الثورة كفعل يومي في تونس أو قوة المستضعفين

شباب الأحياء الشعبية، المتراوحة أعمارهم بين 15 و25 سنة، والذين يحتلون اليوم الفضاء السياسي والإعلامي لكي يقولوا "لا" للنظام الاقتصادي والسياسي التونسي الذي يحطم آمالهم وينتهك أجسادهم، هم متشبعون بمخيال القطيعة السياسية، حيث يكون المواطنون سادة مصيرهم.
2021-02-04

هالة اليوسفي

باحثة وأستاذة علم الإجتماع في جامعة دوفين - باريس، من تونس


شارك
مواجهات ليلية في محيط العاصمة تونس، كانون الثاني/يناير 2021. تصوير: ياسين القايدي، وكالة الأناضول.

في 14 كانون الثاني/ يناير 2021، وبعد عشرة أعوام من سقوط بن علي، يعيد التاريخ نفسه في تونس بإصرار وعناد لا يكلّان: عون شرطة يعتدي على راعي أغنام من منطقة "سليانة" لأن قطيع أغنامه دخل إلى مقر الولاية (المحافظة) عند عبور الطريق. في الفيديو الذي تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نرى شرطياً يدفع الشاب قائلاً: "وكأنك تهين وزارة الداخلية بتركك خرفانك أمام هذه المؤسسة"(1) . لم يتأخر رد شباب سليانة وأحياء شعبية أخرى، بشكل يذكّرنا بأن الأحداث التاريخية مثل إضرام البوعزيزي النار في جسده يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2011 ليست محطات تاريخية مستقلة، بل هي تمتد على ما قبل اللحظة وما بعدها، ولا تظهر جلية إلا بشكل تدريجي. منذ عشرة أيام وفي مختلف أرجاء البلاد تقريباً، ينظم الشباب احتجاجات ليلية مدافعين عن مطالب راديكالية ومحمّلين مسؤولية الأزمة الاقتصادية والسياسية لمجمل الطبقة السياسية، وبشكل أخص للقوة السياسية الأولى في البرلمان أي حركة "النهضة" (2) . قمعت قوات البوليس هذه الاحتجاجات بشكل عنيف، ونتيجة لذلك أطلقت عدة نداءات على شبكات التواصل الاجتماعي من قبل فاعلين في المجتمع المدني، لتنظيم يوم غضب ومظاهرات (3)  اختارت له تاريخ 26 كانون الثاني/ يناير 2021، ذكرى انتفاضة 26 كانون الثاني/ يناير 1978 عندما اندلعت أولى المواجهات الدموية بين الحركات الاجتماعية والنظام التسلطي في تونس.

الماضي راسخ في الذاكرة

وإن كان استحضار الماضي من ضمن الاستراتيجيات الأكثر شيوعاً في تأويلات الحاضر، فإن ما يوجه هذا الاستحضار ليس فقط رهانات حفظ الذاكرة أو التعبئة، بل على الأرجح هو الشك في كون هذا الماضي مضى بالفعل وانتهى، وأغلقت أبوابه، أم أنه ما زال مستمراً، ويتجلى في أفعال الأفراد والمجموعات ويؤثر فيها، وإن ربما بأشكال مختلفة. بالطبع تطرقت عدة تحليلات صائبة إلى أسباب هذه الموجة الاحتجاجية الجديدة: تفتت وتفكك الدولة، وفشل الحاكمين، والفساد، وتفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، والأزمة الوبائية، الخ.. لكن السؤال الذي أطرحه في هذا المقال يتعلق بمعرفة إذا ما كانت هذه الحركات جديدة كليّاً؟ ما مدى تأثرها بالأحداث التاريخية؟ هل ما زالت التحركات الاجتماعية التي خاضتها الأجيال السابقة والتي لم يعشها هؤلاء الشباب، المتراوحة أعمارهم بين 15 و25 سنة، تُلهم، بشكل أو بآخر، حراكهم الحالي؟ هل يمكن للتاريخ والذاكرة أن يكونا، حسب العبارة البليغة لوالتر بنيامين، "موعداً غامضاً بين الأجيال السابقة وجيلنا"؟

