"بقينا هناك 3 أشهر. صنعنا خلالها مئات الصواريخ. أنا وأطفالي كنا نشتغل لهم 12 ساعة في اليوم. أعطى ابنتي، التي عمرها 5 سنوات، أخطر مهمة، إذ كانت هي التي تربط الأسلاك الحساسة، وفي أي لحظة خلل، كان ممكناً أن ينفجر بوجهها الصاروخ".
كان هذا مقتطفاً صغيراً من شهادة نادية، امرأة أزيدية ناجية من قبضة داعش. وهي التي أفتتح بقصتها كتاب في سوق السبايا* للكاتبة العراقية دنيا ميخائيل. تذكرت شهادة نادية، وأنا أقرأ خبر انتحار سلمى سعيد، فتاة أزيدية تبلغ من العمر 16 عاماً. لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، فقد سبقها بيوم واحد فقط - وفي حادثتين منفصلتين - انتحار فتاتين أزيديتين تبلغان من العمر 22 و15 عاماً، ثم بعدها بيوم واحد جاء انتحار جديد، هذه المرة من فتًى أزيدي يبلغ من العمر 18 عاماً، كانت شقيقته قد انتحرت قبله بستة أشهر. نشرت صور الفتيات الثلاث والفتى على وسائل التواصل الاجتماعي، في أخبار مقتضبة من بضعة أسطر قليلة تحدد العمر والمكان: مخيماً للنازحين في مدينة دهوك شمال العراق.
مع تردي الخدمات والاقتصاد، وعدم استقرار الوضع السياسي، وسوء إدارة مؤسسات الدولة لأزمة جائحة كورونا، والذي أدى أيضاً إلى ازدياد حالات العنف الأسري، مما دفع ببعض النساء لإنهاء حياتهنَّ هرباً من التعنيف، إلى جانب الضغوط الاقتصادية والمجتمعية التي يعاني منها الكثير من العراقيين، ازدادت حالات الانتحار في العراق ككل، حيث وصل عددها في عام 2020 فقط، إلى 375 حالةً – حسب إحصائيات مفوضية حقوق الإنسان. لكن من الضروري أيضاً مناقشة خاصية الوضع الأزيدي بالتحديد، ولا سيما بعد احتلال مدينة الموصل وما حولها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
الأزيديون جزء من تعدد العراق
يقدر عدد المعتنقين للديانة الأزيدية ما يقارب الـ 700 ألف شخص، يستوطن معظمهم شمال العراق بين الموصل ودهوك، وبنسبة أقل في سوريا وتركيا. وقد تعرض الأزيديون في العراق، بعد احتلال الموصل عام 2014 من قبل تنظيم "داعش"، إلى واحدة من أسوأ الإبادات والتطهير العرقي في القرن الواحد والعشرين، حيث قُدّر عدد المختطفين على يد التنظيم ب 6.500 شخص، ما زال مصير نصفهم غير معروف، في حين دمرت داعش قراهم وبلداتهم. ولربما أكثر مأساة بقيت آثارها، حتى بعد تحرير مدينة الموصل وما حولها من تنظيم داعش الإرهابي عام 2018، هي استعباد التنظيم لنساء وفتيات قاصرات وأطفال من الديانة الأزيدية، بعد قتل مرافقين لهم من الرجال والمسنين.
تعامل التنظيم مع مَن اختطفهم كبضائع وسلع تباع وتشترى وتهدى ويتاجر بها لأغراض مختلفة كالجنس وكأيدٍ عاملة لصناعة القنابل والصواريخ وغيرها من الأعمال الشاقة والخطرة. وعلى الرغم من تحرير الكثير من المختطفين، أو من أسماهم "داعش" ب "السبايا"، إلا أن المحرَرات والمحرَرين منهم ما زالوا يعيشون في ظروف مأساوية في مخيمات النازحين داخل وخارج العراق. وقد حددت تقارير الأمم المتحدة عدد النازحين الأزيدين القاطنين في المخيمات حتى نهاية عام 2020 بما يقارب 350 ألف نازح ونازحة.
وعلى الرغم من أن مأساة الأزيديين حصلت على الكثير من الاهتمام الإعلامي، إلا أنها أيضاً استخدمت لدفع أجندات سياسية وحتى طائفية، سواء من قبل الحكومة المركزية في العراق، أو الأحزاب الدينية أو حكومة كردستان، لإظهار أنفسهم في دور المخلّصين، بينما اقتصرت في حقيقة الأمر الجهود الحقيقية لتغيير واقع النازحين على جهود الأزيديين أنفسهم لإنقاذ أبنائهم وبناتهم من أيادي التنظيم. ولم تتعدَ الجهود الرسمية سوى تعويضات بسيطة تقدّم بعد وصول المحررَين، و بعد إجراءات طويلة من التدقيق والتحقيق معهم، كما لم تكن هناك جهود فعلية لتحسين الأوضاع المعيشية في مخيمات النازحين. فبعد 6 سنوات من النزوح، وأكثر من سنتين من تحرير القرى والمدن المحتلة من تنظيم داعش، ازداد وضع النازحين الأزيدين سوءاً، خصوصاً بعد أن تضاءلت المساعدات التي كانت تقدمها المنظمات الإنسانية في المخيمات، إذ بدأت عقود وميزانيات هذه المنظمات بالنفاد. وبقيت المخيمات تعاني من سوء وضآلة الخدمات الصحية والمعيشية مثل الماء والكهرباء وخدمات التعليم والصحة النفسية، خاصةً أن مَن اختطِفن من قبل تنظيم داعش ما زلن يعانين من آثار الصدمة النفسية بسبب أهوال ما شهدنه من عنف واستغلال وجرائم مورِست ضدهنَّ وضد عائلاتهنَّ، مما يجعلهنَّ أكثر عرضة للاكتئاب، وفقدان الرغبة في الاستمرار بالحياة.
إهمال لا يمنع التصارع على النفوذ
في خضم هذا كله، تتنازع الحكومتان المركزية وحكومة الإقليم في كردستان بفصائلهما حول أحقية إدارة المناطق المحررة، مما يجعل عودة العائلات النازحة إليها صعباً جداً، ليس فقط بسبب انعدام الخدمات تماماً بعد تدمير المنازل والمدارس والبنى التحتية من قبل تنظيم داعش، بل أيضاً بسبب عرقلة وبطء، وحتى انعدام عملية تطهير هذه المناطق من الألغام التي خلّفها التنظيم. وبينما وجد بعض النازحين الأزيديين طريقاً للجوء في بعض الدول الأوروبية وغيرها لبدء حياة جديدة، إلا أن حوادث متعددة عن وجود عناصر كانوا مقاتلين في تنظيم داعش في دول اللجوء أيضاً – لأنهم يحملون جنسياتها في الأساس، أو لأنهم وصلوا إليها متخفّين بين اللاجئين – أصبحت تؤرق الذين يحصلون على اللجوء، بالأخص الفتيات والنساء اللواتي كنَّ مختطفات لدى التنظيم. فقد حصل ووجدت بعض اللاجئات أنفسهنَّ وجهاً لوجه، في شوارع مدن أوروبية لجأن لها، مع من استعبدوهنَّ واغتصبوهنَّ، مما دفع بعدد منهنَّ إلى العودة إلى مخيمات اللجوء في العراق خوفاً. وقد تكون قصة اللاجئة الأزيدية في ألمانيا "أشواق حجو" هي الأكثر انتشاراً. فبعد سنتين من الخوف والهروب ومحاولات الاستغاثة بالسلطات، تمّ القبض في 2020 على مختطفها وإعادته إلى العراق لمحاكمته. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يحاكم بها أي عضو من تنظيم "داعش" بجرائم الاغتصاب والخطف ضد الأزيديين، وبمواجهة الضحية له. إذ كانت ما سبقتها من المحاكمات تقتصر على تهم الانتماء إلى تنظيم إرهابي... مما يأخذنا إلى مشكلة أخرى، وهي عدم تقدم الضحايا بدعاوى ضد خاطفيهم خوفاً من الفضيحة بعد بيعهنَّ واغتصابهنَّ على أيدي عناصر التنظيم. وعلى الرغم من أن بعض المحرَرات احتضنتهنَّ عائلاتهنَّ بعد تحريرهنَّ، إلا أن الكثيرات منهنَّ أيضاً بقين موصومات بالعار في مجتمع محافظ مثل باقي المجتمع العراقي.
"الكابوس الذي صحوتُ منه، ما أزال أصحو منه كل يوم، حيث يأتي الرجل الذي اشتراني، يخطفني، وأنا أقطف الطماطم. أراني عاريةً حافيةً مثل وليد أو ميت جديد. كل مرة أفتح الباب، وأهرب". ذلك جزءٌ آخر من شهادة المحرَرة الأزيدية نادية من كتاب "في سوق السبايا". يبدو أن كابوس "داعش" وما تلاه من مآسي الإهمال والنسيان ما زال يؤرق العراقيين الأزيديين، ويدفع شابات وشبان في عمر الورود لإنهاء حياتهم هرباً منه.
* في سوق السبايا، دنيا ميخائيل. دار المتوسط 2017