تونس: فلاحون من دون أرض وأراضٍ بلا فلاحين (3)

بقيت أغلب تجارب الاستيلاء على أراضي الدولة بعد 2011 فردية وغير منظمة، مما أدى شيئاً فشيئاً إلى أفولها... إلا بعضها التي نجحت في صياغة أشكال تصرّف واستغلال مبدعة وفعّالة في آن واحد. هذه التجارب تتركّز في أقصى الجنوب التونسي، وتحديداً في ولاية قبلي (600 كم جنوب العاصمة تونس).
2016-10-26

شارك
نبيل نحاس - لبنان

بقيت أغلب تجارب الاستيلاء على أراضي الدولة بعد 2011 فردية وغير منظمة، مما أدى شيئاً فشيئاً إلى أفولها... إلا بعضها التي نجحت في صياغة أشكال تصرّف واستغلال مبدعة وفعّالة في آن واحد. هذه التجارب تتركّز في أقصى الجنوب التونسي، وتحديداً في ولاية قبلي (600 كم جنوب العاصمة تونس). يقوم الاقتصاد هنا أساساً على السياحة الصحراوية وواحات التمور. وهي من أكثر الولايات تهميشاً من طرف السلطة المركزية، ويُضطرّ عدد كبير من شبابها إلى الهجرة الداخلية والخارجية كلّ سنة لتحصيل قوتهم، بحكم غياب المشاريع التنموية والجامعات وفرص العمل. ومن أهمّ التجارب نجد تجربتي واحة "الطرفاية" الواقعة في قرية "زعفران" و "هنشير المعمر" في بلدية جمنة. وتعتبر التجربة الثانية هي الأكثر تنظيماً وإبداعاً وتماسكاً..

معركة استرداد الحقوق

في 12 كانون الثاني/ يناير 2011 بادر شباب بلدة جمنة بالهجوم على المزرعة (الأراضي الزراعية المستغلة في المغرب الكبير تسمّى الضياع، ومنها ضيعة)، وكانوا من مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية، من العامل الفلاحي إلى الطالب فالعاطل فالموظف... إلخ، وطلبوا من الحارس وهو قريب مستأجر الأرض المغادرة. وتمّ منذ ذلك التاريخ منع دخوله هو والمستأجر إلى الضيعة.
"العملية برمّتها سارت بطريقة سلمية، وباستثناء بعض التجاوزات الفردية، فتمّت المحافظة على تجهيزات الضيعة وحمايتها من السلب والنهب (...)، واستطعنا السيطرة على الأرض وفرض الأمر الواقع الجديد. بعد عملية الاسترجاع الجماعية للضيعة طُرِحَت فكرتان: الأولى تقضي بتقسيم الأرض بين المواطنين الذين بادروا بالاستيلاء. أما الثانية فكانت تقضي بالمحافظة على وحدة الأرض وتمليكها جماعياً لكل أهالي منطقة جمنة. وبعد جدل كبير استقر الرأي العام على الفكرة الثانية. ومن هنا نشأت ضرورة بعث هيئة جماعية للتسيير، فكانت لجنة حماية واحات جمنة التي تمثل امتداداً للجنة حماية الثورة التي تشكلت تلقائياً أثناء الحراك الثوري مثلما في بقية البلدات والأحياء. وفي اجتماع شعبي تمّ اختيار 6 أعضاء كلجنة مسيِّرة للضيعة". هكذا تحدّث أحد قادة تجربة واحات جمنة (طاهر الطاهري في "الحوار المتمدن"، 28/10/2015).
"هنشير المعمر" الذي تبلغ مساحته 400 هكتار (نصفها مغروس ومُنتَج والنصف الآخر أرض بيضاء) يُعتبر مثالاً نموذجياً لفهم كيف تكوّنت الأراضي الميري أو أملاك الدولة. هذه الواحة كانت في الأصل ملكية مشاعية بين متساكني جمنة استولى عليها الفرنسيون زمن الاستعمار (لذا تُطلق عليها تسمية "هنشير المعمِّر"، والمعمّر هي التسمية التي أطلقت على الأوروبيين عندما يعملون في "تعمير" الأراضي الزراعية) واستغلوها طيلة عقود قبل أن يتمّ تأميمها سنة 1964. بالطبع ألحقت الواحة بأملاك الدولة وأصبحت المتصرف الوحيد فيها. وعلى الرغم من مطالبة أهالي جمنة بحقوقهم وحتى دفعهم مبلغاً مالياً هاماً لشراء الأرض (التي هي ملكهم أصلاً)، لم تتراجع الدولة عن عزمها الاستحواذ على الواحة.
في البداية، تمّ استغلال الأرض في صيغة "تعاضدية"، ثمّ وبعد فشل التجربة، تم تأجيرها لشركة تونسية عمومية "ستيل" سنة 1972 بعقد صلاحيته ثلاثون عاماً. سنة 2002 انتهى عقد التأجير فقررت الدولة منح رخصة استغلال الواحة لمستثمرين خواص عُرف عنهم علاقتهم القويّة بالنظام الحاكم وولائهم للحكام: قُدّر معلوم الاستغلال ببضعة آلاف من الدينارات سنوياً في حين كانت قيمة المحصول السنوي تناهز النصف مليون دينار. يعني، باختصار، ظلّ أهالي جمنة ينظرون إلى أراضيهم تستغلّ من طرف غرباء أمام أعينهم طيلة قرن من دون أن يستطيعوا فعل شيء. في الأيام الأولى لـ2011 فهم أهالي البلدة أنهم يعيشون فرصة تاريخية لاسترداد حقوقهم فاستولوا على الواحة من المستثمر الذي كان يستغلها وقرروا التصرّف بها جماعياً.

نمط إنتاج مختلف وتوزيع عادل للثروة

بعض المتابعين للتجربة والمعجبين بها يسمّونها "كومونة جمنة". قد تكون التسمية مبالغاً فيها بعض الشيء، لكن الثابت أننا إزاء نمط إنتاج جماعي فريد يجمع بين الموروث القبلي (الاستغلال الجماعي للأرض والتآزر) وبين مفاهيم اقتصادية جديدة (اقتصاد تضامني ومسؤول، تنمية مستدامة). واحات جمنة لم تقطع تماماً مع "السوق"، فهي تبيع محاصيلها لوسطاء وتجار يسيطرون على قطاع التمور في تونس، لكنها أرست نموذجاً يُحتذى به من حيث توزيع العمل والثروة على سكان منطقة ما. بعد أن كانت الواحة تشغل بضعة عمال بصفة دائمة، فإنها صارت تشغل أكثر من 120 شخصاً دائمين بالإضافة إلى عشرات العمال الموسميين، مما يضمن حياة كريمة لعشرات العائلات. كما أن ساعات العمل انخفضت (خمس ساعات يومياً) وارتفعت الأجور. يتقاضى العمال جميعهم الأجر اليومي نفسه، ولا توجد تقريباً فوارق مع أجور المشرفين والموظفين (الفارق بضعة دينارات). أما الهيئة المسيّرة للجمعية فهي تعمل تطوّعاً ولا تتقاضى أجوراً. تقدّم الجمعية كل سنة تقريرها المالي وتخضع لرقابة خبير محاسب. جزء من إيرادات محصول التمور يذهب لسداد الأجور ومستلزمات العمل (أدوات، أدوية، تلقيح، مياه الري، حراسة الواحة، الخ..). أما البقية فتُصرَف على تحسين البنية التحتية في البلدة وتحسين ظروف السكان. فلقد قامت الجمعية ببناء سوق مسقوف وملعب ووحدات صحية، كما أنها تكفلت بمصاريف ترميم وتجهيز مؤسسات تربوية، ودعمت جمعيات ناشطة في مجال التنمية والصحة والثقافة. اقتنت الجمعية أيضاً سيارة إسعاف لتسهيل نقل المرضى إلى مستشفيات المدن الكبرى.

بعد أن كانت الواحة "إقطاعاً" يستغله وينتفع منه شخص متنفذ واحد، أصبحت "روح" البلدة وقطبها التنموي، وعوّضت وجود الدولة شبه المستقيلة. اللافت للانتباه أن مداخيل الواحة ارتفعت عما كانت عليه قبل الثورة (من 500 ألف دينار إلى أكثر من مليون دينار حالياً)، وكل سنة تقريباً تسجل زيادة جديدة. يمكن تفسير الأمر باختلاف طرق استغلال الأرض، فالمستثمِر الخاص كان همّه الوحيد تكديس الأرباح قبل نهاية عقد الإيجار، مما جعله يُهمل العناية بالواحة ويفرّط في استغلالها. أما المستغلون الحاليون فهم أبناء الواحة ويدركون جيداً أنها تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، مما يجعلهم يحرصون على كل شبر منها ويرعونها بكل تفانٍ. فهم لم يعودوا عمالاً موسميين يعملون بأجور زهيدة لمصلحة مستثمر وافد من خارج البلدة، بل أصبحوا الملاك والمنتجين والمنتفعين.

تجربة ناجحة لكن مهدَّدة

نجاح تجربة "جمنة" لا يجب أن يجعل القائمين عليها والمساندين لها ينتشون وينسون أن هناك مَن يتربّص بها منذ سنوات في انتظار فرصة الاستيلاء عليها من جديد. فالدولة قد استردّت "عافيتها"، وهي اليوم أكثر تحفزاً وحماساً لضرب مختلف التحركات الاجتماعية وتصفية المكاسب القليلة التي حصل عليها التونسيون. لذا لم يكن من الغريب أن أولى الملفات التي طرحتها حكومة يوسف الشاهد "الرضيعة" هي استرداد واحة جمنة وتخليصها من "المعتدين" وإعادة تأجيرها للمستثمرين الخواص. فبعد أقل من أسبوع من التحاقه بمنصبه، أصدر كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية الجديد الأوامر بمنع أهل جمنة من بيع محصول السنة الحالية (الخريف هو موسم جني التّمور)، وبيّن عزم الدولة على استرجاع "أملاكها". يبدو أن الدولة مُصرّة اليوم على إنهاء تجربة واحة جمنة في أقرب وقت وبأي ثمن. فأهل جمنة صنعوا أسلوب إنتاج وتنمية جديد قد يُغري الكثير من الفلاحين والفقراء التونسيين.. مثال "سيئ" قد يكون معدياً. وإذا ما قبلت به الدولة فإنها ستفتح على نفسها باب جهنم (من منظورها الليبرالي). تم تعطيل عملية بيع المحصول مرات عدة.
أمام تعنت السلطات وإصرارها على وأد التجربة، بادرت مجموعة من الناشطين إلى تأسيس "الحملة الوطنية لدعم جمنة" لتعريف الرأي العام بقضية الواحة وفك الحصار الإعلامي عنها. سيّرت الحملة قافلة تضامنية باتجاه الواحة وحضّرت عملية البيع بالمزاد العلني لمحصول التّمور (يوم الأحد 9 تشرين الأول/ أكتوبر) والتي بلغ إيرادها لهذه السنة مليوناً و700 ألف دينار. اعتبرت عملية البيع انتصاراً كبيراً لأهالي جمنة الذين تحدّوا قرار الحكومة بحجر التصرف في المحصول. لكن الانتصار كان مؤقتاً و "الحرب" لم تنتهِ بعد، فلقد ردّت السلطة بعد أيام عبر تجميد الأرصدة البنكية التابعة للجمعية المشرفة على تسيير الواحة والتاجر الذي اشترى المحصول.
وإلى حدّ اليوم لا يزال أهل جمنة صامدين يدافعون عن واحتهم وتجربتهم التي قد تفتح أبواباً جديدة أمام الفلاحين بدون أرض.

ختاماً

"واحة جمنة" هي تجربة فريدة في تونس، وربما في الوطن العربي.. حالياً على الأقل، ويجب أن تُدرَس بعناية كحلّ يضمن من جهة مَواطن شغل في ظروف كريمة وتوزيع عادل للثروة، ويمكِّن من جهة أخرى من تنمية الإنتاج الزراعي والسعي لتحقيق أقصى حدّ من الاكتفاء الغذائي. في ولاية قبلي كما في بقية الولايات التونسية، يتواجد عشرات الآلاف من الفلاحين بدون أرض أو الذين يمتلكون مساحات صغيرة وصعبة الاستغلال، في حين أن هناك أراضيَ خصبة تستحوذ عليها الدولة و "تقتطعها" لمستثمرين أثرياء أو لمتنفذين في جهاز الدولة كل همّهم هو الربح الخاص.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه