشهد منذ الانقلاب وبعد الاتفاق. ويسعى حمدوك وبعض مستشاريه غير الرسميين لإخراجه من عزلته بالحصول على حد أدنى من رضا "الحرية والتغيير"، حاضنته السياسية السابقة التي انقلب عليها البرهان، أو على أقل تقدير كسب رضا أكبر مكونات هذا التحالف "حزب الأمة القومي". لكن الموقف الرسمي ل"المجلس المركزي" للحرية والتغيير هو العودة للتصعيد الثوري وصولاً لدحر الانقلاب.
حسابات حمدوك السياسية الميّالة دوماً للتسويات غير المجدية، تصطدم الآن بشارع رفع سقف مطالبه عالياً، من "شراكة مع العسكر" إلى "سلطة مدنية كاملة"، وتصطدم كذلك بقوى سياسية تمارس ضغطاً رهيباً على حمدوك، وتُمارس عليها أيضاً الضغط ذاتها للقبول بمنح ثقتها لحمدوك مجدداً حتى يتمكن من تشكيل حكومة تحصل على الحد المعقول من القبول وسط القوى السياسية والشارع الذي تؤثر فيه هذه القوى بدرجة ما.
لم يحقق الانقلاب لقائده أي مكاسب، بل ضيّق عليه فرصه الضئيلة في التسوية، وألحق بالبلاد خسائر لا تُحصى، بلغت مداها بتعليق الدعم الدولي الذي كان، قبل الانقلاب، قد بدأ يتدفق بعد لأي.
وإن استجابت "الحرية والتغيير" للضغوط وحسابات السياسة، واختارت أن تعود مجدداً إلى جانب حمدوك وفقاً لشروط اتفاق 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، فسوف تصوِّر للناس أنها دحرت الانقلاب. وفعلياً هذا ليس ببعيد، لأن قائد الانقلاب نفسه يفتقد الخطة والبرنامج، وكأن الانقلاب انتصار لذاته في معركته الكلامية مع المدنيين آنذاك. لكن بالمقابل، فإن "الحرية والتغيير" إذا ما أختارت الوقوف بجانب الانقلاب، فلن تخسر سياسياً فحسب، بل ستكون أسهمت بشكل فاعل في عرقلة الطريق أمام شارع متأهب لحسم معاركه المؤجلة مع القوى العسكرية، والتي كادت أن تُحسم لولا عودة حمدوك بعد الانقلاب! فأي عودة ل"الحرية والتغيير" بوجود البرهان على رأس السلطة تشبه العودة لبيت الطاعة، وهي خسارة فادحة لقوى سياسية كانت في مقدمة قوى الثورة.
أما حمدوك الذي فقد قدراً كبيراً من شعبيته بعد قبوله العودة بعد الانقلاب، وفقد كذلك الدعم السياسي من "الحرية والتغيير"، فهو مُطالب بتقديم ضعف ما كان مُطالب به قبل الانقلاب، ويحتاج إلى أن يثبت على وجه السرعة استقلاليته الكاملة في القرار بعيداً عن تأثير الجيش، وقبل ذلك يحتاج مع "الحرية والتغيير" الى حسم مسألة انتقال الرئاسة للمدنيين على نحو عاجل، يؤكد للشارع أنها غير قابلة للتسويف، ويٌسارع كذلك إلى استكمال مؤسسات الانتقال وعلى رأسها المجلس التشريعي. لكن حمدوك لم يُظهر أي حماس منذ عودته بعد الانقلاب، بل لم يفك عقدة لسانه لإدانة الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قوات الشرطة والجيش خلال المواكب السلمية.
يواجه حمدوك بدوره، منذ قَبِل بالعودة لوحده، عزلة سياسية ممتدة، اضطرته إلى التلويح بالاستقالة. وفشل بعد مرور شهر من عودته لمنصبه في تشكيل حكومة كفاءات مستقلة بحسب اتفاقه مع البرهان. وهذا يؤكد حالة العجز والحيرة التي سيطرت على المشهد منذ الانقلاب وبعد الاتفاق.
أما لجان المقاومة التي أحكمت سيطرتها على المشهد الآن، فقد أدركت هي الأخرى تعقيدات المسرح السياسي، وأدركت تماماً أن التصعيد الثوري لن يكفي، فهي أمام امتحان التنظيم والقيادة الذي يُمكن أن يُحصّنها من الانزلاق نحو اللاشيء، خاصة بعد تجربتها مع القوى السياسية التي قدمت أداءً متواضعاً من خلال الشراكة مع العسكريين. ويُتوقع أن تطرح "لجان المقاومة" إعلاناً سياسياً خلال موكب 30 كانون الأول/ ديسمبر ،الذي ينتظر أن يكون حاشداً. ويتداول عن اعتزام لجان المقاومة التقدم خطوة واسعة نحو الأمام بإعلان سلطتها في ختام مواكب كانون الأول/ ديسمبر.