لا تبكِ على الأموات، فقد صاروا أقفاصاً غادرتها العصافير
*سعدي الشيرازي
يهز الموت، لدى كل الشعوب والحضارات، حق الخصومة السائد في الحياة، أو على الأقل، انفلات الخصومة بلا ضوابط. فكيف حين يأتي الموت بالاغتيال؟ وكيف حين يُضاف إلى ذلك اضطراب الأحوال بسبب الأزمات الطاحنة التي يمر بها – أحياناً أو كثيراً - البشر، وهي تُسبّب الهلع. وكيف حين يضاف إلى ذلك، أو فوقه، إدقاع الأفكار، فقرها أو انسحاقها، كعلامة على انسداد الأفق..
حين اغتيل رفيق الحريري بتلك الحادثة البشعة المزلزلة، بدا وكأنه نال حصانة مطلقة ضد النقد. صار قديساً، مع قناعتي أن القديسين أنفسهم متعددون، ويمكن إيجاد ألف علة لدى واحدهم، سوى أنهم أنجزوا بصبر ما تسْتبقيه البشرية كقيمة عليا، طاغية إلى حد أنها تصبح سمتهم الوحيدة.. ولن نجادل في أدوات صناعة ذلك. ولاستعادة الكلام عن توجهات رفيق الحريري وقراراته، نقدها ومناهضتها، تطلب الأمر وقتاً، وديباجةً أو مقدمة تتلى دوماً، صادقةً أو كتعويذة، تدين قتله وتستنكره، قبل الدخول في الموضوع والجدل فيه. بل تطلب الأمر - دوماً أيضاً – توضيح الفارق، المشروع تماماً، بين إدانة الاغتيال كموقف حقيقي ومبدئي، يرى علاوة على ذلك الضرر الكبير الذي يتسبب به، وبين "الموقف" من الرجل وتصوراته ومخططاته، ومنها مثلاً ما اختاره وتبناه كوجهة لإعادة اعمار لبنان. والأمران – استنكار قتله ونقد تصوراته - ليس بينهما أي تناقض، وأحدهما لا ينفي الآخر أو يمحوه.
واستطراداً، فقد تحولت فلسطين الى "قميص عثمان". وصارت المهاترات والشتائم والتخوينات كلها تدور حول الموقف منها، وهي "مش ناقصة" مصائب. وهذا ينطبق على من يدّعي نصرتها وعلى من ضاق ذرعاً بها! ولكن، نعم، هناك موضوع جوهري يتعلق بالصراع مع اسرائيل، وموضوع جوهري آخر يتعلق بالموقف من الاحتلالات الاستعمارية. وليس "كل شيء عند العرب صابون". وقد احتل الأمريكان والانجليز العراق ودمروه عامدين متعمدين، وهناك من أيّدهم في المنطقة ودافع عن ذلك كطريقة للخلاص من نظام صدام حسين، وهناك من اعتبر أن على واحدنا أن يكون مع صدام أو مع الامريكان، وإلا فلا قيمة لموقفه. وهذا سيناريو يتكرر مع غير العراق من الأمكنة والحالات.. وهناك تيار طويل عريض في المنطقة يرى التعقيد الهائل في أحوالها وفي احوال العالم، ويرفض منطق حصر الخيارات بالثنائيات المبسّطة واليسيرة، ويعتبره عقيماً. وليست الحال في لبنان، حيث تترسخ تقاليد الاستقطابات أحادية الجانب، والقطعية والخندقة، هي النموذج القابل للتعميم.
وكل ما سلف أعلاه بديهيات، ولكنها ليست مفعّلة، خصوصاً في ظل الأزمات والإدقاع سالفا الذكر، وفي ظل عنف بدائي عام، وفي كل الميادين، لا يترك مجالاً لسواه.. وفي حالة رفيق الحريري، زِيد على ذلك تفاهة (وهذه أكثر المفردات تهذيباً التي تمكّنتُ منها هنا) من أعقبه من السياسيين، سواء كانوا من اتجاهه أو كانوا ضده، ما يدفع إلى الترحم على الراحلِين، والتأسف لغيابهم. وهي ظاهرة منتشرة اليوم في عموم المنطقة وليس في لبنان فحسب، نال بفضلها الكثيرون من السالفين ما لم يكونوا يحلمون به من محبة.
وقد يقال قصر ذاكرة معهود، أو تسطيح للأشياء، لكنه الواقع. وهو مؤلم لأنه يكشف بؤسنا. وقد أضيفت إليه – انظر كمية الطبقات المضافة فوق بعضها البعض – الحقارة غير المحدودة، والمذهلة، للأنظمة التي تقبع فوق أنفاسنا، والتي لا يبدو أن هناك قعراً لسفالتها متعددة الوجوه، ما يجعل العالم رمادياً.
ثم أننا أبناء داحس والغبراء! وهذا يترك أثراً ما.
تذكرتُ كل هذا، قبل ذلك مرات. وتذكرته واستحضرته اليوم بمناسبة اغتيال لقمان سليم. فأن يكون الرجل مثقفاً مميزاً ومتعدد المواهب، هو ما لا يبدو أنه موضع شك. وهو يستدعي الإعجاب بتلك الطاقات التي يمتلكها. ولكن هذا الجانب لا يلغي جوانب أخرى ولا يناقضها. يمكنه أن يكون ذلك، وعليه تكون أفكاره ومبادراته ومشاريعه مندرجةً في خيارات لا يوافق عليها الكثيرون بل ويناهضونها بقوة. من يمكنه الشك بسعة ثقافة سعد الدين إبراهيم، وذكائه الألمعي؟ ولكنهما شيء ومواقفه ومنطلقاتها شيء آخر، وهو الذي قام - مثلاً - في 2018 بإلقاء محاضرة في ورشة نظّمها مركز "موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا" بجامعة تل أبيب. وهذه كانت آخر موجات الغضب التي انفجرت بوجهه. حرٌ، ومؤمن بموقفه؟ هذا شأنه! ولكن لا يمكن التنديد بالهجوم عليه، لا باسم الديمقراطية وتعدد الآراء، حين يُسطَحان بهذا الشكل، ويصبحان وسيلة لتجاهل مرتكزات قائمة في كل مجتمع، يتهتك نسيجه الاجتماعي من دونها (في العالم كله وليس لدى التوتاليتاريين يا سادة!)، ولا يمكن خصوصاً استهجان الهجوم عليه بالاعتداد بقيمته العلمية. وفي المثال، دافعتْ عنه إسرائيل مذكرةً باتفاقية كامب ديفيد، وبكون العلاقات مطبّعة مع مصر! ولا يعني ذلك بالطبع لا قتله ولا الاعتداء عليه بأي شكل. ولكن مناهضته بحدة لو لزم الأمر، حقٌ مشروع لمن يرغب، فهو مثله، حرٌ ومؤمن بموقفه.
ملاحظة أخيرة: ما كان مذهلاً في الأيام الماضية هو كمية السعار التي تساوى فيه من يحب لقمان سليم ومن يكرهه. وهي جعلتني أرى أبناء الخندقين متشابهين، شتّامين وأحاديي الجانب، قطْعيين وكذّابين لخدمة فكرتهم، وإلى غير ذلك من الصفات. وأغلب ظني أن ما يقال له "بيئة حزب الله" أو "الممانعة" أحياناً وإجمالاً، تزداد عمى، إلى حد الهجوم على أسامة سعد، نائبِ صيدا وزعيم "التيار الشعبي الناصري" لأنه استنكر اغتيال سليم. وهناك غير ذلك الكثير، مما أصبح مقزّزاً حقاً، ولكن والأهم أنه يُعبّر عن مأزق مكين ربّما لا يفتح فيه نوافذ ولا حتى كوّات، امتلاكهم لقوة السلاح وللقدرة على الترهيب، ولنواة اجتماعية صلبة و.. متقلصة، على الرغم من كل العناية التي تحاط بها. انظروا ما يجري، ويقال في العراق بشبه إجماع أهله - وأغلبهم ينتمون إلى التشيّع مذهباً وثقافة - عن الميليشيات المقربة من إيران! وأغلب ظني كذلك أن لقمان سليم لم يكن ليرضى عن معظم ما يتفوّه به المدافعون عنه من بين الشتّامين، وهم كثر. فيا لانحطاطنا البائس!