كان جيفري فيلتمان مبعوث الولايات المتحدة لمنطقة القرن الأفريقي، يقدّم صباح يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، إفادات لعدد من المهتمين في "معهد السلام الأمريكي" في واشنطن، عن الوضع في إثيوبيا وسياسة إدارة بايدن تجاهها. وعندما فُتح باب النقاش جاء أول سؤال عن الوضع في... السودان! وبعد ساعات قليلة من انتهاء ذلك اللقاء، أعلنت إثيوبيا حالة الطوارئ والتعبئة العامة ،ودعت مواطنيها إلى حمل السلاح، والدفاع عن مناطقهم في وجه هجمة تحالف "تيغراي" و"أورومو" الذي نجح في السيطرة على بلدتين استراتيجيتين تقعان على بعد 160 ميلاً شمال العاصمة أديس أبابا، مما فتح الطريق أمامهما للضغط المركّز على حكومة آبي أحمد، والتهديد بحصار العاصمة أو اجتياحها.
نظرة واشنطن إلى السودان تتشكل في إطار إقليمي، فتعطي الأولوية لقضايا مثل الاستقرار وعدم فتح المجال أمام تحركات "إرهابية"، أكثر مما تهتم بالتحول الديمقراطي مثلاً. فالسودان يحتل موقعاً استراتيجياً يتأثر بما يحدث في جواره ويؤثر فيه. وها هي إثيوبيا تتداعى في الشرق، وإلى الغرب لا يزال الوضع هشاً في تشاد المجاورة، والقوات الفرنسية التي كانت تنتشر في دول الساحل الأفريقي لمواجهة "بوكو حرام" وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتشددة، وصلت مرحلة الإرهاق، خاصةً بعد سحب الدعم اللوجستي الذي كانت تقدمه واشنطن. ولهذا فآخر ما يريده الغرب في مثل هذه الظروف هو أن يحدث فراغ أمني في السودان، لكنه في الوقت ذاته لا يريد أن يبدو بمظهر من تخلى عن شعاراته في دعم التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، في وجه الحضور القوي للشارع السوداني في المشهد السياسي الداخلي.
ولهذا رسمت واشنطن خطتها عبر فيلتمان باجتراح تسوية تقوم على العودة إلى الوثيقة الدستورية بما تتضمنه من شراكة بين العسكريين والمدنيين، وعدم طغيان طرف على الطرف الآخر.
لكن كان ملفتاً للنظر أن تبدأ التحركات الانقلابية للبرهان بعد ساعات قليلة من مغادرة فيلتمان للخرطوم، الذي أمضى زيارته إليها في نقاشات متصلة مع أطراف الأزمة. وبغض النظر عما إذا كان قد تم الاتفاق فعلاً على خارطة طريق أم لا، واتهام فيلتمان للبرهان بأنه كذب عليه، إلا أنه يبدو أن ثلاثة عوامل ستؤثر في الوضع في السودان: داخلية وإقليمية ودولية.
تتشكّل نظرة واشنطن إلى السودان في إطار إقليمي، وهي تعطي الأولوية لقضايا مثل الاستقرار، وعدم فتح المجال أمام تحركات "إرهابية"، أكثر مما تهتم بالتحول الديمقراطي مثلاً. لذا فهي عملت على اجتراح مقترح لتسوية تقوم على استعادة الوضع كما كان.
جاء رد الفعل الدولي سريعاً عندما أجّل فيلتمان سفره من الدوحة إلى واشنطن لمتابعة التطورات عن قرب. فيما بعد، أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية تجميد مبلغ 700 مليون دولار كانت مخصصة للعون الاقتصادي للسودان، مع إدانة لسيطرة العسكريين على المشهد والمطالبة بعودة الشراكة، وهو الموقف الذي تكرر مع مختلف الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، بل وحتى الأمم المتحدة نفسها وبصيغ مختلفة، ووصل الأمر إلى عقد مجلس الأمن جلسةً خاصة لمناقشة الوضع وإصدار بيان بذلك.
تداعيات إثيوبية
ثم جاءت تطورات الأوضاع في إثيوبيا، والخشية من تبعات ما يجري على القرن الأفريقي كله، بسبب المكانة المحورية التي كانت تحتلها أديس أبابا، الأمر الذي يتطلب ترتيب الوضع في السودان ليكون عاملاً مساعداً في إحداث نوع من الاستقرار في المنطقة. ولهذا، يُتوقع أن تتكثف الجهود الدولية لإنفاذ التسوية المقترحة في جوهرها، وهي الشراكة بين المدنيين والعسكريين، حتى نهاية الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات. مثل هذا الترتيب يفسح هامشاً يمكن أن يسمح للبرهان في الاستمرار مترئساً مجلس السيادة، وربما إيجاد تسوية ما لموضوع التحقيق في فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في حزيران/ يونيو 2019، المتهم فيه الجيش وقوات الدعم السريع، مع استمرار إشراف العسكريين على كامل المنظومة الأمنية... وكل ذلك بأمل تحقيق قدر من الاستقرار الأمني يكون سنداً قادراً على امتصاص تبعات ما يجري في إثيوبيا.
تنفيذ هذا السيناريو يتطلب الحصول على مساندة إقليمية، خاصة من الدول الخليجية ومصر، والوافد الجديد إلى الساحة السودانية . . إسرائيل. القراءة العامة لخطوة البرهان تقوم على أنه ما كان ليقْدم على هذه الخطوة ما لم يكن مستنداً إلى وعود بالدعم الإقليمي، وذلك في وجه المعارضة الداخلية والدولية المتوقعة. واشنطن كانت تتحسب للدور الإقليمي في السودان، حتى إبّان الانتفاضة ضد نظام البشير، حيث تواصلت مع كل من القاهرة وأديس أبابا وقتها، وطلبت منهما المعاونة بصورة إيجابية لترتيب مرحلة ما بعد البشير، كي لا ينتهي الأمر بمصر أن تجد إلى جنوبها ليبيا أخرى، وبإثيوبيا صومالاً آخر في غربها. والاثنان يعانيان من انتشار السلاح وعدم الاستقرار في جوارهما. كما تواصلت مع الدول الخليجية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الوثيقة الدستورية القائمة على الشراكة بين العسكريين والمدنيين. وكان لوجود الشارع السوداني في المشهد الأثر الكبير للوصول إلى هذه النتيجة رغم الفض الدموي للاعتصام.
لضمان وصول الرسالة إلى البرهان، قامت واشنطن بخطوة وقف العون الاقتصادي المباشر، ودفع المؤسسات الدولية إلى إجراءات مماثلة، والتلويح بقائمة عقوبات إضافية، وهو ما قد لا تستطيع الدول الخليجية سد فجوته.
يعاني الانقلاب من ضمور، إن لم نقل غياب القاعدة الشعبية التي يمكن أن يستند إليها، الأمر الذي يجعل، وبصورة تلقائية، من أنصار "نظام الإنقاذ" الذي تزعمه البشير، ومن الجماعات الإسلامية، وبعض القوى التقليدية عموماً، الحاضنة السياسية الجديدة للبرهان.
قام فيلتمان بزيارات عديدة للعواصم الخليجية للتفاهم حول السودان، والوضع في القرن الأفريقي عموماً، خاصةً مع الاهتمام الخليجي المتصاعد بالبحر الأحمر. وتمكنت واشنطن مؤخراً من إصدار بيان رباعي يضمها إلى جانب بريطانيا والسعودية والإمارات، يدعو إلى وقف الإجراءات الناجمة عن الانقلاب واستعادة مؤسسات الفترة الانتقالية، والالتزام بالشركة بين العسكريين والمدنيين حتى نهاية الفترة الانتقالية. ولعب الحضور القوي للشارع السوداني الرافض للانقلاب دوراً في إنجاز هذا الإعلان. ولوحظ غياب مصر عن البيان على الرغم من أنها الأكثر اهتماماً وتأثراً بما يجري في السودان، لكن القاهرة تتبنى بصورة عامة استراتيجية التعامل مع أي نظام في السودان. وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" نشرت أن البرهان قام بزيارة سرية إلى القاهرة قبل الانقلاب لضمان تأييدها. ولا يُستبعد مستقبلاً أن تلعب كلٌّ من بكين وموسكو دوراً لموازاة الضغوط الغربية على البرهان، فيما إذا تمكن من البقاء والعبور بالسودان إلى قدر من الاستقرار.
