الحياة دون "شهادة الميلاد".. وحكايا الفقر في البلاد

يصيب النصيب الأكبر من التهاون في تسجيل المواليد خانة الإناث. تداخلت الأزمات الاقتصادية، وتركت أثرها على تردي الأفكار الاجتماعية، فكان الحصاد نكران وجود الرضيعة كأولى خطوات وأدها على طريق الحياة الصعبة. ووفق هذه المنظومة التي بدأت بالإنكار، حصد الذكر الفقير بعض مميزات الهامش الشحيح، بينما هي تزحف تحت سطح الهامش.
2021-10-24

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
أسماء فيومي - مصر

التسجيل على بطاقة التموين الشهري، الإفلات من غرامة التهرّب من التعليم، الحصول على معاش الإعانة الاجتماعية... هذه كانت بعض المحفزات والسلوكيات التنظيمية التي ابتكرتها الدولة على مدار عقود طويلة بهدف تشجيع الأسر المصرية على الاهتمام بالإجراءات المنظّمة للحياة المدنية كاستخراج "شهادة الميلاد"، وما يليها من الحصول على التطعيمات الصحية للأطفال ضد الأمراض، والالتحاق بالمدرسة.

وقد شهدت مصر هذه البداية القوية للتنظيم من منتصف الخمسينيات من القرن الفائت، خلال الفترة الناصرية، والاهتمام بتطوير منظومتي الصحة والتعليم، وكذلك مدّ مظلة للدعم الاجتماعي والاقتصادي. غير أن خفوت وتحلل هذه الصحوة، المنحازة للطبقة الأوسع من المصريين بالقرى والنجوع على امتداد البلاد، وتحولها لإجراءات روتينية جامدة، ساهمت في خلق ردة سريعة في سلوكيات مئات القرى حيث أوراق بلا روح، وأرواح بلا ورق.

عاد التهاون في فكرة تسجيل المواليد، وبالطبع جاء النصيب الأكبر من التمييز السلبي في خانة الإناث. تداخلت الأزمات الاقتصادية، وتركت أثرها على تردي الأفكار الاجتماعية، فكان الحصاد نكران لوجود الرضيعة كأولى خطوات وأدها على طريق الحياة الصعبة. ووفق هذه المنظومة التي بدأت بالإنكار، حصد الذكر الفقير بعض مميزات الهامش الشحيح، بينما هي تزحف تحت سطح الهامش.

لا إحصاء رسمي معتمد عبر الجهة الوحيدة المنوط بها ذلك، "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء"، الذي يقوم بعمل مسح سكاني كل عامين. غير أن الباحثين يعتمدون في استطلاعاتهم على توثيق الحالات من خلال الأوراق الثبوتية وحدها، بينما أشارت تقديرات سابقة، بعضها يتبع لجهات رسمية، أن الأعداد قد تتخطى 4 ملايين انسان بلا أوراق ثبوتية.

بمرور السنوات، لم يعد الأمر يقتصر على القرى والنجوع التي كانت تعاني من عدم توافر المواصلات، ومن بُعد المصالح الحكومية المختصة باستخراج الأوراق، وارتفاع التكلفة مقارنةً بالدخول. زادت مساحات أوسع على الحركة خارج خارطة الدولة. نزح مئات الآلاف تباعاً، وتكونت على حدود المدن الكبرى "العشوائيات" حيث لا عناوين ولا هوية. عاشوا لعقود يحاولون تنظيم أنفسهم في البؤر التي ابتلعتهم، ولكن حين ضج بهم الحال ونهشتهم الفوضى، علا صراخهم، ووصل قاعات السلطة التي رغماً عنها كان عليها الدلوف إلى تلك المناطق ومحاولة إعادة تنظيمها. وكان من أهم ما تمت مواجهته من جديد هو "غياب الأوراق الرسمية"!

ومن بعيد، وَفَدَ الآلاف من البلاد التي لفظت أهلها عبر البحر، وتحت وطأة الحرب، وعليه تكونت في مصر وغيرها من دول العالم ظاهرة "أبناء اللاجئين غير المسجلين". مئات من أبناء السوريين والسودانيين وغيرهم، انضموا إلى قائمة الحياة دون أوراق ثبوتية، في ظل متاهة عبثية ما بين أقسام الشرطة ومكتب المفوضية وعقم السفارات التي تتحول مرةً لشرطي، ومرات لموظف جباية. الآلاف من هؤلاء الآن مجبرون على العيش دون تجديد أوراق إقامتهم، وحين يصل مولود جديد يصبح السؤال: "كيف يمكن إثبات وجوده بالحياة؟"

قصص الأوراق والنساء

تحكي والدة الطفلة أميرة والابتسامة الساخرة لا تفارقها، عن الردود العقيمة والحلول الواهية التي تلقتها ثم قالت: "يئسنا". كبرت البنت، والآن تسألني وهي حزينة "لماذا أنا وحدي لا أتمكن من الذهاب للروضة؟! وهل سأبقى في البيت دون مدرسة؟!". عندها بكيت.

