سوريا: اقتصاديات المعابر... وآليات التغيير

الكلّ يتاجر مع الكلّ عبر خطوط التماس. فالضرورات تبيح المحظورات وتبرّرها.. مما أنشأ احتكارات قويّة للقادرين وحدهم على القيام بهذه التجارة، خاصّة وأنّ فروقات الأسعار كبيرة وتسمح بتمويل الاحتكارات والميليشيات القابعة على طرفي خطّ التماس، بحيث تفرض التعاون بينها...
2021-06-15

سمير العيطة

اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب


شارك
معبر "باب الهوى" - سوريا.

تبدو آليّة التفاوض السوري ــ السوري تحت رعاية الأمم المتحدة فى جنيف معطّلة اليوم، بعد "انتخابات" تجديد الولاية الرابعة للرئيس السوري الحالي. ويحلّ مكان تلك الآليّة اليوم تفاوضٌ أممي، وسوري ــ سوري فى الخلفيّة، حول تجديد قرار مجلس الأمن 2533 لعام 2020 المتعلق باستخدام معبر "باب الهوى" مع تركيا لمرور مساعدات الأمم المتحدة الإنسانيّة للمناطق التى لا تخضع لسلطة الدولة السوريّة. عرائضٌ من مسئولين فى الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكي تطالب بالاستمرار بهذه الآليّة التى تتعارض مع القانون الدولى وسيادة الدول، والعودة إلى فتح معابر أخرى مع تركيا والعراق والأردن، يقابلها موقفٌ روسي ــ صيني أنّ هذه الآليّة كانت مؤقتة أساساً ولا يُمكن الاستمرار بها. الطرفان يحذّران من الكارثة الإنسانيّة التي تُطْبِق على المواطنين السوريين والمجاعة التى تترقّبهم خلال السنة الجارية.

لا ترتبط قضيّة المعابر الإنسانيّة هذه بسيادة الدول وبشرعيّة السلطة القائمة فحسب. بل ترتبط أيضاً بمُجمل الواقع القائم على الأرض وبالسياسات التى اتبعتها الأطراف الدوليّة تجاه الصراع فى سوريا، إذ تتداخل معها قضايا المعابر الداخليّة عبر خطوط التماس بين الأطراف الثلاثة أو الأربعة التى تتقاسم الهيمنة فى البلاد، وهناك أيضا قضايا الإجراءات الأحاديّة الجانب (العقوبات) التى فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، بل وأكثر من ذلك قضايا شفافيّة آليّات توزيع المساعدات وعدالتها. أضِف إلى ذلك كلّه تداعيات الانهيار الاقتصادى المستمرّ فى لبنان.

واضحٌ لجميع الأطراف أنّ معبر "باب الهوى" الإنساني يجلب ريوعاً اقتصاديّة ل"هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) ويشكّل عنصراً أساسيّاً لاستمراريّتها. فهى لا تفرض فقط رسومها على كلّ ما يمرّ من المعبر نحو المهجّرين داخليّاً، القابعين في إدلب وجوارها، بل رسوماً إضافيّة على ما يذهب بعد ذلك نحو مناطق الفصائل الأخرى، في ما يسمّى مناطق "درع الفرات" و"غصن زيتون"، ثمّ رسوماً أخرى نحو الشمال الشرقي و"الإدارة الذاتيّة". معظم المساعدات التى تعبُر هى مساعدات عينيّة، سلل غذائيّة وغير ذلك، يتمّ توزيعها مجّاناً على الأسر المحتاجة. إلاّ أنّ السلطات التركيّة تفرض غالبا شراء المواد من تركيا، حتّى لو كانت منتجات زراعيّة تُنتَج فى سوريا. وقد أدّى ذلك إلى تطوّر تجارة إعادة تدوير المساعدات بشكلٍ كبير، بحيث يبيع المنتفعون من المساعدات موادّهم بمقابل مالى، ويعيد التجّار تعبئة المواد لتباع فى الأسواق بأسعارٍ بخسة تُحبِط الإنتاج المحليّ وتكبح استدامة المجتمعات وتُفاقٍم بالنتيجة الأوضاع الإنسانيّة.

ليست مناطق الشمال الغربي وحدها هي التى تشهد هذه الظاهرة، بل أيضاً مناطق الشمال الشرقي وخاصّة تلك التي تهيمن عليها السلطة السوريّة وأمراء حربها. فكثيرٌ من المواد "المدعومة" هي أصلً مساعدات أعيد تدويرها. وقد تصل الأمور إلى إعادة بيع مواد المساعدات ذاتها إلى منظّمات الإغاثة لإعادة توزيعها.

•••

معبر "باب الهوى" مع تركيا ليس الأكثر نشاطاً. إذ يتخطّاه بكثير معبر "باب السلامة" قرب أعزاز، إضافةً إلى معابر "الراعي" و"جرابلس" و"جنديرس"، حيث تمرّ الصادرات التركية إلى الشمال الغربي، وبشكلٍ أقلّ الواردات. هذا حيث بقيت قيمة هذه الصادرات التركيّة تماثل تلك التي كانت قائمة قبل الصراع (حسب الإحصاءات الرسميّة التركيّة)، والتي يتمّ إرسال معظمها إلى مناطق الحكومة، عبر معبر "أبو زندين" قرب مدينة "الباب"، وحيث تنتشر فلول تنظيم داعش، أو إلى الشمال الشرقى عبر "منبج" و"جرابلس". كما أنّ معبر "سيمالكا" مع كردستان العراق نشطٌ أيضا، ويتمّ من خلاله استيراد السلع التركيّة والإيرانيّة التى تنتشر فى الأسواق.

يجلب معبر "باب الهوى" الإنساني ريوعاً اقتصاديّة ل"هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً) ويشكّل عنصراً أساسيّاً لاستمراريّتها. فهي لا تفرض فقط رسومها على كلّ ما يمرّ من المعبر نحو المهجّرين داخليّاً، القابعين فى إدلب وجوارها، بل رسوماً إضافيّة على ما يذهب بعد ذلك نحو مناطق الفصائل الأخرى.

إشكاليّات المعابر الحدوديّة، وتلك التي على خطوط التماس مترابطة ومتداخلة. فما الذى يمكن أن تفعله "الإدارة الذاتيّة" بالنفط المستخرج أو بالقمح أو بالخراف التى تنتجها، وتجعلها موارد ماليّة تغطّى النفقات الكبيرة لموظّفيها؟ فالعقوبات تمنع بيع النفط السوري وإجراءات "الإفراط فى الالتزامات" التى ترافقها تمنع العمليات التجاريّة الرسميّة. تهريبٌ عبر الحدود الدوليّة إلى تركيا أو عبر معابر خطوط التماس إلى مناطق الحكومة أو الى مناطق "المعارضة؟. هكذا نجد فى إدلب "النصرة" محطّات وقود تبيع محروقات "كرديّة" (!). ونجد الصادرات السوريّة الرسميّة إلى تركيا ترتفع إلى 200 مليون دولار سنويّاً.

الكلّ يتاجر مع الكلّ عبر خطوط التماس. فالضرورات تبيح المحظورات وتبرّرها.. ما أنشأ احتكارات قويّة للقادرين وحدهم على القيام بهذه التجارة، خاصّة وأنّ فروقات الأسعار كبيرة وتسمح بتمويل الاحتكارات والميليشيات القابعة على طرفى خطّ التماس وبحيث تفرض التعاون بينها. والتجارة عبر خطوط التماس، "المنظّمة" كما معبر "الرقّة"، وأيضاً تلك غير المنظّمة ("التهريب")، مرتبطة مع التجارة الخارجية عبر المعابر الحدوديّة.

غالباً ما تفرض السلطات التركيّة شراء المواد من تركيا، حتّى لو كانت منتجات زراعيّة تُنتَج في سوريا. وقد أدّى ذلك إلى تطوّر تجارة اعادة تدوير المساعدات بشكلٍ كبير، بحيث يبيع المنتفعون من المساعدات موادّهم بمقابل مالي، ويعيد التجّار تعبئة المواد لتباع في الأسواق بأسعارٍ بخسة تُحبِط الإنتاج المحليّ وتكبح استدامة المجتمعات، وتُفاقٍم بالنتيجة الأوضاع الإنسانيّة.

واللافت فى هذا الشأن أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية المتداعية فى لبنان لها آثار كبيرة على الأوضاع الاقتصاديّة والمالية، ليس فقط فى مناطق الحكومة السوريّة بل أيضاً في الشمالين الشرقي والغربي. ذلك أنّ لمرفأ بيروت والقطاع المصرفي اللبناني دوراً رئيساً في الاقتصاد السوريّ. فكلّ هزّةٍ فى بيروت تستشعر بها القامشلي وعامودا، وما يُنذِر بالأسوأ مع الانهيار المستمرّ.

•••

لا يُمكن استمرار المساعدات الإنسانيّة لجميع المناطق السوريّة بالطريقة التي جرت عليها خلال عشر سنوات والتى تتقلّص أصلاً. ولا بدّ من الانتقال إلى المساعدات الماليّة بالعملة الصعبة مباشرةً، بدل المساعدات العينيّة التى لا يُمكن ضبط آليّاتها لمدّة طويلة. كما لا بدّ من الانتقال نحو مساعدات إنعاش اقتصاديّ بدل تلك التى تُحبِط الإنتاج المحليّ.

ولا يُمكن للأطراف الدولية الفاعلة معالجة المعابر الإنسانيّة الخارجيّة دون التوافق على "تنظيم" معابر خطوط التماس، وانطلاقاً من ذلك إعادة النظر جذريّاً بآليّات العقوبات الاقتصاديّة. إذ لا يُمكن الاستمرار في ما يؤدّي إلى تمركز الاقتصاد في احتكارات كبرى ترتبط بميليشيات مسلّحة على جميع الأطراف، ممّا يُرسّخ واقع الانقسام والتشرذم والفوضى. وفعلاً يبدو أنّ الولايات المتحدة كما الاتحاد الأوروبي قد بدآ بمراجعة هذه الآليات.

ليست مناطق الشمال الغربي وحدها هي التي تشهد هذه الظاهرة، بل أيضاً مناطق الشمال الشرقي وخاصّة تلك التي تهيمن عليها السلطة السوريّة وأمراء حربها. فكثيرٌ من المواد "المدعومة" هي أصلاً مساعدات أعيد تدويرها. وقد تصل الأمور إلى إعادة بيع مواد المساعدات ذاتها إلى منظّمات الإغاثة لإعادة توزيعها.

بالطبع، قد تصوّر السلطة القائمة أنّ إغلاق المعابر الإنسانيّة ومراجعة آليّات العقوبات هو "انتصار" لها ولشرعيّة مؤسّسات الدولة. وقد يصوّر آخرون أنّ ذلك "هزيمة" لهم. لكن يبقى التساؤل مشروعاً ومحقّاً عمّا إذا ما كانت "الثورة" أفضل، والقمع أقلّ، لو بقيت السفارات وطواقمها متواجدة في سوريا شاهدة على الأحداث؟ وكذلك التساؤل عمّن استفاد من الإجراءات الأحاديّة الجانب، وهل استمرارها لسنوات أضعف السلطة أم زاد من سيطرتها؟ وعمّا إذا كان شعبٌ أضحى أغلبيّة أبنائه يرزحون تحت خطّ الفقر الأدنى قادراً على مواجهة السلطة أو سلطات الأمر الواقع؟ وعمّا سيحدث إذا ما أدّى التدهور في لبنان إلى ترحيل اللاجئين السوريين هناك إلى بلادهم؟ وعمّا ستعنى واقعيّاً "الهويّة السوريّة" إذا ما ترسّخ تقسيم البلاد عسكريّاً واقتصاديّاً طويلاً؟

لا يُمكن تغيير هيمنة سلطة على الدولة والشعب في سوريا، ولا الانتصار لقضيّة المساواة في المواطنة والحريّات، سوى من خلال كسر الحواجز التي ترسّخت بين مناطق الشرذمة السوريّة، الاقتصاديّة منها، وخاصّة الشرذمة فى الأذهان، ما يمرّ أوّلاً عبر الدفاع عن قوت المواطنين ومعيشتهم.. جميعهم. 

• عن بوابة الشروق المصرية، وباذن منها 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

سوريا وتداعيات غزو العراق

وقع بشار الأسد في الفخّ الذي نصبه الانسحاب الإسرائيليّ من جنوب لبنان في 2000، علماً أنّ انسحاباً سوريّاً تلقائيّاً مدروساً كان يمكن أن يؤمّن استمراراً للنفوذ في لبنان. نفوذٌ جاء...