لكن لضمان إيصال الرسالة إلى البرهان، قامت واشنطن بخطوة وقف العون الاقتصادي المباشر، ودفع المؤسسات الدولية إلى إجراءات مماثلة، والتلويح بقائمة عقوبات إضافية، وهو ما قد لا تستطيع الدول الخليجية سد فجوته. الوضع في السودان لا يشابه ذاك الذي في مصر من حيث وجود الدولة المسيطِرة المتجذِرة، ومؤسسة القوات المسلحة الواحدة التي يمكن التفاهم معها. إذ فيه تعدد حتى في حَمَلة السلاح من الجيش إلى الدعم السريع إلى الحركات المسلحة التي وقّعت اتفاقيات سلام، مما يشير إلى تعدد في مراكز اتخاذ القرار، إضافةً إلى المدنيين طبعاً.
الانقلاب العسكري الأول
وهذا ما ينقل النقاش إلى العامل الثالث المتعلق بالجبهة الداخلية. نظرياً يبدو انقلاب البرهان وكأنه أول انقلاب عسكري صرف ليست وراءه قوةٌ سياسية كما كان الأمر مع الانقلابات الثلاثة الناجحة في أعوام 1958 و 1969 و 1989. ومع أن تهيئة المسرح للانقلاب أسهمت فيها بعض الحركات المسلحة، خاصةً من دارفور، من خلال تبنيها للاعتصام الذي أقيم أمام القصر الجمهوري، وكانت من أبرز مطالبه حل الحكومة، إلا أن هذه الحركات لم تخرج بصورة واضحة مؤيدة للانقلاب، على الرغم من أنه الأقرب إليها على أساس أن الجميع من حَمَلة السلاح. كما أن تاريخ السودان يشير إلى أن كل اتفاقيات السلام التي وُقّعت من قبل كانت مع أنظمة عسكرية.
القراءة العامة لخطوة البرهان تقوم على أنه ما كان ليقْدِم على هذه الخطوة ما لم يكن مستنداً إلى وعود بالدعم الإقليمي، وذلك في وجه المعارضة الداخلية والدولية المتوقعة.
وربما يكون في رد الفعل الدولي السريع والمناوئ للانقلاب دور في تردد الحركات المسلحة في الدعم الواضح للانقلاب، أو أنها تريد الاحتفاظ بخياراتها مفتوحة. لكن النتيجة النهائية أن الانقلاب يعاني من ضمور، إن لم نقل غياب القاعدة الشعبية التي يمكن أن يستند عليها، الأمر الذي يجعل، وبصورة تلقائية، من أنصار "نظام الإنقاذ" الذي تزعمه البشير، ومن الجماعات الإسلامية، وبعض القوى التقليدية عموماً، الحاضنة السياسية الجديدة للبرهان.
قصة "لجان المقاومة السودانية"...
22-05-2020
الشعر والأغنية في انتفاضة السودان: خطاب مجتمعات المقموعين
24-12-2020
على أن الإشكال الرئيسي يواجه "قوى الحرية والتغيير" حول كيفية التعامل مع مبادرات المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الداعية إلى استعادة شراكة العسكريين والمدنيين، وكيفية تسويق أي اتفاق في هذا الإطار إلى قواعدها ولجان المقاومة تحديداً التي ترفع شعار رفض أي شراكة مستقبلية مع العسكريين، ومحاسبتهم على جريمة فض الاعتصام. ثم هناك الجانب الأهم، وهو النقد الموجه من جيل الشباب إلى تحالف "قوى الحرية والتغيير" وأدائها التنفيذي طوال العامين الماضيين، وهي قضية تتجاوز مجرد انتقاد السلبيات إلى غياب كامل للغة مشتركة يمكن استخدامها للحوار بينهما. وهو ما عبّر عن نفسه بغياب أي نشاط سياسي حزبي يُذكر لاستقطاب هؤلاء الشباب للعملية السياسية، خاصةً وجلّهم من الذين فتحوا أعينهم على الدنيا في عهد "الإنقاذ". الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً يشكّلون حوالي 70 في المئة من سكان السودان، وهم يحملون انطباعات سلبية عن الأحزاب، ولهذا كان رأس الرمح في التصدي لـ"نظام الإنقاذ" هو "تجمع المهنيين" ربما لعدم ارتباطه المباشر بالحزبية. يشير هذا الوضع إلى معضلة حقيقية تحتاج إلى جهد فكري وتنظيمي ضخم للتعامل معها بطريقة تجعلها عاملاً إضافياً في عملية التحول الديمقراطي المنشود.