نساء السودان: معركة حقوقية وسط صراع سياسي محتدم

تتكرر هنا التجربة نفسها التي خبرناها في بلدان وثورات أخرى: المشاركة النسائية في مواكب واحتجاجات السودان التي انتهت إلى الإطاحة بنظام البشير كانت واسعة ولم تقتصر على الفعل الثانوي، المساند. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن الحضور النسائي في مستويات الحكم الانتقالي جاء متواضعاً. وحتى النسبة الضئيلة التي تم التوافق عليها تحققت بشق الأنفس.
2021-06-05

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
حضور نسائي قوي في مظاهرات السودان

أثار مقطع درامي قصير لممثل سوداني حفيظة المجموعات النسوية التي كانت بدأت للتو تتنفس الصعداء في أعقاب إجازة مجلس الوزراء السوداني لاتفاقية "سيداو" نيسان/أبريل الماضي، مع التحفظ على بعض البنود، والتي تتحفظ عليها أغلب الدول الإسلامية.

المقطع الذي لم يتعدَّ بضع دقائق، جاء متوافقاً مع هوى المعارضين للاتفاقية، إذ مارس الممثل تضليلاً واضحاً استهدف به بعض بنودها، التي حاول المقطع الدرامي إيصال رسالة أنها متعارضةٌ مع الدين الإسلامي والأعراف السودانية، وأنها تحضُّ النساء على الخروج على الحدود الدينية والاجتماعية لمنظومة الأخلاق.

خلال ساعات معدودة، تحولت مواقع التواصل الاجتماعي لمعسكرين، مع وضد، واحتفى على نحو لافت مناهضو الاتفاقية، من الرجال تحديداً، بالمقطع الدرامي، وعلقوا صورة الممثل على ملفاتهم الشخصية. وامتدت المعركة لتفعيل وسم يدعم هذا المقطع الدرامي. بالمقابل يُعتقد على نطاق واسع وسط المجموعات النسوية أن هذا المقطع الذي بُث على قنوات مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن محض تفاعل عفوي بين الدراما وقضايا المجتمع، بقدر ما كان أداةً داعمةً للخط المناوئ للاتفاقية، والذي يتصدره إسلاميون ومناصرون للنظام البائد، وإن كانت هناك مجموعات غير منتمية ترفض الاتفاقية، إلا أن المعركة تحولت من "حقوقية" إلى "سياسية" بامتياز. وقد جرت العادة أن كل المعارك النسوية الحقوقية تتحول بسرعة مذهلة إلى معارك سياسية بين التيارات المتباينة.

قضايا قديمة... معارك متجددة

معركة المقطع الدرامي هي امتداد لمعركة استعرت قبل إعلان مجلس الوزراء إجازته لـ"اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" وحققت فيها الحركة النسوية انتصاراً كاسحاً، موظِفةً في ذلك حملات الدعم والتضامن في مواقع التواصل الاجتماعي التي تحولت في السودان مؤخراً إلى ميدان لحسم كثير من المواقف الرسمية تجاه قضايا محددة.

في آذار/ مارس الماضي، أطلقت فتاة على صفحتها الخاصة بموقع فيسبوك نداء استغاثة يخص صديقتها وجارتها الطفلة سماح (13) عاماً. وهذه قتلها والدها رمياً بالرصاص، وأجبر الأسرة على عدم مقاومة فعله ثم دفنها. سرعان ما نشطت مجموعات نسوية في التقصي والتحقق لتتحول حالة "سماح" إلى قضية رأي عام أجبرت السلطات على اتخاذ الإجراءات القانونية الصحيحة بتحويل مسار البلاغ، وإعادة تشريح جثمان الطفلة الذي أكد مقتلها برصاصات عديدة.

ولولا اندفاع النسويات في مواقع التواصل الاجتماعي الذي شكل ضغطاً حقيقياً على السلطات، لانتهت قضية سماح إلى طيات النسيان مثل كثيرات.

هذا الإنجاز ربما كان بمثابة الحافز لمجموعات نسوية لتسيير موكب هو الأضخم في تاريخ الحركة النسوية. ضم الموكب تيارات من المجموعات النسوية باختلاف مطالبها وأولوياتها، وتلت مجموعات مشاركة فيه مطالب عديدة، ورفعت شعارات ولافتات، واجه بعضها استهجاناً لافت. ولما كان توقيت الموكب بعد حادثة سماح، سيطرت مشكلة العنف المنزلي والأبوي على شعارات الموكب، حيث برزت لافتات عديدة تحمل عبارة "بيوتنا ما أمان" أي "بيوتنا ليست آمنة".

الواقع لا يتعلق بـ"قلة التأهيل"، وهي الحجة المكرَّرة، بل بعدم الإيمان بقدرات النساء، وبالحرص على صون الهيمنة الذكورية التقليدية، وهو ميدان لمعركة مستمرة. وقبيل تشكيل الحكومة الأخيرة، اضطرت مجموعات نسوية إلى تقديم قوائم من النساء لأن أحزابهنَّ وكتلهنَّ لم تفعل ذلك، ولم تلتزم بالنسبة المتفق عليها في الوثيقة الدستورية، والتي نصت على تخصيص 40 في المئة من المقاعد للنساء.

 وقد اعتبر البعض أنها نسفت ما تحقق للحركة النسوية في قضية سماح، لأن الأمر تحول في نظرهم إلى المساس بثوابت المجتمع السوداني، الذي تمثل فيه الأسرة العمود الفقري، نظراً لكونه مجتمعاً يقوم بالأساس على الأسرة التي يحكمها النظام الأبوي.

في خضم هذا الحراك برز السؤال المتجدد: هل حققت "ثورة ديسمبر" للمرأة مطالبها؟

المعلوم والثابت، والذي كان مثار نقاش في الوقت نفسه على الدوام، هو المشاركة النسائية الواسعة في مواكب واحتجاجات السودان التي انتهت إلى الإطاحة بنظام البشير بعد ثلاثين عاماً من الحكم الديكتاتوري. هذه المشاركة الواسعة لم تكن قاصرة على الفعل الثانوي في العمل التنظيمي والثوري، بل كانت في الفعل الأساسي الذي تخطى الدور التقليدي للمرأة. لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن المشاركة في مستويات الحكم الانتقالي جاءت متواضعة، وحتى النسبة الضئيلة التي تم التوافق حولها جاءت بشق الأنفس. ولذلك أسبابه المتمثلة في تقديم الأحزاب والكتل المشكلة للتحالف الحاكم قوائم ذكورية محضة، ذلك بسبب قلة الكادر النسائي أو "نقص التأهيل"، وفقاً للحجة التي طُرحت من قبلهم. 

الواقع لا يتعلق بـ"قلة التأهيل"، وهي الحجة المكرَّرة، بل بعدم الإيمان بقدرات النساء، وبالحرص على صون الهيمنة الذكورية التقليدية، وهو ميدان لمعركة مستمرة. وقبيل تشكيل الحكومة الأخيرة، اضطرت مجموعات نسوية إلى تقديم قوائم من النساء لأن أحزابهنَّ وكتلهنَّ لم تفعل ذلك، ولم تلتزم بالنسبة المتفق عليها في الوثيقة الدستورية، والتي نصت على تخصيص 40 في المئة من المقاعد للنساء.

لماذا؟

كرّست الثلاثون عاماً الماضية في السودان تمييزاً حاداً ضد النساء، إذ أسقطت الحركة الإسلامية الحاكمة أيديولوجيتها على كافة مناحي الحياة الاجتماعية، وابتدع النظام الذي حكم السودان في هذه الفترة قوانين اعتبرها مستقاةً من الشريعة الإسلامية تحولت لأداة قهر للسودانيين عموماً وللنساء على نحو خاص.

وظل ما يعرف بـ "قانون النظام العام"، الذي تنص بعض مواده المستندة على القانون الجنائي، سيفاً مسلطاً لقهر النساء، إذ هو يمنح الحق في معاقبة النساء تحت طائلة "الزي الفاضح"، وهي مادة لا تستند إلى أي معايير، ومتروكةٌ لمزاج رجل الشرطة. ومع التخريب الذي طال الحياة السياسية، تحول القانون إلى سلاح سياسي تستخدمه الحكومة ضد خصومها، علاوةً على أنه بات مادةً لابتزاز النساء داخل حراسات الشرطة، سواء كان ابتزازاً مالياً أو حتى جنسياً.

هذا الواقع المؤسَّس بقوانين تأخذ قدسيتها من رجال دين موالين للنظام، كان له أثر بالغ في تفعيل المقاومة النسائية ضد الإسلام السياسي، وظهر جلياً في "ثورة ديسمبر" التي أزاحت حكم "الإنقاذ" في نيسان/ أبريل 2019، حيث كانت مشاركة النساء الواسعة في الاحتجاجات والمواكب، انتهاءً بالاعتصام المليوني، محور اهتمام الإعلام العالمي والإقليمي. وظلت قضايا النساء خلال فترة الحكم السابق محوراً مهماً في العمل السياسي.

ظل ما يعرف بـ "قانون النظام العام"، الذي تستند بعض مواده على القانون الجنائي، سيفاً مسلطاً على النساء لقهرهن، إذ هو يمنح الحق في معاقبتهنَّ تحت طائلة "الزي الفاضح"، وهي مادة لا تستند إلى أي معايير، ومتروكةٌ لمزاج رجل الشرطة. ومع التخريب الذي طال الحياة السياسية، تحول القانون إلى سلاح سياسي تستخدمه الحكومة ضد خصومها.

انخرط عرّاب الحركة الإسلامية، حسن الترابي، طيلة فترة المعارضة، في طرح فقه تجديدي، كان للمرأة فيه النصيبُ الأوفر، وأصدر فتاوى عديدة تعطي المرأة مساواةً مع الرجل في عدة مناحي، أبرزها شهادتها. وكان أباح إمامة المرأة للصلاة وزواجها من كتابيّ، وأنكر الحجاب. جراء ذلك تعرض الترابي إلى حملات متصلة من التيارات التكفيرية.

الحركة النسوية في السودان ذات تاريخ قوي وعريق. فقد كانت الشيوعية البارزة فاطمة أحمد إبراهيم أول نائبة برلمانية في السودان وربما المنطقة، وخاضت معارك حقوقية ضارية من داخل البرلمان في ستينيات القرن الماضي، وشكلت مع رفيقاتها اللبنة الأولى للحركة النسوية، التي كان لتعليم النساء الذي بدأ عام 1907 أثرٌ فاعل فيها. وبدأت الكيانات والتنظيمات النسوية تتشكل بجانب الحركة الوطنية التحررية قبل الاستقلال، ونشطت كذلك في التنظيمات النقابية، مما كان له الأثر في الحركة السياسية ككل.

لكن الصراعات السياسية والانقسامات الأيديولوجية أثّرت على نحو فاعل في الحركة النسوية ومطالبها. والملاحظ أن قضايا النساء تجد في فترات الاستقرار السياسي والتوافق الوطني التحاماً اجتماعياً واسعاً معها، بعكس فترات الصراع والتناحر السياسي.

حينما تتحول المبادئ إلى بضاعة سياسية

بعد مفاصلة الإسلاميين الشهيرة في العام 1999، والتي قادت إلى نشوء تيارين إسلاميين، أحدهما حاكم بقيادة عمر البشير، بينما كان يقود الآخر عرّاب الحركة الإسلامية، حسن الترابي، الذي تحوّل إلى خانة المعارضة، انخرط هذا الأخير طيلة فترة المعارضة في طرح فقه تجديدي، كان للمرأة فيه النصيبُ الأوفر، وأصدر الرجل المثير للجدل فتاوى عديدة تعطي المرأة مساواةً مع الرجل في عدة مناحي، أبرزها شهادة المرأة. وكان أن أباح إمامة المرأة للصلاة وزواجها من كتابيّ وأنكر الحجاب. جراء ذلك تعرض الترابي إلى حملات متصلة من التيارات التكفيرية.

وطيلة الفترة الماضية التي شهدت صعوداً لقضية المرأة في المشهد العام، لم يكن هناك بالمقابل إصلاحٌ قانوني أو تشريعات تحتضن هذه الإصلاحات، ولم تخرج قضايا المرأة من ساحة التعارك والتنافس السياسي إلا بعد "ثورة ديسمبر". لكن قبيل سقوط البشير، كان قد أعلن عن حوار وطني لكافة القوى السياسية - التي استجاب أغلبها للحوار، وعلى رأسهم "حزب المؤتمر الشعبي" الذي يتزعمه الترابي. وطرح الحزب في الحوار ما عُرف بـ "ورقة الحريات" التي حوت إصلاحات دينية جريئة، أبرزها إلغاء حد الردة، ومنح المرأة حق الزواج بدون ولي. ولأن التناحرات السياسية طاغيةٌ على المشهد، تحولت الورقة الإصلاحية إلى معركة مارست فيها سلطات البشير وجهاز أمنه أساليب شتى، مستغلة أئمة المساجد للتحريض على رفضها، وتكفير دعاتها، وانتهى الأمر برفضها بالجملة.

والغريب اليوم، أن من بين أبرز المناهضين لاتفاقية "سيداو" والحركة التحررية للمرأة بعد الثورة، هم أنصار الترابي الذين أيدوا في وقت سابق ما تتحفظ عليه حكومة السودان حالياً.

ويبدو واضحاً أن التناحرات والتنافسات السياسية قد أضرت كثيراً بالحركة الحقوقية، وأنها غلّبت تحول أفكارها ومطاليبها إلى أوراق تكسب وتخسر بحسب مستوى الأداء السياسي. ولعل الحركة النسوية تتقدم إذا ما حدثت درجةٌ من التوافق السياسي بين مجموعاتها تكون فيه الغلبة للتوافق على المطالب والحقوق. 

مقالات من السودان