السودان: حمى انتقال الرئاسة للمدنيين تفتك بالشراكة الهشة

هناك أزمة مكتومة بين المدنيين والعسكريين، تتعلق بانتقال الرئاسة للمدنيين. والاخيرين فهموا أن ما جرى ليس محاولة انقلاب حقيقية بل جس نبض، أو رفع عصا من قبل العسكر. لكن، وفي الوقت نفسه، فإن الانقلاب الحقيقي بالنسبة لهم هو محاولة المكون العسكري التشبث بتمديد رئاسته للمجلس السيادي، لاعباً على خلافات الحاضنة السياسية المهترئة، أي "الحرية والتغيير"، وهي التحالف الحاكم.
2021-10-03

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
شعار قوى الحرية والتغيير

أزاحت المحاولة الانقلابية الفاشلة في السودان النقاب عن حجم الخلاف بين شركاء الفترة الانتقالية، المدنيين والعسكريين، وتصاعدت الحرب الكلامية بين الطرفين لتبلغ درجة سحب قوات الحماية الخاصة بعضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان، الذي تولى خوض معركة إعلامية مع رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو. وامتدت ردود فعل البرهان إلى سحب قوات التأمين التي تحرس مقار "لجنة تفكيك نظام البشير" التي يرأسها الفكي، وهي أكثر أجهزة الفترة الانتقالية فاعلية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سحب المكون العسكري قوات الحراسة والتأمين من كل المنشآت التي استردتها اللجنة من النظام البائد، قبل أن تعود الشرطة وتنتشر في كافة المواقع. وعلّق المكون العسكري جميع الاجتماعات المشتركة مع المكون المدني.

بدأت الحرب الكلامية في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي أعلن عنها في 21 أيلول/ سبتمبر المنصرم، حينما دوّن الفكي سليمان نداءً عبر صفحته الرسمية في "فيسبوك" موجَهاً للجماهير كي تهب لحماية الثورة من انقلاب عسكري. وعلى الرغم من أن محاولات انقلابية عديدة وقعت بعد سقوط البشير، ولم يتفاعل معها الشارع لعدم صدقية معلوماتها التي تُنشر عبر التسريبات، ولغياب المظاهر العسكرية في الشوارع، إلا إن هذه المحاولة كانت مختلفة.

ابتداءً، أول من تصدى للإعلان عن محاولة الانقلاب هم المدنيون وليس العسكريون، وهو أمر يثير الاستفهامات، وربما يكون مرده إلى الاعتقاد الواسع لدى المدنيين أن هذه المحاولة يتولى أمرها المكون العسكري، الشريك في الحكومة الانتقالية، مع قرب موعد انتقال رئاسة المجلس السيادي من العسكريين للمدنيين في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. والمجلس السيادي هو أعلى سلطة في مؤسسات الفترة الانتقالية.

هناك اعتقاد واسع لدى المدنيين أن المحاولة الانقلابية يتولى أمرها المكون العسكري، الشريك في الحكومة الانتقالية، مع قرب موعد انتقال رئاسة المجلس السيادي من العسكريين للمدنيين في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. والمجلس السيادي هو أعلى سلطة في مؤسسات الفترة الانتقالية.

ويعزز هذا الاعتقاد ردة فعل رئيس مجلس السيادة في خطابه خلال فعالية عسكرية صبيحة إعلان المحاولة، حيث تساءل مستنكراً: "ممن تحمي الجماهير ثورتها، منّا نحن؟!"، في إشارة إلى ما كتبه الفكي، قبل أن يوظف كل مخاطبته لتقريع المدنيين على ضعف أدائهم التنفيذي. وعلى الرغم من تدخل رئيس الوزراء لوقف التراشق الإعلامي بين الطرفين، لكن الفكي ظهر في لقاء تلفزيوني مطول، وكشف جوانب من الاجتماعات المشتركة التي تشير إلى تعطيل المكون العسكري لعدد من الملفات. 