أما "قمر" فمأساتها أشد وطأةً، وتحمل رائحة اختلاط زيت السيارات بالتراب، فهي واحدة من الآلاف اللاتي لفظتهنَّ جدران البيوت الفقيرة. وهناك بالشارع عاشت دون أوراق ولا تعرف كيف تستعيدها، تزوجت من شاب له ظروف مشابهة، وكانت النتيجة "طفلاً" يرفضون إلقاءه على الطريق، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون تسجيله. أسرة كاملة خارج الورق. تقول:" لو رميته على باب القسم هايسجلوه مجهول النسب وتطلع له شهادة، بس هو ابني وأبوه وأمه معروفان، إزاي يبقى كأنه مش موجود؟".

لم يعد الأمر يقتصر على القرى والنجوع التي كانت تعاني من عدم توافر المواصلات، ومن بُعد المصالح الحكومية المختصة باستخراج الأوراق، وارتفاع التكلفة مقارنةً بالدخول. زادت مساحات أوسع على الحركة خارج خارطة الدولة. نزح مئات الآلاف تباعاً، وتكونت على حدود المدن الكبرى "العشوائيات"، حيث لا عناوين ولا هوية. وهناك الآلاف ممن وفدوا من بلاد لفظت أهلها تحت وطأة الحروب...

"ماري" ابنة القرية الصعيدية البعيدة، جاءت إلى القاهرة من أجل التكريم في حفل تكريم المتحررات من الأمية، غير إن قصتها لم تعرف التحرر بعد. فهي حبيسة شهادة ميلاد ليست لها. ففي ظل فوضى الأوراق الرسمية حصلت شقيقتها الكبرى عند الزواج على شهادة ميلادها، فهي الوحيدة التي حظت في صغرها بفرصة التسجيل الرسمي. واليوم وعلى الرغم من نجاحها في تعلم القراءة والكتابة، بعد وصولها الخامسة والثلاثين، فهي تدق أبواب المسؤولين من أجل إيجاد مخرج رسمي يسمح لها بالحصول على ورقة ثبوتية تمكّنها من التسجيل ببرامج تعليم الكبار.

ما تعيشه "ماري" ليس قصةً فريدة، ولكنه حال قرًى كاملة تغفل حق تسجيل الفتيات ممن لا يرون مستقبلاً لهنَّ غير الزواج الذي يتم غالباً بعد الحصول على "شهادة تسنين"، أي تقييمٍ طبي للسن، ومن ثم استخراج أوراق ثبوتية بإجراءات شديدة الصعوبة ومرتهنة بموافقة الأب. أو تتم الزيجة بطريقة عرفية متسقة مع تعاليم الشرائع الإسلامية والمسيحية، لكنها غير مسجلة بالدفاتر الرسمية، وهو الأمر الأكثر شيوعاً في المناطق العشوائية. ومن بعد ذلك يأتي "حرمان الإناث من الميراث" كسببٍ آخر للحرمان من حق الحصول على شهادة ميلاد.

تتمنى "فاطمة" أيضاً السفر إلى القاهرة من أجل التكريم، لكنها تعرف كم هذا صعب. حكت عن الشروط المجحفة التي لاقتها حين حاولت بعد بلوغها سن الرشد استخراج شهادة ميلادٍ تعينها على استكمال تعليمها، فهي تعيش وحدها مع والدتها التي لا تعترف بها الجهات الرسمية لإثبات النسب، وتقصره على الأب والأعمام ممن رفضوا المساعدة، فهم يعارضون فكرة التعليم ويتنمّرون على صاحبتها. وتحوّل الحرمان من "شهادة الميلاد" إلى وسيلة للضغط من أجل الرجوع عن هذا الطريق الذي يشجعها على الخروج إلى المدينة.

محاولات التنظيم .. تعقيد مقيم

لا إحصاء رسمي معتمد عبر الجهة الوحيدة المنوط بها ذلك في الدولة، وهي "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء" الذي يقوم بعمل مسح سكاني كل عامين. غير أن الباحثين العاملين به يعتمدون في استطلاعاتهم على توثيق الحالات من خلال الأوراق الثبوتية وحدها، بينما أشارت تقديرات سابقة، بعضها يتبع لجهات رسمية، أن الأعداد قد تتخطى الـ 4 ملايين يعيشون في قرًى وعشوائيات منتشرة بـ 7 محافظات أغلبها في صعيد مصر.

لا تملك السلطة إزاء هذه الأوضاع المفتِّتة لوتيرة الحياة إلا محاولة اختلاق أساليب للتنظيم، غير إن هذا لا يعني بالضرورة نهج طريق ملامحه هي التفهّم والتعاطف والانحياز الذي يمكِّن من التعامل مع جذر المشكلات، وتمكين هؤلاء المهمشين، ومنحهم فرصةً حقيقية للدخول إلى قلب الحياة. "ساقط قيد" هي الورقة الرسمية التي ابتدعها النظام البيروقراطي، والتي يسعى نحوها كل من فاتته فرصة الحصول على شهادة ميلاد، وهم وفق التقديرات يتراوحون بين مئات الآلاف وبين ملايين البشر. غير أن هذه الورقة المرتقبة تحمل في تركيبتها كثيراً من المعوقات، مثل اشتراط تقديم شهادة ميلاد أو هوية رسمية للوالد، أو أيّ من عصبه من أقارب الدرجة الأولى، وكذلك تقديم عنوان سكني ثابت للأسرة، وهي الاشتراطات التي قد تتوفر لبعض سكان القرى والنجوع، ولكنها قد تصبح مستحيلةً في حالة المناطق العشوائية، إضافةً إلى أنها بكل الأحوال، وبشكل خاص حين يتعلق الأمر بالنساء، تبقى مرتهنةً بموافقة الرجال ممن سبق وحرموهم غالباً، وعن قصد، حق التسجيل الأول بالحياة عند الميلاد. لا توافق الأسر بسهولة، ولا تتدخل السلطات للفرض أو الإلزام.

وقد قامت هذه السلطات على سبيل المثال، بسن قانون ينظّم أوضاع مجهولي النسب من بينها طريقة استخراج شهادة ميلاد عند العثور عليهم عقب الولادة مباشرة، ولكنها لم تطرح حلولاً حول ماذا يحدث إذا فاتتهم هم أيضاً تلك الفرصة؟

وقد نشطت المجالس القومية للمرأة والطفل عبر سنوات طويلة في محاولات تقديم أفكار ومبادرات، كما تقدم نواب بالبرلمان بمقترحات للقضاء على ظاهرة الحياة دون أوراق ثبوتية. يحتكم مشروع القانون المقدم للمناقشة إلى "غياب فكرة الإلزامية". فالمادة السادسة من الدستور، تلزم الدولة باستخراج الأوراق الثبوتية، ما يؤكد أن ذلك إلزام دستوري ينظّمه القانون. إلا أن القانون الحالي لا يجرم سقوط القيد، ويحوّل استخراجه بعد سنوات إلى "خدمة" مدفوعة الأجر ، ومن تفوته الفرصة يبقى حاضراً وغائباً في الوقت نفسه، ساقط قيد ميلاد ووفاة.

"ساقط قيد" هي الورقة الرسمية التي ابتدعها النظام البيروقراطي لحل هذه المشكلة. غير أن هذه الورقة المرتقبة تحمل في تركيبتها كثيراً من المعوقات، مثل اشتراط تقديم شهادة ميلاد أو هوية رسمية للوالد، أو أيّ من عصَبه من أقارب الدرجة الأولى، وكذلك تقديم عنوان سكني ثابت للأسرة...

في حادث بغيض شهدته إحدى الأحياء الفقيرة بمحافظة الجيزة، كان العنوان الصعب "أب" يقتل أبناءه الثلاثة، وعند القبض عليه وظهور "الأم"، تستكمل بشاعة الواقع الذي ضمهم. فهي دون أوراق ثبوتية تزوجت مرتين، وأنجبت هؤلاء الأطفال ممن عاشوا هم أيضاً دون أوراق، إلى أن جاء الزوج الثالث، وقرر إنهاء تلك الحياة بسبب الفقر ومساحات الشك غير المثبت على ورق.

وهكذا ما زالت الحياة تمضي بالآلاف ممن يعانون ظروفاً مشابهةً يلطّخها الفقر مهما تعددت تغطياته الكاذبة، من القرية "المحافظة" أو العشوائية "المنحلة".

**

بعض السطور يحمل الموت، وبعضها يمهّد طريقاً للحياة. وفي ظل غياب الحق في خطها على ورق، تتسرب حكايا التيه والقلق والبحث عن فرصة للتنفس فوق سطح الماء. 

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...