البابا فرنسيس في العراق: وداعة وانفتاح.. ولو للحظة!

برنامج زيارة البابا منفتح على تنوع العراق المذهل، ومعه كل منطقتنا. وهو يعاكس رأسياً ما يسود من أجواء التعصب والاحتراب الموسع، هنا وعلى البسيطة.
2021-03-04

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
الصلاة في كنيسة سيدة النجاة في بغداد بعد أسبوع من الهجوم عليها، وقد وضعت أسماء الضحايا في الوسط.

هذا حبر أعظم مميز فعلاً! نقولها نحن الذين لا نأبه بالسلطات الدينية، إن لم نكن نشك دائماً بنواياها وتصرفاتها. كل السلطات الدينية! ليس لأسباب فكرية أو إيديولوجية، فهذا يبقى في دائرة النقاش الفلسفي، بل لأنها تنتمي - في أغلبها الأعم - الى الأنظمة المهيمنة، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، وتدافع عنها وتبرر كل موبقاتها، بل وتشترك في أفعالها. وليس للأمر علاقة بالدين - أو بالأصح بالإيمان - من عدمه. فمن يصادر النطق باسم الله لا يصبح ممثلاً له كما يدّعي. وأحد الأدلة على ذلك أنه يمكن أن نُكرر قدر ما نشاء قول السيد المسيح بأن "دخول الجمل في ثَقْب الإبرة أيسرُ من دخول الغنيُّ ملكوت الله" (ورد في أناجيل متى ومرقص ولوقا).. فيجتهد الناطقون باسم المؤسسة الدينية في تأويل القول تخفيفاً، ثم ينتهون – طبعاً – الى ان الله قادر على كل شيء، مطمئنين القوم الممنوعين! ويمكن أن نكرر قدر ما نشاء "عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"، سواء نُسبتْ لعلي أو لأبي ذر (وغيرها الكثير من الآيات والأحاديث).. التي، حين تَرِد – وروداً على مضض - يعاد "تدويرها" بحيث تفقد معناها وقوتها.. وفِعلها.

هذا البابا قرر أن يحقق الزيارة التي مضى على الوعد بها سنوات طويلة، وكان سلفه يوحنا بولس الثاني ينوي القيام بها في العام 2000، فلم تُمكّنه من ذلك السلطات العراقية يومها. يتجه البابا فرنسيس الى العراق المكلوم والمثخن بالجراح، في زيارة تستمر 4 أيام (من 5 الى 8 آذار/مارس)، فيقيم عند وصوله الى أرض الرافدين قداساً في كنيسة "سيدة النجاة" في حي الكرادة من بغداد، حيث ارتكب "تنظيم القاعدة" مجزرة مريعة في 31 تشرين الاول/اكتوبر 2010، ذهب ضحيتها 44 مصلياً وعدة رهبان. ثم يتجه الى النجف حيث سيلتقي المرجع الديني الشيعي السيد علي السيستاني الذي يستقبله في بيته الشخصي، ثم الى آور في محافظة ذي قار (وعاصمتها "الحديثة" مدينة الناصرية الثائرة دوماً)، حيث "الزقورة" التاريخية (وهو المعبد الأشهر ويعود بناؤه الى العهد البرونزي، 2050 ق.م). وأور مدينة النبي إبراهيم، أبو التوحيد، فيقيم البابا هناك قداساً يحضره المسلمون وأيضاً أبناء طائفتي الصابئة المندائية، (أتباع النبي ابراهيم، الألف الثالث قبل الميلاد) والإيزيدية، والطائفتان توحيديتان سحيقتان في القدم. ثم يتجه الى إربيل حيث يقيم صلاة في الهواء الطلق تَسجّل لحضورها آلاف من العراقيين من كل الطوائف والملل، مسلمون ومسيحيون وأزيديون وعربٌ وكردٌ ، وبعدها يصل الى الموصل التي تضم كنائس العراق التاريخية الموغلة في القدم، ويزور بلدة قرقوش ذات الاغلبية المسيحية، والتي تعود في أصولها الى ما قبل المسيحية، وما زال أهلها يتكلمون الى اليوم لغة أرامية محدّثة، وقد دمّر أجزاء منها "داعش" بعد احتلاله للمنطقة في 2014.. ليعود الى بغداد فيلاقي المسئولين ويغادر عائداً. برنامج حافل بالرموز، قديمها وراهنها.

.. وبرنامج منفتح خصوصاً على تنوع العراق المذهل، ومعه كل منطقتنا. وهو يعاكس رأسياً ما يسود من أجواء التعصب والاحتراب الموسع في كل مكان هنا، وعلى البسيطة: انظر مأساة اليمن البشعة المستمرة كمثال، والعنف الفظيع الذي يطغى في كل مكان، ومنه في فلسطين التي كان البابا السابق ينوي زيارتها على خطى إبراهيم الخليل، فيما تنتفض اليوم مدينة الخليل، وفيما يَعتبر نتنياهو كل الفلسطينيين "ارهابيين"، يقاتلهم جيشه الهُمام والذي لا يجوز أبداً لمحكمة الجزاء الدولية أن تتفحص أفعاله وتحاسبه، وهو النص الحرفي لما قال (مضافاً اليه طبعاً أن القرار هو "معاداة للسامية"!)، كتعليق له على مباشرة المحكمة التحقيق في ارتكابات جرت في الضفة الغربية والقدس منذ 1967، وفي غزة منذ 2014.. ويؤيده بايدن وإدارته، في أقواله تلك وفي استنكاراته التي تقطر كذباً وابتذالاً.

والمرعب أن وعد المستقبل ليس أقل دموية ولا أقل تمييزاً بين البشر، واضطهاداً للأضعف من بينهم: انظر "حركة حياة السود تهم" في قلب الولايات المتحدة الامريكية، وما يحاكيها من اضطهاد على أسس عرقية ودينية وطبقية في أوروبا، وانظر مصائر شعوب مسبية بأكملها، كالروهينغا أو الإيغور...

وليس أن جائحة كوفيد لم تعلّم السلطات شيئاً، بدليل تخزين مليار ونصف مليار عبوة لقاح احتياطاً في الولايات المتحدة الامريكية فيما تفتقر قارات باكملها لها ولأي علاج، وفيما ترفض هذه السلطات "الغنية" فكرة متداوَلة بقوة تقول أن اللقاح حقٌ يجب ان تكون مكوناته وصناعته مشاعين، فيمكن لمن يستطيع من الدول انتاجه. بل تتجه واشنطن وتنافسها بكين وموسكو وسواهم - على قاعدة ما يسمونه بأدب "الذكاء الاصطناعي" - الى إجازة انتاج "الروبوتات القاتلة"، لتصبح الحرب بلا خسائر بشرية على جنود "السادة"، ويصبح قتل الآخرين أيسر..

 الجائحة لم تعلم السلطات ولكنها لم تعلم أيضاً البشر، إجمالاً، ما كان يجب أن يصلوا اليه من استنتاجات..

فلعل وداعة هذه الزيارة، بمحطاتها المختلفة، وكلمات البابا عشية سفره، مِن أنه جاء حاجاً الى العراقيين، ويتوق الى رؤية وجوههم وأرضهم بعد كل المعاناة التي عاشوها، ويطمح الى المغفرة، وأنه رسول سلام.. لعل ذلك كله يعوّض - ولو للحظة، ولو لذرة - كل تلك البشاعة! 

مقالات من العراق

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

للكاتب نفسه

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...