وقبله، اتهم المستشار الاعلامي لرئيس الوزراء، المكون العسكري بافتعال الانفلات الأمني في البلاد لتثبيت أهمية وجوده في سدة الحكم. ولعل المستشار يشير إلى ما حدث في شرق السودان، حيث يقود زعيم قبلي ينتمي الى النظام البائد، احتجاجات عنيفة هناك ضد الحكومة الانتقالية. الزعيم الذي حشد قبيلته وأغلق الطريق الرئيسي الذي يربط الشرق بالعاصمة وأغلق مينائي بورتسودان وسواكن بهدف إحداث شلل اقتصادي، طالب بحل الحكومة المدنية وتشكيل مجلس عسكري، ولم يتردد في القول خلال لقاء تلفزيوني، إنه في حماية المكِّون العسكري. وكان بعض العسكريين قد رفضوا في اجتماعات مشتركة استباق اغلاق الطرقات وقائياً بنشر قوات أمنية عليها، حسبما ذكر عضو مجلس السيادة، محمد الفكي سليمان.

ثم جاء عقب ذلك نائب رئيس المجلس السيادي، محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي كان يتحدث في مناسبة عزاء، ووجه انتقادات شديدة اللهجة للمدنيين، ملوحاً بفض الشراكة، وكان ذلك قبل أن يحشد قواته المتمركزة في أربعة معسكرات رئيسية بالخرطوم ويخاطبها بالخطاب نفسه.

هل ما حدث انقلاب؟

جدل كثيف أعقب إعلان المحاولة الانقلابية، بين مكذّبٍ ومشكّك. ولأنه في الأصل هناك أزمة مكتومة بين المكونين، تتعلق بانتقال الرئاسة للمدنيين، فقد كان مفهوماً بالنسبة لهم أن ما جرى لم يكن إلا جس نبض، أو رفع عصا من قبل المكون العسكري وليست محاولة انقلاب حقيقية. لكن، وفي الوقت نفسه، فإن الانقلاب الحقيقي بالنسبة لهم هو محاولة المكون العسكري التشبث بتمديد رئاسته في المجلس السيادي، لاعباً على خلافات الحاضنة السياسية المهترئة، والتي يدرك العسكريون تماماً أنها لن تتفق أو تتوافق على شخص محدد لرئاسة المجلس السيادي. وفعلياً، فإن المكون المدني - وحاضنته التي عصفت بها الخلافات - لم يكن جاهزاً فيما يبدو لتسلم رئاسة المجلس السيادي. ففي منتصف أيلول/ سبتمبر المنصرم، وقبيل المحاولة الانقلابية بأيام، أبلغت أبرز الكتل المكونة للتحالف الحاكم "الحرية والتغيير" بعض منتسبيها بتحركات المكون العسكري مع قرب موعد تسليم الرئاسة.

اتُهِم المكون العسكري بافتعال الانفلات الأمني في البلاد لتثبيت أهمية وجوده في سدة الحكم، مثلما حدث في شرق السودان، حيث قاد زعيم قبلي ينتمي الى النظام البائد، احتجاجات عنيفة ضد الحكومة الانتقالية، مغلقاً الطريق الرئيسي الذي يربط الشرق بالعاصمة، ومعطلاً مينائي بورتسودان وسواكن لإحداث شلل اقتصادي، مطالباً بحل الحكومة المدنية وتشكيل مجلس عسكري. وقال إنه في حماية المكِّون العسكري.

وخلال هذا التنوير المحدود، تكشّف مدى عدم استعداد المدنيين لتسلم الرئاسة بسبب الخلافات والانقسامات داخل الحاضنة. بالمقابل فإن المكون العسكري لديه سيناريوهات جاهزة لكنه متوجس أيضاً، وغير مطمئن لنوايا المدنيين إذا ما مضى نحو خططه، وفي باله التحقيق المقلق بالنسبة إلى بعض أطرافه الذي يخص مجزرة فض اعتصام القيادة العامة.

خلافات الحاضنة السياسية توفّر لقمة سائغة للعسكريين

بدأت خلافات "الحرية والتغيير" بعد سقوط البشير في نيسان/ أبريل 2019 بفترة وجيزة جداً. والخلافات كانت وقتئذ بين الأحزاب السياسية داخل السودان و"الجبهة الثورية" - تحالف حركات مسلحة - التي كانت خارج السودان طيلة سنوات معارضة البشير. وكانت جميع هذه المكونات قد انضوت في تحالف "الحرية والتغيير" الذي تشكل إبّان الاحتجاجات التي أنهت حكم البشير. ويبدو أن الجميع كان متفقاً فقط على إسقاط البشير دون الاتفاق مسبقاً على كيفية إدارة البلاد بعد البشير. ولم تكن تلك الخلافات ذات طبيعة جوهرية بقدر ما كانت وجهاً من أوجه التنافس بين هذه المكونات للاستحواذ على أكبر عدد من المقاعد داخل جهاز الدولة. وفعلياً كان بالإمكان طي صفحة الخلافات، وتأسيس تحالف صلب قادر على قيادة الانتقال، لكن انقسم التحالف ليصبح مجموعتين، مجموعةٌ تضم الأحزاب وبعض منظمات المجتمع المدني، وهي المجموعة التي تسيطر على الحاضنة السياسية والحكومة، أما المجموعة الأخرى التي تنادي بالإصلاح فتتشكل من حركات مسلحة رئيسية وبعض المجموعات الصغيرة. أما الحزب الشيوعي السوداني فهو خارج المجموعتين، ويتبنى خط إسقاط الحكومة بمكونيها العسكري والمدني.

وعلى الرغم من أن "الجبهة الثورية" حليفٌ تاريخي للأحزاب طيلة سنوات معارضة البشير، إلا إن الخلافات التي طفت على السطح بعد سقوط البشير وضعت هذا الحلف التاريخي في مهب الصراع. ولإن المكون العسكري هو الذي تولى ملف مفاوضات السلام، على الرغم من أن الوثيقة الدستورية منحت هذا الملف لسلطات رئيس الوزراء، فقد أدى ذلك لأن تصبح "الجبهة الثورية" أقرب للعسكريين، وهذا ربما لم يكن متعمداً، لكن طبيعة التحالفات السياسية في تلك المرحلة فرضت هذه المعادلة.

يبدو أن الجميع كان متفقاً فقط على إسقاط البشير دون التوافق مسبقاً على كيفية إدارة البلاد بعد البشير. بدأت خلافات "الحرية والتغيير" بعد سقوط البشير بفترة وجيزة جداً، وكانت وقتئذ بين الأحزاب السياسية داخل السودان و"الجبهة الثورية"، وهي تحالف حركات مسلحة. وكانت وجهاً من أوجه التنافس بين هذه المكونات للاستحواذ على أكبر عدد من المقاعد داخل جهاز الدولة.

انقسم التحالف ليصبح مجموعتين، مجموعةٌ تضم الأحزاب وبعض منظمات المجتمع المدني، وهي المجموعة التي تسيطر على الحاضنة السياسية والحكومة. أما المجموعة الأخرى التي تنادي بالإصلاح فتتشكل من حركات مسلحة رئيسية وبعض المجموعات الصغيرة. وبقي الحزب الشيوعي السوداني خارج المجموعتين، ويتبنى خط إسقاط الحكومة بمكونيها العسكري والمدني. 

خلقت الحرب الإعلامية التي استمرت أربعة أيام في أعقاب المحاولة الانقلابية، اصطفافاً حاداً، عسكرياً/ مدنياً. وفي خضم هذا الجو المشحون، أصدر تكتل داخل الحاضنة السياسية بياناً أعلن فيه تمسكه الكامل بالشراكة مع المكون العسكري، فيما غض الطرف عن الإجراءات التي نفذها رئيس مجلس السيادة ضد العضو المدني، محمد الفكي، وضد لجنة تفكيك نظام البشير. ولأن هذا التكتل الذي ينادي بالإصلاح يقود خطاً مناوئاً للمجموعة المسيطرة على الحاضنة، فقد فُهم مباشرة أنه اصطفاف مع المكون العسكري ومباركةٌ لتحركاته وخطابه ضد الشركاء المدنيين، مما زاد حدة الاستقطاب بين الطرفين. وفعلياً بات الواقع الآن إن "الحرية والتغيير" أصبحت مجموعتين، ولا يُمكن اعتبار هذه المجموعة أو تلك تمثل التحالف دون الأخرى. وتتهم كل مجموعة الأخرى بالاحتماء والانحياز للمكون العسكري. أما المكون العسكري فيبدو أنه يلعب بتذاكٍ مكشوف على هذا التناقض.

