كوارث القمح السوري: المحصول الذي يستهدفه الجميع!

تعرضت حقول القمح في مناطق إدلب للقذائف بشكل متقصَّد من قبل القوات الحكومية، وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن إشعال حرائق المناطق اﻷخرى في سوريا والعراق، في الوقت الذي ترفض فيه اﻹدارة الذاتية الكردية تسليم الفلاحين أي كميات من القمح إلى المراكز الحكومية أو المساعدة في إطفاء تلك الحرائق.
2019-06-01

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
محمد العامري - الأردن

أكثر من 2500 هكتاراً من القمح المحروق هي الحصيلة اﻷولية للحرائق التي اجتاحت مناطق واسعة من محافظات دير الزور والرقة والحسكة وإدلب السورية في غضون أقل من عشرة أيام، انحصرت عمليات الإطفاء فيها على أساليب بدائية قام بها أصحاب اﻷراضي في ظل ضعف شديد لقطاع اﻹطفاء في تلك المحافظات. وبعدما توقع خبراء محليون ودوليون، ومنظمة الفاو أولهم، ابتعاد شبح كوارث الجوع عن سوريا إثر موسم أمطار لم تشهد له البلاد مثيلاُ منذ عام 1988، وانتظروا عودة المخزون المحلي إلى مستويات عام 2010، أي بحدود 3 مليون طن تكفي لتغذية البلاد والنفاذ من العقوبات الاقتصادية، والتوقف عن استيراد الطحين.. أدّت الحرائق المتتابعة إلى خفض سقف تلك التوقعات. كما يخشى استمرارها بما يجعل العواقب سيئة جداً.

تعددت الحرائق كما تعددت أسبابها

يعطي كل دونم أرض مزروعة بالقمح أو الشعير ما بين 40 الى 50 كيساً زنة كل كيس بحدود 80 الى 90 كيلوغرام صافٍ، وهي لأنواع محلية مطورة في العقود السابقة مثل "شام 1 و2" ، و"حوران 1 و2". وهذه البذار كانت تقدمها الحكومة مجاناً. الكميات المحروقة حتى الآن أتت على قرابة عشرة آلاف طن قمح مرشحة للزيادة .وفي حال توقف الحرائق لن تشكل الخسائر نسبة وازنة من محمل المحصول، إلا أنها سوف تطال آلاف العائلات التي تعتمد في حياتها على هذا الموسم.

تعرّض حقول القمح للحرائق ليس أمراً نادر الوقوع، سواء كنتيجة لأخطاء بشرية أو بشكل مقصود. تعرضت أطراف الحقول التي تسمى بلهجة دير الزور والحسكة "الخِصاب" لاشتعال نيران مفاجئ بسبب سجائر مشتعلة، أو لحرارة الطقس المرتفعة، حيث أعقب الحر الجاف موسم المطر الطويل. إلا أن كمية الحرائق المندلعة وشهادات السكان المتضررين تشير إلى وجود أطراف متسببة بها. فقد أشار بعض السكان إلى دور ل"الإدارة الذاتية" بهدف الضغط على الناس لمنعهم من تسليم محصولها إلى المراكز الحكومية، خاصة أن العشائر العربية - وهي الزارع اﻷساسي لحقول القمح والشعير - أعلنت نيتها ذلك، كما رفضت تسليم المحصول إلى اﻹدارة الذاتية.

هناك من ضمن أسباب هذا الموقف ما يشاع عن فرض قوات "قسد" ("قوات سوريا الديمقراطية") اتاوات على أصحاب الحقول. فبعد الحصاد يفرض على كل شاحنة تنقل القمح ضمن مناطق سيطرة تلك القوات مبالغاً حسب الوزن.

الحرائق اﻷكبر واﻷكثر انتشاراً واتساعاً كانت في ريف الرقة الذي تسيطر عليه "قوات سوريا الديمقراطية" بالكامل. وحسب ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن حرائقاً طالت قرى "أبو قبيع، والحميرة، والصخيرات، والمحمودلي، وتل تمر والأربعين والقاسمية"، في الوقت الذي توقعت فيه مديرية زراعة الرقة أن يكون كامل اﻹنتاج فيها بحدود 700 ألف طن. كذلك شهدت مناطق في الحسكة تقع تحت سيطرة "اﻹدارة الذاتية" الكردية حرائقاً متعددة، علماً أنها المحافظة اﻷولى في إنتاج القمح في سوريا (قرابة 90 في المئة من مجمل المحصول).

وبحسب وكالة "آكي" اﻷيطالية، فافتعال الحرائق هو رسالة للفلاحين من قبل اﻹدارة الذاتية أن "البيع يجب أن يتم لهم حصراً وإلا فإن مصير باقي المحصول سيكون مشابهاً للمحاصيل المحروقة".

فارق السعر بين الحكومي والخاص باﻹدارة الذاتية لعب كذلك دوراً في توجيه الفلاحين لبيع المحصول إلى الدولة التي خصصت أكثر من 400 مليار ل.س لشرائه ا مع تسهيلات بنكية في الدفع والقبض.. وهذا العام قامت الحكومة برفع سعر الكيلو من 175 إلى 185 ل.س وهو ما يفوق السعر العالمي بهدف جذب أكبر كمية قمح تفادياً لتهريب المحصول إلى الدول المجاورة (تركيا بشكل رئيسي)، ومن أجل التخلص من العجز في مادة الطحين المستمرة منذ عدة أعوام. بينما حددته الادارة الذاتية بـ150 ل.س تصبح 110 ل.س. بعد الضريبة/ الاتاوة!

ويبدو أن اﻹدارة الذاتية تنوي شراء محصول الفلاحين ثم بيعه إلى المراكز الحكومية، بالاتفاق مع وسطاء، مستفيدة من فارق السعر.

رفعت الحكومة السورية سعر ما تدفعه مقابل كلغ القمح من 175 إلى 185 ليرة سورية وهو ما يفوق السعر العالمي، وذلك لجذب أكبر كمية منه تفادياً لتهريب المحصول إلى الدول المجاورة، ومن أجل التخلص من العجز في مادة الطحين المستمر منذ عدة أعوام..

حددت الادارة الذاتية سعر كلغ القمح بـ150 ليرة سورية تصبح 110 ليرة سورية بعد الضريبة/ الاتاوة المستقطعة! ويبدو أن نيتها كانت شراء محصول الفلاحين ثم بيعه إلى المراكز الحكومية، بالاتفاق مع وسطاء، مستفيدة من فارق السعر.

الانتشار الواسع للحرائق التي طالت كذلك العراق وأدت في مناطق وسط البلاد إلى خسائر كبيرة، يجعل من تنظيم داعش متهماً رئيسياً في ظل التجارب السابقة معه، سواء في العراق أو سوريا، وخاصة مع سهولة تنفيذ تلك العمليات التي ذكرت وسائل إعلام محلية (معارِضة) نقلاً عن شهود عيان أن أحد أساليبها هو قيام مجهولين يستقلون سيارات أو دراجات نارية بإضرام النار في تلك الحقول في عز النهار.

تبنى التنظيم عدداً من عمليات حرق الحقول في ريف محافظة الحسكة (حيث تسيطر اﻹدارة الذاتية وقوات قسد واﻷسايش على المنطقة) داعياً عناصره لمواصلة عمليات الحرق بحق "المرتدين وعملاء النظام"، حسب ما نقلته مجلة "النبأ" التابعة للتنظيم في إصدارها اﻷخير دون أي إشارة إلى التنظيمات الكردية المنتشرة والمسيطرة على المنطقة (منطقة مركدة تحديداً). ودفع هذا الأمر إلى انتشار دعوات بين صفوف الفلاحين لتشكيل دوريات أهلية مهمتها حماية المحاصيل، حتى إتمام موسم الحصاد، وفقاً لمواقع محلية.

المحصول الذي يستهدفه الجميع

يوفر اﻹنتاج المحلي من القمح أكثر من ثلاثة أرباع حاجة البلاد من هذه المادة الاستراتيجية. والقمح مصدر دخل وحيد لنسبة كبيرة من فلاحي المنطقة الشرقية في سوريا التي لطالما لقُبّت "كاليفورنيا" بما تؤمنه من حاجة البلاد من القمح والقطن والنفط.

وعلى مدار سنوات الحرب السورية، لم تنجُ المحاصيل الزراعية بمختلف أنواعها من الهجمات العسكرية، متحولةً إلى ضحية من ضحايا الحرب، مع الشجر والبشر والبنى التحتية. حتى بذور الخس الحمصي الكثيف اﻷوراق والزعتر البري، تعرضت للنقل إلى الولايات المتحدة بغاية زراعتها هناك (اتصال من الكاتب بإحدى منظمات البذور اﻷميركية)، دون نسيان أن كامل مخزون مركز دراسات المناطق الجافة (إيكاردا) تعرض للسرقة والنقل إلى تركيا واستقبله هناك وزير الزراعة التركي بترحاب شديد، في حين نقلت عينات منه (62 ألف عينة) إلى "قبو العالم" بغاية حفظها كما أكدت وسائل إعلام قبل بضع سنوات.

سبق لـ"التحالف الدولي" أن ارتكب مشهد حرائق مشابه لما جرى الآن، وذلك في العام 2015 عندما قصفت قواته حقول ريف الرقة بحجة "تفجير اﻷلغام التي زرعها تنظيم داعش" في منطقة لم يقترب منها التنظيم!

وزعت شركة مونسانتو اﻷميركية بذاراً "مجانياً" على مزارعي بعض نواحي المنطقة الشرقية، تحت اسم المساعدات الدولية، ليتفاجأ الفلاحون أن اﻷرض التي تُزرع فيها هذه البذار تتصحر في غضون ثلاث سنوات.

سبق لقوات "التحالف الدولي" أن ارتكبت مثل مشهد هذا العام من الحرائق، وذلك في العام 2015 عندما قصفت قواتها حقول ريف الرقة بحجة "تفجير اﻷلغام التي زرعها تنظيم داعش" في منطقة لم يقترب منها التنظيم. حصل اﻷمر ذاته في مناطق عين العرب وريف حلب ودير الزور لمحاصيل غير القمح مثل الشعير والمزروعات اﻷهلية بشهادات أهالي تلك المناطق، دون نسيان تعرض مناطق كثيرة في البلاد إلى الحرائق نتيجة العمليات العسكرية بين قوات الحكومة والمعارضة المسلحة، وآخرها في منطقة إدلب حيث يشير العديد من الفلاحين الى أن قصف الحكومة المكثف يهدف إلى تدمير محاصيلهم من القمح، وأن "النظام أحرق الأراضي المحيطة بمطار أبو الضهور العسكري في إدلب عمداً" ، إضافةً إلى تعرض مناطق من ريف حماة وسلمية إلى حرائق مشابهة في حقول القمح نتيجة هذه العمليات العسكرية.

قذيفة واحدة تحرق آلاف الهكتارات

قذيفة واحدة، قادرة على إشعال النار فوراً في محصول سريع الاشتعال باﻷصل وسط جفاف استعاد سريعاً موقعه بعد موسم أمطار طويل، وفي ظل عدم قدرة فرق الدفاع المدني أو اﻹطفاء على الوصول إلى مختلف المناطق، اﻷمر الذي يجعل من حدوث أي حريق كارثة حقيقة.

أدى النقص في معدات الحصاد نفسها إلى ارتفاع أسعار الجديدة منها إلى حدود خرافية، وهي نادرة الوصول في ظل عقوبات الاستيراد من الخارج، حيث تبلغ كلفة استيراد حصّادة واحدة من مرفأ هامبورغ إلى مرفأ اللاذقية 30 ألف يورو، في حين تبلغ كلفة نقلها من المرفأ إلى مناطق سيطرة اﻹدارة الذاتية المبلغ نفسه تقريباً في ظل تقاضي كل الحواجز على الطرقات مبالغاً كبيرة على أية آلية عابرة تصل إلى قرابة ألفي دولار أميركي لكل حاجز. وبالمثل فإن الحصّادات المستعملة، وهي اﻷخرى أصبحت نادرة، بلغ سعرها بين 8 - 10 مليون ل.س (16- 20 ألف دولار). كل هذا أدى إلى تأخر في بعض عمليات الحصاد التي تمتد من شهر نيسان/ابريل إلى أواخر حزيران/يونيو. يضاف الى النقص في اللآليات نقص في اليد العاملة، مما جعل الموقف أكثر صعوبة للمزارعين في تلك المناطق، خاصة بوجود عمليات عسكرية مثلما في مناطق ريف حلب ومنطقة إدلب، حيث وقعت اشتباكات عنيفة بين جماعات المعارضة المتنافسة، وكذلك بين القوات الحكومية والمعارضة.

إلى أين؟

القمح ليس آخر الواصلين إلى ساحات المعارك بين الفرقاء السوريين ومشغّليهم، فقد سبق لتنظيمات مسلحة أن باعت نتاج محاصيل إدلب وريف حلب من العام 2013 لتجار أتراك (وهذه موثقة جميعها) وتركت مناطق كثيرة (منها مخيمات لاجئين قريبة منها) تتضور جوعاً. يذكر أخيراً أن شركة مونسانتو اﻷميركية سبق لها ووزعت بذاراً "مجانياً" على مزارعي بعض نواحي المنطقة الشرقية تحت اسم المساعدات الدولية، ليتفاجأ الفلاحون أن اﻷرض التي تزرع فيها هذه البذار تتصحر في غضون ثلاث سنوات، وحتى اﻵن لم يحظ وضع هذه اﻷراضي بالاهتمام الكافي لمعرفة تأثير وأسباب تلك "المساعدة المجانية".

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه