كوفيد-19 في اليمن: معركة بدون سلاح

لأن الوضع في اليمن متعدد مستويات الكارثة، يحار المرء في نقطة البدء أو في تعيين قلب المشكلة. والبارز أنها الحرب الدائرة منذ ست سنوات والتي أدت إلى تبعثر السلطات وتقاسمها للنفوذ على الأرض، واصطراعها المعرقل لتوفير الخدمات العامة. ولكن ذلك ليس هو وحده المشكل. فقبل الحرب كانت منظومة الصحة العامة بائسة أصلاً..
2021-05-21

وسام محمد

كاتب من اليمن


شارك
| en
حيدر جبار - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

تخيّم على اليمن، البلد العربي شديد الفقر، أوضاع وسيناريوهات مرعبة، جراء تفشي فيروس كوفيد-19 بين السكان، في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية، واستمرار الصراع المسلح، وسقوط مئات الضحايا كل يوم من دون معرفة ما إذا كان القاتل هو الوباء...

قبل الإعلان الرسمي عن انتشار كوفيد-19 في اليمن، كانت منظمة الصحة العالمية قد قدرت أن نصف السكان، البالغ عددهم 30 مليون نسمة، قد يصابون بالفيروس، ويمكن أن يموت بسبب ذلك، قرابة نصف مليون شخص.

وكان نصيب الصحة من الإنفاق العام يتراوح بين 3 و4 في المئة من الميزانية العامة للبلاد، خلال السنوات الأخيرة من حكم علي عبد الله صالح. وتعاني أغلب المراكز الصحية من نقص في تجهيزاتها وفي مواردها المالية وكوادرها الفنية والطبية، إضافةً إلى محدودية انتشار الخدمات الصحية، وبالأخص في الأرياف.

استجابة ضعيفة

لا يوجد أي ضمانات صحية للناس الذين يصابون بالفيروس، ولو على مستوى الخدمات البسيطة، أو حتى على مستوى كشف الحقيقة وإعلان عدد الضحايا. فهناك فجوة واسعة بين عدد الوفيات فعلياً، وبين عدد من يتم إرجاع سبب وفاتهم إلى الإصابة بالفيروس.

دفع البلد الفقير الواقع جنوب شبه الجزيرة العربية، كلفة باهظة خلال سنوات الحرب التي ابتدأت في منتصف آذار/ مارس 2015. لكن الكلفة الأكبر لا تزال تُدفع اليوم، كما يتضح في فشل معركة مواجهة تفشي كوفيد-19.

وصل عدد المصابين بالوباء حتى 7 نيسان/ أبريل 2021 إلى ما قدر بـ5233 شخصاً، توفي منهم، 1022شخصاً (1)، وتزايدت مؤخراً أعداد الإصابات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الرسمية. لكنه ينتشر أيضاً في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، حيث الكتلة السكانية الأكبر في البلاد، إلا أن السلطة القائمة هناك لا تعلن عن عدد الإصابات والوفيات.

والملفت هو نسبة الوفيات مقارنةً بأعداد المصابين المعلنة. فحتى 23 آب/ أغسطس 2020، بلغ عدد المصابين 1911 حالةً مؤكدة، منها 553 حالة وفاة، ما يعني أن معدل الوفيات يصل إلى حوالى 27 في المئة من الإصابات، أي خمسة أضعاف المتوسط العالمي. فتكون اليمن صاحبة أعلى معدل وفيات على مستوى العالم. يعود هذا التفاوت، بدرجة رئيسية، إلى أن إجراء فحوصات لمن يشتبه بإصابتهم، غالباً ما تتم عندما يكون المرض قد وصل إلى مستوى متقدم. ما يعني أن عدد الإصابات هي أضعاف الأرقام المعلنة. والوفيات، كما يتضح من المقابر، ومن سيل التعازي على شبكات التواصل الاجتماعي، كبير للغاية. لكن بسبب قلة مراكز العزل وضعف الخدمات الصحية وقلة الفحوصات، وأيضاً عدم ثقة الناس بالخدمات الصحية، وترداد الكثير من الشائعات حولها، يفضل معظم الناس مصارعة المرض في المنزل قبل خضوعهم للفحص.