كيف نفهم ما حدث خلال العشر سنوات الماضية؟ هل يقتصر الأمر على شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي لم يتم تجسيده؟ أم أنه نقطة انعطاف في تاريخ البلاد وثقافتها السياسية، لها أهمية حاسمة في فهم ما حدث في العقد الأخير، وتأثير بديهي على جزء كبير مما يحدث في تونس اليوم؟

"جانفي"، شهر أفق الممكن

كانون الثاني / يناير في تونس ("جانفي" بحسب التسمية الشائعة في البلاد) هو شهر "طقطقة التاريخ" التي تهيكل آفاق الممكن. وإن شكلت الحركات الاجتماعية التي اندلعت في كانون الثاني/يناير 1978 أول ثغرة في النظام التسلطي، وأول مواجهة دموية مع الحزب – الدولة، فإن انتفاضة 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، وهروب بن علي في 14 كانون الثاني/ يناير 2011 هي الأحداث التي طبعت العقد الأخير (4) . هناك ما قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011 وما بعده. هذا فصل بين المياه كما يقول المكسيكيون (5). ومع ذلك، فهناك إجماع على حقيقة أن الأسباب التي أججت هذه الانتفاضات لم تجد حلولاً، وأن الشكل السياسي والاقتصادي للحكم في تونس بقي على حاله، على الرغم من إرساء ديمقراطية مؤسساتية. لكن أين هي إذاً هذه القطيعة، أو هذا الفصل بين المياه؟

نضالات متعددة الأشكال وقطيعة عميقة

هذه القطيعة هي تغيير عميق في المخيال السياسي. وهي أبعد من أن تكون مجرد حدث، فلقد تشكلت من مجمل التصدعات التي أحدثها المسار الثوري والمتجسدة في النضالات اليومية التي نجحت، شئنا أم أبينا، في إبقاء آفاق الممكن السياسي مفتوحة (6). تتخذ هذه النضالات أشكالاً مختلفة. يمكنها أن تستهدف الدولة مباشرة عبر إجبارها على تقديم تنازلات كما هو الأمر مع التحركات النقابية المنتظمة، أو الحركات المواطنية الجديدة مثل حركة "ماناش مسامحين" (لن نسامح) ضد قانون "المصالحة الاقتصادية والمالية" مع نخب النظام القديم، أو التعبئة ضد اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق (الأليكا) مع الاتحاد الأوروبي. وتتجسد أيضاً هذه النضالات في خلق فضاءات سياسية مستقلة جديدة مكنت من إرساء شبكات تعاون اجتماعي لإدارة الأزمة الوبائية في ظل تقصير الدولة وتنصلها من واجباتها، أو شجعت على استعادة مجالات وفضاءات صادرتها السلطة المركزية لمدة طويلة. ونذكر على سبيل المثال، تجربة استرداد الأراضي التي قام بها الفلاحون في "جمنة" أو تحركات مناضلي "الكامور"، واستهدفت كلتا التجربتين البنى الصناعية والسياسية للدولة في المنطقة، طارحة بطريقة راديكالية مسألة إعادة توزيع الثروات (7). وهكذا تحولت فضاءات لطالما كانت هامشية إلى أمكنة للاحتجاج والإبداع.

كيف نفهم ما حدث خلال العشر سنوات الماضية؟ هل يقتصر الأمر على شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي لم يتم تجسيده؟ أم أنه نقطة انعطاف في تاريخ البلاد وثقافتها السياسية، لها أهمية حاسمة في فهم ما حدث في العقد الأخير، وتأثير بديهي على جزء كبير مما يحدث في تونس اليوم؟

تتجسد القطيعة إذاً في أشكال الفعل، وفي المخيال السياسي الجديد الذي خلقه مواطنون يخوضون نضالات تنبثق من خلالها علاقات اجتماعية جديدة. علاقات يمكن أن تكون، كما تبين ذلك الأمثلة التي ذكرناها سابقاً، مبنية على تصور وممارسة للسلطة يتميزان باستقلاليتهما إزاء السلطة المؤسساتية التقليدية. في هذا التصور للقطيعة يتغير معنى كلمة "سلطة" فهي لم تعد شيئاً ما يجب الحصول عليه، بل شيئاً ما يُخلق كل يوم عبر النضالات والمقاومات.