هذه الخلافات الطاحنة داخل التحالف الحاكم منحت المكون العسكري فرصة لعب دور سياسي، بدا متقدماً على المدنيين. وعلى الرغم من أن المكون العسكري لا يخلو من خلافات بين الجيش و"قوات الدعم السريع" التي يتزعمها نائب رئيس المجلس، إلا إنه وبحسابات "التكتيك" السياسي، فإن المصير واحدٌ أمامهم، وليس من خيار سوى التحالف وإن كان مرحلياً.

هل تنتقل الرئاسة إلى المدنيين في موعدها؟

نصت الوثيقة الدستورية على فترة انتقالية مدتها 39 شهراً، تبدأ من تاريخ التوقيع في آب/ أغسطس 2019، ويرأس فيها العسكريون المجلس السيادي لمدة 21 شهراً. وبعد التوقيع على اتفاق سلام جوبا في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، تمّ تعديل الوثيقة بحيث تبدأ الفترة الانتقالية من تاريخ التوقيع على اتفاق جوبا، وبهذا يكون موعد انتقال الرئاسة للمدنيين في تموز/ يوليو 2022. وثمة جدلٌ دستوري حول العام الذي سبق اتفاق جوبا، لم تحسمه الوثيقة الدستورية، لكن جُل المدنيين يؤكدون على أن موعد تسليم الرئاسة هو تشرين الثاني/ نوفمبر على أساس أن اتفاقاً تمّ على مناصفة العام الذي سبق اتفاقية جوبا، بحيث تمدد الرئاسة للمكون العسكري ستة أشهر، ومثلها للمكون المدني لحسم الخلاف. وبهذه الحسبة فإن موعد تسليم الرئاسة للمدنيين صار وشيكاً. وبعيداً عن هذا الجدل الدستوري، يبرز سؤال آخر حول من هو الأحق بالرئاسة، بمعنى أي من المجموعتين ستكون هي "الحرية والتغيير"؟

منحت الخلافات الطاحنة داخل التحالف الحاكم المكوِّن العسكري فرصة لعب دور سياسي، بدا متقدماً على المدنيين. والمكون العسكري لا يخلو من خلافات بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، إلا إنه وبحسابات "التكتيك" السياسي، فإن المصير واحدٌ أمامهم، وليس من خيار سوى التحالف وإن كان مرحلياً. وإذا لم تلتئم جراح الحاضنة السياسية بتوافق المجموعتين، فسوف يكون خيار التمديد للمكون العسكري ماثلاً.

بعد اتساع شقة الخلاف بين المجموعتين، من المتوقع أن تعلن المجموعة المناوئة للمجموعة المسيطرة حالياً ميثاقاً لإصلاح التحالف الحاكم، وتدعو البقية للانضمام إليها بدعاوي الإصلاح والهيكلة. والراجح أن المجموعة المسيطرة حالياً ستتمسك بالمقابل بموقفها باعتبارها تملك سلطة الحكومة. وإذا لم تلتئم جراح الحاضنة السياسية بتوافق المجموعتين، فسوف يكون خيار التمديد للمكون العسكري ماثلاً. 

مقالات من السودان

"بوصلة" القاهرة السودانية: جولة أفق

معتز ودنان 2024-09-21

بعد مرور 17 شهراً على اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، كيف يمكن تقييم الدور المصري؟ وهل كان على الحياد المطلق؟ أم أن السودان ليس إلا ساحة مستباحة للقاهرة، لتصفية حساباتها...

للكاتب نفسه