انهيار النظام الصحي وقشة كوفيد-19

عشية الإعلان عن اكتشاف أول حالة إصابة بفيروس كوفيد-19، في 10 نيسان/ أبريل 2020، كان نظام الرعاية الصحية في اليمن قد سبق له أن "انهار فعلياً"، حسب وصف "ينس لايركه"، المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وقد أظهر تقييم "الهيرامز" (2)   أن 2477 مرفقاً صحياً، أو 49 في المئة من إجمالي 5056 مرفقاً صحياً في جميع أنحاء البلاد غير شغّال أو شغّال بشكل جزئي بسبب الأضرار أو النقص في الكادر أو نقص الأدوية والمواد الطبية أو إمكانية الوصول المحدودة إلى المرافق بسبب الأوضاع الأمنية. كما لا تمتلك أغلب المستشفيات في اليمن أنظمة تَخلّص من النفايات الصحية.

حتى 26 نيسان/ أبريل 2021، بلغ إجمالي حالات الإصابة المؤكدة 6183 منها 1205 حالات وفاة، و2630 حالة تعافٍ. والملفت هو نسبة الوفيات مقارنة بأعداد المصابين المعلنة، ما يعني أن معدل الوفيات يصل إلى حوالى 27 في المئة من الإصابات، أي خمسة أضعاف المتوسط العالمي، ولكنه يعني أيضاً أن عدد الإصابات أكبر بكثير من المعلن عنه.

ثلثا المديريات (203 مديريات من أصل 333 مديرية) تعد ضمن الأشد احتياجاً للخدمات الصحية، وهي تتوزع على 22 محافظةً، ويتفاوت مستوى شدة الاحتياج من محافظة إلى أخرى. وترك عدد من موظفي الصحة مراكز عملهم بسبب الخوف من الهجمات على المرافق الصحية. كما تعذّر إيصال الإمدادات الطبية العاجلة للجرحى والمرضى في المستشفيات بسبب نقاط التفتيش التي أقامتها فصائل مسلحة مختلفة.

وغادرت الكوادر الطبية عاليةُ التخصص مثل أخصائيي وحدة العناية المركزة والأطباء النفسيين وأطقم التمريض الأجنبية. وبحسب تصريح ممثل منظمة الصحة العالمية في اليمن، فقد تم إجلاء نحو 95 في المئة من الكوادر الصحـية الأجنبية، منذ بداية الحرب، ما تسبب في تراجع خدمات عدد من المستشفيات، ولا يزال القليل منها يكافح في ظل استمرار نقص الأدوية والإمدادات الصحية الحيوية والانقطاع المتكرّر للكهرباء وشحّ الوقود.

ومنذ أيلول/ سبتمبر 2016، شهدت الميزانية المخصصة للقطاع الصحي انخفاضاً كبيراً، ما ترك المرافق الصحية بدون تمويل لتغطية النفقات التشغيلية، وأيضاً قُطعت رواتب العاملين الصحيين. ولا تزال رواتب العاملين في القطاع الصحي في مناطق سيطرة جماعة الحوثي مقطوعةً إلى اليوم، بينما في مناطق سيطرة الحكومة الرسمية، وعلى الرغم من استمرارها، إلا أنها فقدت قرابة ثلاثة أرباع قيمتها، في ظل انخفاض حاد في قيمة الريال اليمني.

وقد تم إجراء تقييم للاحتياجات الصحية كجزء من عملية النظرة العامة للاحتياجات الإنسانية بناءً على نتائج تقييم "نظام رصد توافر الموارد الصحية" من ضمن خطة "HERAMS" التي قدرت أن 19.7 مليون شخص (من أصل عدد السكان وهو 30 مليون نسمة) بحاجة إلى خدمات الرعاية الصحية، وأن 14 مليون بحاجة ماسة لهذه الخدمات. ويعود ارتفاع الاحتياج للخدمات الصحية خلال سنوات الحرب، إلى تزايد عدد جرحى الحرب، وأيضاً إلى تواجد عدد كبير من التجمعات السكانية النازحة، حيث يوجد 3.34 مليون نازح، ومن ضمنهم أكثر من مليون يعيشون في ظل "ظروف خطرة". كما يوجد 270 ألف لاجئ، وطالب لجوء معظمهم من أبناء القرن الأفريقي (3) .