شباب يبحث عن العدالة

شباب الأحياء الشعبية يذكرّون بأن الكرامة لا يمكن أن تُمنح، بل هي تؤخذ. شباب الأحياء الشعبية، المتراوحة أعمارهم بين 15 و25 سنة، والذين يحتلون اليوم الفضاء السياسي والإعلامي لكي يقولوا "لا" للنظام الاقتصادي والسياسي التونسي الذي يحطم آمالهم وينتهك أجسادهم، هم متشبعون بمخيال القطيعة السياسية هذا، حيث يكون المواطنون سادة مصيرهم. وعيهم السياسي هو أولاً جسدي عندما يقولون "لا" لبوليس يعتدي عليهم، ولدولة تؤبد بؤسهم الاجتماعي، وتعرّض حياتهم للخطر.

كل "لا" يرفعونها في وجه السلطة هي تصدع جديد يضاف إلى التصدعات السابقة، ليحافظ على اتقاد شعلة الكرامة والقطيعة التي بنيت على مدًى طويل، لتكون فتحاً وخلقاً لسلطة من نوع جديد. إنها القوة غير المتوقعة للمستضعَفين، وهي التي تمكنهم من الوجود على الرغم من محاولات الحاكمين حرمانهم من ذاتيتهم ومكانهم في صناعة المشترك، وذلك عبر السعي إلى إقصائهم من التاريخ بشكل دقيق وممنهج.

القطيعة السياسية الواقعة اليوم هي تغيير عميق في المخيال السياسي. وهي أبعد من أن تكون مجرد حدث، فلقد تشكلت من مجمل التصدعات التي أحدثها المسار الثوري، والمتجسدة في النضالات اليومية التي نجحت، شئنا أم أبينا، في إبقاء آفاق الممكن السياسي مفتوحة.

القطيعة ليست مع الدولة وحدها، بل أيضاً مع أشكال أخرى من السلطة التي تملي على هؤلاء الشباب ما يجب فعله وكيف يفعلونه. وهذه القطيعة لا تتعلق فقط بالحكومات المتعاقبة، لكنها تشمل الأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام المهيمنة، والخبراء السياسيين المزعومين.

سلطة شباب الأحياء الشعبية هي من نوع آخر، لا تستند إلى الموارد أو الصفات، بل تتجذر في علاقات اجتماعية محلية وفي مصير مشترك للهامش، عبر ترابط لا يتركز في القمة، بل يمكن أن ينتشر في كل مكان، في كل المجالات المادية والسياسية والرمزية التي كانت مهمشة و/أو مصادرة. القطيعة ليست مع الدولة وحدها، بل أيضاً مع أشكال أخرى من السلطة التي تُملي عليهم ما يجب فعله وكيف يفعلونه. وهذه القطيعة لا تتعلق فقط بالحكومات المتعاقبة، بل تشمل الأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام المهيمنة، والخبراء السياسيين المزعومين.

قمع بوليسي ومنطق أمني

رد "الديمقراطية الفتية"، التي يشيد بها العالم بأسره، على هذا الاحتجاج السياسي للفئات الأصغر سناً والأكثر هشاشة في المجتمع التونسي، كان أقل ما يمكن وصفه به أنه متناقض، إذ تَمثّل في قمع بوليسي أريد به القضاء على الرغبة في المقاومة وكذلك بالحياة عند الشباب وكل الناس، مع الزعم في الوقت نفسه بأن الأفراد أحرار ومطالبهم مشروعة. عندما تسعى الحكومة التونسية، ومعها النخب الاقتصادية والإعلامية المساندة لها، لتشويه استراتيجية الدفاع عن النفس التي يعتمدها هؤلاء الشباب، وتصويرها كأشكال من قطع الطريق وخرق القانون والاعتداء على الملكية الخاصة، الخ.. أو عندما ينادي أحد كوادر الحزب الأكثر تأثيراً في البلاد، "حركة النهضة"، بتشكيل ميليشيات لحماية الوطن (8) ، فإن المنطق الأمني له غاية وحيدة: تحطيم الذوات السياسية المناضلة. الهدف هو التخويف ووسم أجساد المعترضات والمعترضين.

لكن هذه النخب الممسكة بالسلطة تقلل من شأن المناعة الجماعية التي خلقتها عقود من الصراع ضد ضربات نظام قمعي. وهي تنسى أن 14 كانون الثاني/ ديسمبر 2011 يمثل لأطفال الثورة هؤلاء تاريخ تحول تجربة الخوف إلى تجربة أولى للسياسة، جعلت الخضوع مستحيلاً، والدفاع عن النفس أمراً حيوياً عندما تصبح المعيشة لا تطاق، وتتلخص في البقاء على قيد الحياة. هكذا، وفي خضم هذا السياق السياسي والاقتصادي والوبائي، حيث تتضافر كل العوامل لمنع الأشخاص المهيمَن عليهم، والأكثر هشاشة من التحرك، يشكل شباب الأحياء الشعبية في تونس جبهة متحدة ويخلقون "نحن" سياسي. يذكرنا هؤلاء الشباب أن التهميش ليس قدراً ويبينون جماعياً قوتهم، وخاصة يثبتون - بشكل مبهر - أن الكرامة لا تمنحها مجرد لعبة انتخابية، بل لا يمكن إلاّ أن تؤخذ، مانحين - مرة أخرى - فرصة جديدة لإنعاش الجسم السياسي.

إن كان استحضار الماضي هو من ضمن الاستراتيجيات الأكثر شيوعاً في تأويلات الحاضر، فإن ما يوجه هذا الاستحضار ليس فقط رهانات حفظ الذاكرة أو التعبئة، بل هو على الأرجح الشك في كون هذا الماضي مضى بالفعل وانتهى، وأغلقت أبوابه، أم أنه ما زال مستمراً، ويتجلى في أفعال الأفراد والمجموعات ويؤثر فيها، وإن ربما بأشكال مختلفة.

هؤلاء الشباب الذين يمتلكون أفكاراً وأحلاماً لأنفسهم وللعالم، يشرحون لنا بأجسادهم التي تواجه بشجاعة عنف القمع البوليسي أن الثورات والحركات الاجتماعية لا يمكن أن تقاس بمعايير مثل النجاح أو الفشل. لا يقتصر الرهان على كسب صراع، بل أن المسار الثوري - ولا يهم هنا كيف ومتى وأين يجري - الذي كانت نقطة انطلاقه كرامة المنتفضين، يغير إلى الأبد الطريقة التي ينظر بها هؤلاء الشباب - وهم الفاعلون الأساسيون في مستقبل تونس - إلى أنفسهم وعلاقاتهم بالآخرين، وكذلك الكيفية التي يبنون بها المجتمع الذي يطمحون للعيش فيه.

______________

• نشر النص الأصلي باللغة الفرنسية، وهذا رابطه: https://cutt.ly/zksg5D9

• ترجمه من الفرنسية محمد رامي عبد المولى

______________

https://fr.euronews.com/2021/01/17/tunisie-des-heurts-entre-policiers-et-manifestants -1
https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/tunisie-emeutes-revolution-pauvrete-injustice- -2 sociale-corruption-kais-saied
https://www.facebook.com/hatem.heni.3/posts/4901216253282337 -3
Héla Yousfi, « L’UGTT, une passion tunisienne : enquête sur des syndicalistes en révolution », -4 Editions Karthala 2015.
Raoul Zibechi, « Argentine - Généalogie de la révolte : la société en mouvement », Editions CNP-RT,5 2004.
https://orientxxi.info/magazine/tunisie-les-mouvements-sociaux-amorcent-une-nouvelle- 6 revolution,4400?fbclid=IwAR2feE4--nWIEq4UHbzl624WYeujhGjuQufkDqD6HGCKT9DLMtGtDX02OnM
https://roape.net/2020/12/17/mohamed-bouazizi-and-tunisa-10-years-on/-7
https://www.tunisienumerique.com/tunisie-ennahdha-appelle-ses-adherents-a-imposer-la-securite-et-dilou-intervient-pour-remedier-a-la-situation -8/

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس على حدود الشرعية الديمقراطية

كشفت التجربة التونسية في السنوات العشر الأخيرة أن "المنظومة" تتمتع بقدرة غير متوقعة على امتصاص الصدمات، وأن النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة تجد دوماً الوسيلة لكي تتأقلم مع التشوهات والمسوخ الذين...

كوفيد-19، "منطقة" صراع شمال/جنوب؟

هناك حدود-هوامش داخل منطقة الصراع ضد كوفيد19، وهي بمثابة أماكن فصل بين الأجساد المريضة والأجساد السليمة، الأجساد المحتجَزة والأجساد العاملة، أصحاب الأجور الثابتة والفئات الهشة، الأجانب وأبناء البلد، المهاجرين النظاميين...