كيف يدار الوضع الراهن من الانهيار المتسارع للبنان على كل الصعد، من قبل السلطات ومعها القوى السياسية المتنوعة المرتبطة بها؟ هذه الادارة بالغة السوء، ومسئولة عن تعظيم الانهيار وتسريع وتائره، والالقاء بالناس في "جهنم" يومية. وأما الانهيار نفسه فسياقه تَشكّل على مدى عقود، وتختلط فيه أسباب موضوعية تتعلق بحدود "وظيفة" لبنان التأسيسية، كما جرت صياغتها، بممارسات النهب والفساد وقلة الكفاءة، وتسييد قيم الشطارة و"الحربقة"، وغياب مفهوم المصلحة العامة الضابط.
وأما "حادثة" انفجار صهريج الوقود في عكار فكان "لا بد" لها أن تقع. والمستغرب أنها لم تقع قبلاً، بينما هناك مئات مخابئ الوقود بأنواعه، بعضها وسط بنايات سكنية وفي أحياء مكتظة.. ومثل هذه الحادثة كان وما زال يمكن أن تصيب محطات وقود يتشاجر فيها المنتظرون، وهم يدخّنون سجائرهم ويرمونها غضباً في الشارع، وبعضهم يحمل سلاحاً.
ولكن من يأبه؟ فإذا كان انفجار نترات الأمونيوم الذي دمر مرفأ بيروت وأجزاء من المدينة، وقتل المئات - وقيل فيه إنه أكبر انفجار غير نووي شهده العالم - قد مرّ مرور الكرام، فسيمر انفجار قرية التليل في عكار بلا أثر. فقط أهالي الضحايا مسحوقون، ومعهم المستشفيات التي نُقل إليها المصابون، يبحثون عن الأدوية والمراهم وحتى لفافات الشاش المعقم.. بلا فائدة، على الرغم من تحرك الناس لإسعافهم بما تحتويه بيوتهم.
لبنان: فصل جديد من رواية انحطاط المافيا
04-06-2021
حتى لا تتحول الجريمة إلى "مناسبة"
05-08-2021
هنا على الأقل، وبسبب طبيعة المكان، أمكن تبيّن هوية المجرمين. "زعماء" صغار، واحد منهم يلوذ بـ"تيار المستقبل" والآخر يلوذ بـ"الوطني الحر"، يعملان يداً بيد لتخزين المازوت المنهوب، وبيعه في السوق السوداء، وتهريبه إلى سوريا القريبة. ومن بديهيات القول إن لا أهمية لضجيج خلافات أحزابهم "السياسية"، وأنه لا أهمية كذلك لمذاهبهم. شبكات المصادرة اللصوصية والتهريب تخترق كل الطوائف والمذاهب والمناطق والأيديولوجيات. فإن كانوا في هذه الحادثة ليسوا من "الشيعة"، على ما درجت عادة الظن والاتهام في مثل هذه الحالات، باعتبار نفوذ حزب الله وحركة أمل وقوة سطوتهما، فهذه "البراءة" بذاتها لا تعني شيئاً. فهذان الأخيران يرتكبان ما هو أفحش من سيناريو ما جرى في قرية التليل، حيث قُتل اكثر من 30 شخصاً وجُرح واحترق ثمانون شخصاً على الأقل، بعضهم يحتضر.
فحزب الله مثلاً يستمر في الإدلاء بتصريحات.. سمجة. ولعل كثرة مداخلاته المتلفزة والفيسبوكية هي من بقايا المزاج "الشعبي" الذي خصه في وقت من الأوقات، وهو لم يدرك بعد أن الأمر مضى وانقضى، وأنه لا أحد – حتى في بيئته المباشرة - يُصدّق حرفاً منها، وأن الأمر، كلَّ الأمر أن "ناسه" يختلط لديهم الميل للاستفادة ما أمكن، بالحاجة للحماية ولو الوهمية، وبقلة الخيارات المتوفرة على أي حال. وربما - وهو جانب خطير – فالمقصود من قبل الحزب هو تعزيز شعور تلك البيئة بأنها مميزة، وأن هناك من يقرر هذا التميّز ويرعاه، بقصد الاستمالة وتوفير "زبائنية القطيع".
لماذا خطير؟ لأنه لو صحت الإشاعات التي تملأ الآذان والعقول، وخصوصاً في مدينة بيروت المنكوبة، من أن الضاحية الجنوبية للمدينة، معقل حزب الله، لا تفتقر للبنزين للسيارات وللمازوت، وأنها تحصل على الكهرباء 24/24 (وفي هذا مبالغة ولا شك وبالتأكيد، ولكنها "الاشاعة"، والقناعة السائدة)، وأن الفرنين الهائلين المتمركزين فيها، واللذين هما المخابز الأساسية في البلد، يوفران الخبز لأهلها، فلا يمضون يومهم في البحث عن ربطة خبز للعائلة (وإنما لا يكلفان خاطرهما بتوزيعه في سائر الأنحاء)، وأن الأحياء في بيروت الغربية نفسها التي تقع تحت سلطة حزب الله أو حركة أمل - وهناك العديد منها - تتدبر تغذية مولدات الحارات الجماعية بالمازوت الشحيح، فلا يعيش أهلها التقنين القاسي المعروف.. لو صح ذلك، ولو جزئياً، وعلى الرغم من معاناة بعض الأحياء في الضاحية الجنوبية من توقف المولدات وشح الكهرباء، الذي يقابله تفاخرهم بانهم "صابرون" بخلاف سواهم! لو استمرت الاشاعات تلك، ومعها وجود حقيقة لها أيضاً، لكنّا أمام عيب كبير - ولكن دعكم من العيب، فالكلمة لم تعد موجودةً في القاموس، ولا المفهوم قائم في النفوس - لكنّا أمام تجسيد لظلال حرب أهلية-مذهبية مكتملة الأركان. وهي ليست حتى اليوم دموية، ولكنها مهيئةٌ في كل لحظة للانقلاب إلى العنف الجماعي والمسلح. ولعل الجماعة يعتدّون بجبروتهم العسكري والتنظيمي، فلا يأبهون لذلك أيضاً. ولكنهم لا يجهلون أن جبروتهم ذاك قد ينطبق على بيروت مثلاً (كما حدث بشكل خاطف في 7 أيار /مايو 2008)، وليس على البلاد بأسرها... وهذه فرضية بشعة وكابوسية، وقد لا تكون قائمةً في عقولهم حين يتصرفون بهكذا خفة واستهتار..
محنة لبنان
03-09-2020
أما قصص تأليف الوزارة وافتراض أنها عنوان الإنقاذ، بينما هي لا تقدّم ولا تؤخّر، فمنسوجةٌ لإلهاء الناس وتسليتهم، وربما لتوفير "الشكل" بحسب الاعراف المحلية والدولية، وربما لتمرير بعض القرارات والاجراءات الصعبة، وهذا اقصى ما يمكن توقعه منها. سوى أن الأمر لم يعد مسلياً لأحد، ولا يهم أو يستنفر أحد. وهذا أيضاً ما لم يدركه "السياسيون"، فيستمرون فيه وكأنهم يعيشون على كوكب أخر، بينما تسحق قراراتهم أو "لا قراراتهم" البلاد السائبة.
حسناً، لا كهرباء ولا وقود ولا دواء ولا خبز. بالكامل والمطلق. فماذا بعد؟ ما هي الفرضيات الممكنة في تفسير ذلك؟
• فطالما أنه لا يمكن للبنان الصغير والمأزوم أن يكون شريان إمداد للمواد الأساسية لسوريا المدمرة، فالتهريب يصبح ممارسة للتشبيك القائم بين مافيات لبنان ومافيات سوريا معاً، وهي هنا كما هناك مافيات سلطوية. الغاية الأولى إذاً هي الاستمرار في تحقيق أرباح خيالية عبر الاحتكار محلياً والتهريب، بغض النظر عن مصائر الناس. وربما فسر ذلك الإحجام عن تنظيم وصول المحروقات العراقية التي مُنحت للبنان بما يشبه الهبة، حيث يبدو أن العائق هو عدم حصول توافق على "الشركات" التي ستتولى المهمة!
• يبدو أن للصراع على السطوة - الذي يسمى "استراتيجيا"، في استخدام مبتذل للتعبير والمفهوم - بين أقطاب دوليين أو اقليميين، دوره الكبير في تنظيم هذه الإدارة البائسة للوضع في لبنان. فهل تنوي إيران مثلاً استخدام "تجفيف" وجود المحروقات في البلد لتوريده إليه تحت غطاء الانسانية والتضامن، متحدية العقوبات الامريكية عليها، وباسطة لنفوذها كما تظن؟ وهل تظن السعودية أن تجاهلها للوضع القائم في لبنان وإحجامها عن مد يد العون إليه سيُترجم كقصاص لحزب الله، أو أنه ضغط سيؤلب الناس عليه، كما دعا الى ذلك بصراحة منذ بضعة أسابيع وزير خارجيتها؟ وأما اسرائيل فسعيدة، تتفرج... حتى الآن، وتزكي النيران حيث يمكنها. وأما العالم فيموج بالازمات الكبرى والمتغيرات "التاريخية"، ولبنان تفصيل يستدعي من البعض كلمة تعاطف أو يُعامل بتجاهل..
• هل من المحتمل أن القائمين على السلطة يحقدون على الناس الذين انتفضوا مرات - آخرها كان في 2019، وعمّ كل لبنان، وقبلها كانت بروفا الزبالة في 2015 – ويسعون، عبر إفقاد البلاد لأساسيات الحياة الأولية، للانتقام منهم؟ تلك الحركة الهائلة التي أنزلت كل "الزعماء" عن عروشهم، وأهانتهم بشتائم مقذعة أحياناً، ورفعت شعار "كلهم يعني كلهم"، وكانت، ما أن يحاول أحدهم استثناء نفسه، تكمل الشعار بـ"وفلان أولهم". وقد عزا رئيس الجمهورية في آخر تصريح له الأوضاع الحالية البائسة إلى وقوع "الحراك المدني" في 2019! يحقدون عليهم، ويريدون سحقهم بالإذلال أو "تطفيشهم" من البلد (فقد قيل لهم سابقاً "يللي مش عاجبو يهاجر"، أليس كذلك؟)
• تجري اليوم "هندسة" الاجتماع اللبناني. التغيير الاجتماعي في سوريا مثلاً (وفي سواها) جرى عبر عقود طويلة، تخللتها انقلابات وترتيبات اقتصادية وسياسية وفكرية أدت إلى صعود فئات اجتماعية واندثار أخرى، وآخر محطاتها ما نتج عن الحرب الأهلية المريعة من تفكيك وتشذيب. وأما في لبنان فتجري تلك الهندسة الاجتماعية بشكل سريع ويوحي بأنه قصدي، ويمثّل الوضع الراهن واحداً من أكثر فصوله كثافة. هناك الكثير مما يمكن أن يقال في وصف آليات تلك الهندسة، ومن بينها بالطبع صعود "الاثرياء الجدد" وحيازتهم على الثروات والنفوذ بكل ميادينه، وهناك الهجرة بأشكالها من البلد، والانكفاء والانطواء الذي تمارسه فئات كثيرة لا تتمكن من المغادرة أو لا ترغب بها، لأنها ما زالت تأمل بأن الوضع الراهن مؤقت، وأنه لا بد أن ينتهي بشكلٍ من الأشكال. وهناك الإفقار والسطو على مدخرات الناس وعلى مداخيلها، وهناك تدمير التعليم والصحة.. وهناك التيئيس والدفع إلى الرضوخ للإذلال المخجل والبهدلة... والتسليم بأي مخارج: سحقٌ لاستيلاد عبيد خائفين مستسلمين! ومفهوم الهندسة الاجتماعية فاشي بامتياز، وإنما تشترك في تطبيقه الليبرالية الجديدة، بعبثها بركائز الاقتصاد، كما بتفكيكها لكافة المفاهيم والبنى في كل الميادين (الليبرالية الجديدة بكل نسخها، بما فيها تلك المافياوية والنهّابة التي تعرفها جيداً بلداننا).
• وبالنسبة للبنان، يعني ذلك أن الفروقات السياسية والفكرية، بما فيها تلك الخاصة بالاقتصاد وكيفية تدبره، لم تعد قائمة. وأننا نعيش في ظل سطوة مجموعة عابرة لتلك الفروقات والتلاوين، متسلطةٍ على البلاد وتفعل بها ما تشاء وفق معيار وحيد هو مصالحها، بالمعنى المباشر وقصير المدى والفج، وليس بمعنى حساب المستقبل أو السعي إلى رضا الناس أو وجود نية لإقناعهم بأي شيء. ولعل ذلك هو ما يفسر الغياب المديد لهذه المجموعة عن الإدلاء بأي تفسير أو تصريح، حتى صارت قراراتها وإجراءاتها "غامضةً"، وصارت هي نفسها، بكل ما تقول وتفعل، كاريكاتورية مبتذلة.
... نحن في ظلام مبين، فلا نعرف مثلاً مصير ما يقال عن تحقيقات لا بد أن تجري في انفجار المرفأ، ولا إن كان سيُزال الدعم عن المحروقات والدواء، أو سيستمر، وبناءً على أي ركائز، ولا مصير الاحتياطي المالي للمصرف المركزي واحتياطيه من الذهب، ولا مصير ودائع الناس النقدية في البنوك. ولا نعرف بالطبع لماذا يرتفع أو ينخفض سعر صرف الدولار في الأسواق الموازية... وباختصار، لا نعرف شيئاً. ولدى الناس شعورٌ عام أنهم بمواجهة "شياطين" يرون فيهم أعداء لهم، فينوون التخلص منهم بأي طريقة، أو سحقهم ثم سحقهم.. وعلى ذلك لا يطمئنون.