وهناك انتشار الكثير من الأمراض والأوبئة التي كانت قد انقرضت. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 قالت منظمة الصحة العالمية إنها تلقت من فرق الرصد الميداني في اليمن أكثر من 78 ألف بلاغ عن 28 مرضاً وبائياً فتاكاً مثل "الكوليرا وحمى الضنك والنزفية الفيروسية والحصبة والسعال الديكي وشلل الأطفال"(4) . وهناك سوء التغذية، حيث يعاني ما يقارب من 15.9 مليون شخص (53 بالمئة من إجمالي عدد السكان) من انعدام الأمن الغذائي الحاد رغم المساعدات الإنسانية القائمة. ويساهم سوء التغذية في انخفاض مستويات المناعة.

ثلثا المديريات (203 مديريات من أصل 333 مديرية) تعد ضمن الأشد احتياجاً للخدمات الصحية، وهي تتوزع على 22 محافظة. لا يوجد أطباء في 18 في المئة من المديريات في جميع أنحاء البلد، ولم يستلم غالبية موظفي قطاع الصحة مرتباتهم خلال السنتين الماضيتين.

كثير من العيادات والمستشفيات أصبحت ترفض استقبال المرضى، خصوصاً أولئك الذين يعانون من أعراض تتشابه مع أعراض كوفيد-19. وقد بررت بعض المستشفيات ذلك بافتقار الموظفين والأطباء للمعدات الوقائية. ووصل الأمر أن أغلقت بعض المستشفيات أبوابها لأيام، بعد إصابة بعض كوادرها الصحية بالفيروس، وهو ما حدث مثلاً مع مستشفى الروضة الخاص في مدينة تعز. كما أن الناس أصبحت ترفض الذهاب إلى المستشفيات خوفاً من التقاط العدوى (5) .

أما الأطباء في المستشفيات التي فتحت مراكز مخصصة لعلاج المصابين بكوفيد-19، فقد ظل الأمر بالنسبة لهم يتراوح ما بين الرغبة في خوض المعركة بروح قتالية، وبين قلقهم في ظل عدم وجود معدات وقائية كافية والخوف من نقل الفيروس إلى أهاليهم.

ويعاني اليمن بشكل عام من محدودية عدد العمالة الصحية الماهرة. علاوةً على أن البلاد تعمل بنصف طاقتها من المشافي والمراكز الصحية، فلا يوجد في اليمن ما يكفي من العاملين الصحيين المؤهلين. 53 في المئة من المرافق التشغيلية ليس لديها أطباء مقيمين، و45 في المئة يفتقرون إلى المتخصصين. وهناك ما يقدر بعامل صحي واحد لكل ألف شخص في اليمن.

لا يتواجد الأطباء في 18 في المئة من المديريات في جميع أنحاء البلد، ولم يستلم غالبية موظفي قطاع الصحة مرتباتهم خلال السنتين الماضيتين. هذا بالإضافة إلى العدد - غير الكافي أصلاً - من الممرضين والقابلات الذين يعانون من مستوى تعليم ضعيف، وغير القادرين على سد العجز في الموارد البشرية للقطاع الصحي (6)  .

أدى ذلك كله إلى وفاة عشرات الأطباء اليمنيين، ووصل عدد المتوفين في القطاع الصحي، جراء إصابتهم بـ كوفيد-19 إلى 84 طبيباً وعاملاً صحياً منذ بدء انتشار الجائحة، وفقاً لبيان صادر عن نقابة الأطباء والصيادلة اليمنيين في 7 نيسان/ أبريل2021 . نحو 50 من هؤلاء الأطباء كانوا قد توفوا خلال الموجة الأولى من كورونا (كوفيد-19)، التي امتدت من نيسان/ أبريل، وحتى أيلول/ سبتمبر من العام 2020. وكما لم يستفد اليمن من تأخر وصول الفيروس لنحو ثلاثة أشهر، فهو لم يستفد من مرور عام كامل، ولو على مستوى توفير أدوات الوقاية والحماية للأطباء والعاملين في القطاع الصحي الذين يمثلون حائط الصد الأول.

فشل مبكر

أُعلن عن "خطة التأهب والاستجابة الوطنية COVID-19" في العاشر من نيسان/ أبريل 2020، بالتزامن مع الإعلان عن أول إصابة بكوفيد-19 في اليمن. وكما هو موضح في تعريف هذه الخطة، فهي "وثيقة استراتيجية أعدتها كل من السلطات اليمنية في صنعاء وعدن بدعم من منظمة الصحة العالمية، ووكالات الأمم المتحدة الأخرى والصناديق والبرامج والشركاء العاملين في اليمن بمساهمة من الجهات المانحة". شملت الوثيقة، "الطلبات والاحتياجات والقدرات والإجراءات التي تم تحديدها من قبل السلطات في صنعاء وعدن" وهدفت إلى "ضمان قدرة اليمن على اكتشاف وفحص وعزل ومعالجة أي شخص معرض للإصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)".

تعمل المشافي والمراكز الصحية بنصف طاقتها، ولا يوجد ما يكفي من العاملين الصحيين المؤهلين. 53 في المئة من المرافق التشغيلية ليس لديها أطباء مقيمين، و45 في المئة يفتقرون إلى المتخصصين. 

قدمت الوثيقة ثمانية محاور أساسية للخطة الوطنية، وقالت إنها استندت على منهجية منظمة الصحة العالمية. وهذه المحاور هي: التنسيق والتخطيط والرصد على المستوى القطري، الإبلاغ عن المخاطر وإشراك المجتمع، فرق الترصد والاستجابة السريعة والتحقق من الحالات، نقاط الدخول، المختبرات الوطنية، التحكم والوقاية من العدوى (IPC)، إدارة الحالات، الدعم التشغيلي واللوجستي.

جاءت هذه الخطة في إطار مساعٍ أممية، بذلت من أجل التوصل إلى هدنة بين جماعة الحوثي من جهة، وبين الحكومة الرسمية و"التحالف العربي" من جهة أخرى. لكن هذه المساعي لم تنجح. وكما فشلت الهدنة، فشلت مساعي توحيد القطاع الصحي ومعها تنسيق الإجراءات بين صنعاء وعدن لمواجهة كورونا. وهكذا أصبح على كل طرف أن يتدبر أمره في المناطق التي يسيطر عليها: الحكومة الرسمية في عدن والجنوب ومحافظتي تعز ومأرب، والحوثي في صنعاء وباقي محافظات الشمال الواقعة تحت سيطرته.

أزمات وقتال وأوبئة على خارطة اليمن

حتى أواخر أيار/ مايو 2020، وفي ذروة الوباء، كان هناك مركزٌ واحد في العاصمة المؤقتة عدن، مخصص لعلاج مرضى كوفيد-19، بينما كان عدد المتوفين كل يوم بالعشرات. وهو المركز الوحيد في جنوب اليمن بكامله الذي يضم، إلى جانب عدن، ست محافظات. أقيم المركز في "مستشفى الأمل"، بدعم من منظمة "أطباء بلا حدود"، بينما أغلقت معظم المستشفيات الخاصة والعامة أبوابها أمام المرضى الذين يعانون من أعراض الوباء. ومن 30 نيسان/ أبريل، إلى 17 أيار/ مايو 2020 استقبل هذا المركز 173 مريضاً، مات منهم 68 شخصاً معظمهم من الذكور، وأعمارهم ما بين 40 و 60 عاماً.

أما في في محافظة حضرموت، فقد ظل مؤشر عدد الإصابات يتصاعد خلال الموجة الأولى، الأمر الذي دفع السلطة المحلية إلى تجهيز "مستشفى الحياة العام"، كمركز عزل بتمويل ذاتي. اشتمل المركز على غرف العناية وأسرة للرقود وتوفير 6 أجهزة أشعة، و10 أجهزة مختبر.

وبالنسبة لمحافظة تعز، ولمواجهة الوباء في المناطق التي ظلت تحت سيطرة الحكومة الرسمية، فقد أنشئ مركز عزل وحيد في "المستشفى الجمهوري"، بالاعتماد على الإمكانيات الذاتية ودعم المنظمات. وتعز هي المحافظة اليمنية الأكثر سكاناً (4 ملايين نسمة)، وجزءٌ منها لا يزال تحت سيطرة الحوثيين. وجود مركز واحد في داخل مدينة تعز خلال الموجة الأولى من الوباء، لم يساعد كثيراً من عانوا من أعراض كوفيد-19 للحصول على الخدمات الصحية، بالذات منهم القاطنون في الأرياف. وكونه المركز الوحيد فقد ظل مزدحماً على الدوام، وفي حالة سيئة. وسجل في الموجة الأولى من انتشار كوفيد-19، إصابة ما يزيد عن 25 شخصاً من أفراد الطواقم الطبية.

أما محافظة مأرب حيث ظل القتال متواصلاً، فقد تم تسجيل أول حالة إصابة في 6 أيار/ مايو 2020، وظلت الإجراءات التي اتخذت لمواجهة الوباء متواضعةً. مستشفيات مأرب كانت لا تزال تواجه صعوبة في تقديم الرعاية الصحية لجرحى الحرب ومصابي الأمراض المزمنة. اتخذت السلطات في مأرب عدداً من الإجراءات الاحترازية، وعلقت الأنشطة العامة، وفرضت حظر تجوال ليلي. لكن الخطر ظل أكبر من القدرة على محاصرته. ففي مأرب يوجد 134 مخيماً للنازحين من سائر اليمن بسبب الحرب، إضافةً إلى المهاجرين الأفارقة الذين يأتون إليها للعبور نحو دول الخليج، ولكنهم يعلقون في اليمن. وكانت مفوضية اللاجئين قد حذرت من أن هؤلاء هم "الأكثر عرضةً للخطر جراء فيروس كورونا".

الإنكار الحوثي

قبل الإعلان عن أول إصابة، كانت جماعة الحوثي قد لجأت لنشر عدد من الشائعات، في محاولة لاستثمار الفيروس في الدعاية العسكرية. فقد اتهمت "التحالف العربي" بأنه ينشر الفيروس من خلال طائراته، واتهمت العاملين في المجال الإنساني بنشر الفيروس. وفرضت قيوداً صارمة على العمليات الإنسانية وعلى موظفيها.

هذا لم يمنع المرض من الانتشار في صنعاء، وأصبح الناس يموتون بأعداد كبيرة دون الذهاب إلى المستشفيات. أنشأ رجال أعمال مقابر على حسابهم، وارتفعت أسعار غرف العناية المركزة في المستشفيات الخاصة، ولم يعد دخول المستشفيات متاحاً إلا للأثرياء.

أرجعت بيانات المنظمات الصحية والعاملة في المجال الإنساني أسباب الخلل إلى "انعدام الأمن والاعتداءات المستمرة على المنشآت والكوادر الطبية، والحظر الجوي والبحري، إضافة إلى التداعيات الاقتصادية التي أدت لشح المشتقات النفطية وانقطاع الكهرباء".

لكن السلطات في صنعاء استمرت بإخفاء الحقائق وإنكار وجود الفيروس، مهددةً الأطباء والمستشفيات والصحافيين الذين يقولون غير ذلك. كما قام الحوثيون بأخذ المشتبه بإصابتهم بكوفيد-19، بقوة السلاح، ولم يسمحوا لأهاليهم بمرافقتهم خلال فترة المرض، كما لم يسمحوا لأسر المتوفين بالمشاركة في مراسم الدفن، علاوة على التحفظ على أماكن القبور وحجبها عن أسرهم. وقد ولّد الوضع الذي فرضه الحوثيون، شائعات بأن المرضى يُقتلون في المستشفيات، من خلال حقنهم بحقنة أطلق عليها محلياً "إبرة الرحمة"، مما دفع العديد من المرضى إلى العزوف عن طلب الرعاية الصحية في المستشفيات.

مع ذلك، ظل هناك هامش صغير لحصول مرضى كوفيد-19 على خدمات الرعاية الصحية في صنعاء ومناطق شمال اليمن. حيث خصصت السلطات في صنعاء "مستشفى الكويت" لاستقبال المصابين والحالات المشتبه بإصابتها، لكن على نحو غير معلن، وضمن إجراءات مشددة شملت الأطباء الذين منعوا من العودة لمنازلهم طوال أسابيع. وقالت منظمة "أطباء بلا حدود"، في منتصف تموز/ يوليو 2020، إنها بدأت في دعم مركز جديد لعلاج كوفيد-19 في "مستشفى الشيخ زايد" في صنعاء.

وظلت "منظمة أطباء بلا حدود" تستقبل المرضى الذين يعانون من أعراض كوفيد-19 في مختلف المرافق الصحية التي تديرها وتدعمها في مناطق سيطرة جماعة الحوثي في محافظات الحُديدة وخمر وحيدان وإب وحجة وتعز.. لكن دون أن تعلن عن عدد المصابين والوفيات.

تحسن بسيط ثم موجة أشد ضراوة

تحسن الوضع قليلاً من حيث عدد المراكز المخصصة لعلاج مرضى كوفيد-19، التي وصل إلى 24 مركزاً (7) وجميعها في مناطق سيطرة الحكومة الرسمية. وتتوزع مراكز العزل على 13 محافظة يمنية خارج نطاق سيطرة جماعة الحوثي.

لكن الموجة الثانية من كوفيد-19 تبدو أشد ضراوةً، والمراكز التي خصصت للمصابين في مناطق الحكومة الرسمية لا تكاد تكفي لتقديم خدماتها لـ 5 في المئة من السكان.

يوجد في المحافظات الجنوبية، وهي خارج سيطرة جماعة الحوثي بشكل كامل، 16 مركز عزل، 3 منها في العاصمة المؤقتة عدن، وفي محافظة لحج مركزان، وفي محافظة الضالع مركز عزل واحد، وكذلك في محافظة أبين، وفي محافظة شبوة يوجد مركزان، أما في محافظة حضرموت فيوجد خمسة مراكز، وفي محافظة المهرة أقصى جنوب شرق اليمن يوجد مركز عزل واحد، كذلك في محافظة جزيرة سقطرى الواقعة في المحيط الهندي.

وتتوزع باقي المراكز في محافظات اليمن الشمالية التي تقع بعض أجزائها خارج سيطرة الجماعة الحوثية. يوجد في محافظة مأرب 3 مراكز، وفي محافظة تعز، المقسمة بين سلطات متعددة، أصبح هناك ثلاثة مراكز أيضاً، وفي مناطق محافظتي البيضاء والحُديدة الواقعة تحت سيطرة الحكومة يوجد مركز عزل في كل منها.

وصل عدد المتوفين في القطاع الصحي، جراء إصابتهم بـ كوفيد-19، إلى 84 طبيباً وعاملاً صحياً منذ بدء انتشار الجائحة، وفقاً لبيان صادر عن نقابة الأطباء والصيادلة اليمنيين في 7 نيسان/ أبريل2021. نحو 50 من هؤلاء كانوا قد توفوا خلال الموجة الأولى من كورونا (كوفيد-19)، التي امتدت من نيسان/ أبريل، وحتى أيلول/ سبتمبر من العام 2020.

لكن الملاحظ أن معظم هذه المراكز موجودة في المدن الرئيسية أو الفرعية، بينما ثلاثة أرباع سكان اليمن لا يزالون يعيشون في الأرياف حيث لا توجد أبسط الخدمات. كما أن الوصول للخدمات الصحية في ظل التشتت السكاني أصبح أكثر صعوبة. ففي اليمن ما يزيد عن 130 ألف تجمع سكاني، الأمر الذي يعيق إمكانية إيجاد بنية خدمية لجميع السكان. وقد ازداد الأمر تعقيداً في ظل الحرب التي جعلت التنقل الداخلي صعباً. لهذا باتت كثير من المناطق الريفية تعاني من انتشار الوباء مع انعدام شبه كامل لأبسط الخدمات الصحية.

وحتى مع إمكانية الوصول إلى مراكز العزل في المدن، يبقى أن تجهيزات هذه المراكز بسيطة، وأسرة العناية المركزة وأسرة الرقود فيها ممتلئةٌ دائماً. كما أن معظم هذه المراكز تواجه صعوبات في تأمين الأوكسجين الكافي بسبب قلة عدد المصانع، وأيضاً غياب الرؤية والتنسيق بين المؤسسات الصحية. وقد انتشرت ظاهرة شراء الأوكسجين من قبل أهالي المصابين لتزويد المرضى به في المنازل. بالطبع كان الوضع سيصبح أكثر سوءاً لولا أن معظم هذه المراكز التي تقدم خدمات صحية لمرضى كوفيد-19، تدار بشكل مباشر من منظمات الصليب الأحمر و"منظمة أطباء بلا حدود". والبقية معتمدة بدرجة رئيسية على مساعدات المنظمات الدولية وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية.

الإحصائيات كمؤشر

حتى 26 نيسان/ أبريل 2021، بلغ إجمالي حالات الإصابة المؤكدة 6183 منها 1205 حالات وفاة، و2630 حالة تعافٍ (8) . هذه الإحصائيات تتعلق بالمحافظات والمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة الرسمية، المعترف بها دولياً، كون جماعة الحوثي المسيطرة على شمال اليمن لم تعلن سوى عن أربع إصابات منذ بدء تفشي الوباء. ولكن حتى إحصائيات عدد المصابين بفيروس كوفيد-19 في مناطق سيطرة الحكومة الرسمية ليست دقيقة، كونها تعتمد على إحصائيات مراكز العزل فقط. بينما أعداد الوفيات أضعاف الأرقام المعلنة.

لهذا أصبحت المقابر ووسائل التواصل الاجتماعي هي المؤشر الحقيقي لقياس مدى انتشار الوباء. وقد تضاعفت عدد الجنائز اليومية في المقابر بنسبة عشرة أضعاف، ويبلغ عدد التعازي على موقع فيسبوك في المتوسط 7 من بين كل عشرة منشورات تظهر على الصفحة العامة. 

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

[1] - بحسب آخر إحصائيات "لجنة الطوارئ العليا لمكافحة وباء كورونا في اليمن" التي أنشأتها الحكومة الرسمية
https://www.facebook.com/YSNECCOVID/.
[2] - خطة التأهب والاستجابة الوطنية COVID-19. وثيقة استراتيجية أعدتها كل من السلطات اليمنية في صنعاء وعدن بدعم من منظمة الصحة العالمية، ووكالات الأمم المتحدة الأخرى والصناديق والبرامج والشركاء العاملين في اليمن، بمساهمة من الجهات المانحة. صدرت في 10 نيسان/ ابريل 2020.
[3] - تداعيات كورونا في اليمن.. حرب فوق الحرب) ورقة بحثية نشرت على موقع مركز أبعاد للدراسات والبحوث. بتاريخ 2020-04-20. https://abaadstudies.org/news-59836.html
[4] - "جيش اليمن الأبيض بلا سلاح لحماية نفسه"... تقرير صحافي نشر على منصة "فري ميديا". https://bit.ly/33NLwuz
[5] -"كوفيد-19 قضى على ما تبقى من النظام الصحي في اليمن"، تقرير نشر على موقع "أطباء بلا حدود" بتاريخ 10 حزيران /يونيو 2020. https://www.msf.org/ar
[6] - HEALTH WORKFORCE REQUIREMENTS FOR UNIVERSAL HEALTH COVERAGE AND THE SUSTAINABLE DEVELOPMENT GOALS
[7] مصدر رسمي في وزارة الصحة اليمنية تحدث لـ"السفير العربي".
[8] بحسب ما أعلنته اللجنة الوطنية العليا لمواجهة وباء كورونا في اليمن على حسابها في تويتر. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه