تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
عانت أجيال من اليساريين التونسيين الملاحقات الأمنية والسجن والتعذيب والمنع من ممارسة النشاط السياسي بصفة علنية. لكن كل هذا القمع لم يمنعها من المشاركة بقوة في مختلف النضالات الاجتماعية والسياسية منذ ستينات القرن الماضي، ومن الالتحام بالجماهير المنتفضة خلال اللحظات الهامة، مثل "الخميس الأسود" 1978، و"انتفاضة الخبز" 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي 2008، وبالطبع الثورة التونسية 2011... وكلها افتتحت العام الذي يخصها، فوقعت في كانون الثاني/ يناير!
كان يفترض بسقوط الديكتاتورية أن ينقل اليسار من الكهف وظلاله إلى النور. لكن سنوات القمع والعمل السري والصراعات الأيديولوجية اليسارية – اليسارية، جعلته يدخل مرحلة "ما بعد الثورة" وهو منهك ومنقسم، ومن دون رؤية واضحة للمستقبل. بروز التيارات الإسلامية، وتتالي الانتفاضات العربية ومعاناتها من انحرافات شتى، والخوف من عودة الديكتاتورية.. جعلت اليسار التونسي "الراديكالي" يعيش حالة من "التشتت الذهني" ويحارب على كل الجبهات.
شكلت انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 صدمة مذلّة لليسار "الراديكالي" حيث لم يحصد إلا مقعدين أو ثلاثة من جملة 217، أي أقل من 1 في المئة، في حين فاز الإسلاميون بقرابة نصف المقاعد. نتائج هذه الانتخابات وتعاظم حضور الإسلاميين في تونس وغيرها سيدفع بجزء كبير من اليسار التونسي إلى التسليم بضرورة توحيد الجهود والانخراط في هيكل سياسي كبير، وهو ما سيترجم بتشكيل الجبهة الشعبية في تشرين الأول/ أكتوبر 2012 وعمادها التياران الأكثر تمثيلية لليسار واللذان تصارعا طويلا: "حزب العمال الشيوعي التونسي" و"حركة الوطنيين الديمقراطيين" بالإضافة الى أحزاب يسارية أخرى وعروبية (بعثية وناصرية). سيكون هذا التنظيم الجديد حاضراً بقوة في أغلب الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية خلال فترة حكم الترويكا (ائتلاف ثلاثي بقيادة "حركة النهضة الإسلامية"). لكن تتالي العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية سيجعل اليسار أقل اهتماماً بالنضالات الاجتماعية.
هنا استعراض وتحليل للطريقة التي تعامل بها اليسار التونسي مع بعض المعارك ذات الطابع الاجتماعي. هي أربع محطات تستحق الدراسة لفرادتها أو لطول مدتها أو لأهمية القضية أو لضخامة عدد المحتجين أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. نظرا لصعوبة تناول مواقف كل الأحزاب والتنظيمات والمجموعات اليسارية (وبعضها "ميكروسكوبي")، نركز على مواقف "الجبهة الشعبية" في تونس، فهي أكبر تجمع لليسارين (أحزاباً ومستقلين) وتضم ممثلين عن أغلب التيارات اليسارية التاريخية. سائر أحزاب اليسار الأخرى هي إما "معتدلة" جداً بحيث لا علاقة لها بالحركات الاجتماعية أو "راديكالية" جداً في بياناتها دون حضور فعلي على الأرض. كما أن اختيار الفترة موضوع الدراسة ليس اعتباطياً: السنوات التي تلت انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية. أي الفترة التي شهدت نهاية حالة "السيولة" الثورية واسترجاع مؤسسات الدولة لقوتها واستقرارها، وفي ظل ائتلاف حاكم يميني - يميني جناحاه هما الخصمان التاريخيان لليسار: رجالات النظام القديم ممن أعيد "تدويرهم"، والإسلاميين.
تجربة التسيير الذاتي في واحات جمنة
"هنشير المعمر" أو هنشير ستيل" هي واحات تمور تقع في بلدة جمنة في أقصى الجنوب التونسي (محافظة قبلي). كانت أراضي قبلية صادرتها السلطة الاستعمارية الفرنسية من أصحابها لتمنحها لمستوطنين فرنسيين. بعد استقلال تونس، لم تعد الواحات الى مالكيها الأصليين بل بدلت الدولة الناشئة صفتها لتصبح "أراضي دولة" (ميري)، وقامت في مرحلة أولى بوضعها على ذمة شركة عمومية ("ستيل")، ثم قررت تأجيرها لمستثمرين خواص بمقابل بخس لا يتناسب البتة مع حجم الأرباح التي تحققه هذه الاراضي. في كانون الثاني / يناير 2011، ومع أرتباك أجهزة الدولة، وجد أهالي جمنة الفرصة أخيراً لاسترداد حقوقهم فأخرجوا المستثمِر وأعوانه من الواحات وفرضوا سيطرتهم عليها.
تجربة واحات جُمّنة في تونس: أما بعد..
10-01-2018
مع "تحرير" الأرض، جاء السؤال البديهي الأول: ماذا نفعل بها الآن. اقترح البعض أن يتم تقسيمها بين الأهالي في حين طالب آخرون بالحفاظ على وحدة الأرض واستغلالها بشكل جماعي. حاز الرأي الثاني على موافقة الأغلبية. بعدها جاء السؤال الثاني: كيف نسير الواحة والعمل فيها، وهنا جاء دور مدرس متقاعد ومناضل يساري من أبناء المنطقة، طاهر الطاهري، الذي سيترأس جمعية تُعنى بتسيير الواحة بشكل جماعي، وتحسين ظروف العمال / الشركاء (زيادة في الأجور وتخفيض في ساعات العمل)، وبيع محصول التمور، وتوزيع العائدات بين مستلزمات الإنتاج (أجور، اسمدة، أدوات، أدوية، الخ) وتحسين الخدمات والمرافق العمومية في البلد.. لكن بعد انتخابات 2014 وبداية استقرار المؤسسات، سعت السلطة لإعادة امتلاك واحات جمنة. الوزير المكلف بالأراضي الميري جعل من الأمر قضية شخصية، وحوّلها إلى حرب سانده فيها الحزب الحاكم وخبراء اقتصاديون ليبراليون واعلاميون موالون. وصل الأمر بالسلطة في تشرين الأول/ اكتوبر 2016 الى منع الواحات من بيع محاصيل التمور وتجميد حساباتها البنكية وحتى حسابات التاجر الذي فاز بالمزاد العلني. محاولة السلطة إخماد أنفاس تجربة واحات جمنة كان له رد فعل عكسي، فقد أصبحت قضية رأي عام بامتياز.
كان يفترض بسقوط الديكتاتورية ان ينقل اليسار من الكهف وظلاله إلى النور. لكن سنوات القمع والعمل السري والصراعات الأيديولوجية اليسارية – اليسارية، جعلته يدخل مرحلة "ما بعد الثورة" وهو منهك ومنقسم وبدون رؤية واضحة للمستقبل.
خلال السنوات الأولى من تطورها، لم تلقَ التجربة اهتماماً كبيراً من عموم اليساريين، بل لم يسمع الكثير منهم عنها قط، على الرغم من أن رئيس الجمعية المسيِّرة للواحات يساري وحاول التعريف بالتجربة. السلطات التي حاربت واحات جمنة (مدعومة بأسطول من وسائل الإعلام) هي التي سلطت الضوء على التجربة، وجعلت الكثير من القوى اليسارية، ومن بينها الجبهة الشعبية، تنتبه لأهمية وفرادة ما يحدث في جمنة.
في تشرين الأول /اكتوبر 2016 وصل وفد من الجبهة الشعبية بقيادة زعيمها الأبرز، حمّة الهمامي، إلى جمنة لحضور عملية بيع المحصول التي حاولت الحكومة منعها، كما وقع أحد نواب الجبهة على وثيقة بيع المحصول على الرغم من أن العملية "غير شرعية" بمقاييس الدولة وقوانينها، وذلك في محاولة من الجبهة لتقديم دعم متأخر لأهالي الواحة. دعم كان أيضاً إعلامياً وسياسياً، فلقد دافع العديد من قياداتها عن واحات جمنة في القنوات التلفزية والإذاعات وفي البرلمان، وحاولوا الضغط على الحكومة للتراجع عن مساعيها في ضرب التجربة، كما شارك مناضلوها في التظاهرات السياسية الداعمة لها في العاصمة. إستحسان الجبهة لشكل ومقاصد تجربة التسيير الذاتي لم يتجاوز كثيراً موقف الدعم والتضامن، فهي لم تسعَ إلى إعادة انتاج مثل هذه التجربة في مناطق تونسية أخرى.
اعتصام "بتروفاك" في جزيرة قرقنة
في آذار/ مارس 2011، تحرك العديد من شباب الجزيرة لمطالبة الدولة بتشغيلهم ودفع شركة "بتروفاك" تونس البترولية (بريطانية - تونسية) للمساهمة في تنمية الجزيرة. رضخت إدارة الشركة بعد ضغوط كبيرة ورصدت ميزانية للمساهمة في بناء وصيانة منشئات عمومية، وتمويل أنشطة رياضية وثقافية وكذلك تسديد أجور 270 شاب تنتدبهم الدولة في مؤسساتها الموجودة في الجزيرة. بقيت الأمور مستقرة إلى ان قررت إدارة الشركة وقف صرف مرتبات هؤلاء الشباب بداية من كانون الثاني / يناير 2015 بدعوى انهم لا يعملون فعلاً. رد المعنيون بالأمر عبر الاعتصام وتعطيل الدخول والخروج من وإلى مقر الشركة. أثمر الضغط اتفاقاً جديداً في نيسان /ابريل 2015، لكن مرت أشهر طويلة ولم ينفذ الاتفاق، فقرر الشباب خوض اعتصام جديد في 19 كانون الثاني / يناير 2016 أمام مقر الشركة وتعطيل العمل فيها، وهو ما تواصل إلى 3 نيسان /إبريل 2016 عندما تناهت إلى مسامع المعتصمين أخبار مؤكدة بأن الحكومة قررت ارسال تعزيزات أمنية كبيرة لقمع الاعتصام. قرر المعتصمون نقل مكان الاعتصام إلى منطقة "مليتة"، وقطعوا الطريق أمام قوات الأمن بالمتاريس، فحدثت مواجهات عنيفة في ليلة 4 نيسان /إبريل ما حول مسألة معتصمين شبان إلى معركة جزيرة بأسرها وكذلك قضية راي عام. أمام تطور الأحداث وخوفاً من ردة فعل أبناء قرقنة الذين لهم حضور كبير في النقابات والحياة السياسية، قررت الحكومة سحب كل قوات الأمن من الجزيرة.. وتكليف الجيش بتأمينها.
عاد الاعتصام إلى مقر الشركة التي أصبحت تهدد بإغلاق أبوابها والخروج من تونس للضغط على الحكومة وتأليب الرأي العام على المعتصمين. بعد أشهر طويلة وتحديداً في أيلول /سبتمبر 2016، عُقِد اتفاق بين المعتصمين من جهة والحكومة والشركة من جهة أخرى، تموّله هذه الاخيرة، برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل، شمل تسوية وضعية المعتصمين، وإحداث صندوق لتنمية المنطقة، ودعم البحّارة الصغار.
الخوف كمحرك للتاريخ والسياسة في تونس
24-06-2017
اليسار- أساساً الجبهة الشعبية - كان حاضراً بقوة هذه المرة، فالناطق الرسمي باسم الاعتصام (احمد السويسي) ينتمي للجبهة الشعبية، وكان مناضلاً في صلب نقابة الطلاب اليسارية، "الاتحاد العام لطلبة تونس"، وهو كذلك قيادي في "إتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل" الذي تأسس سنة 2006 من قبل خريجي الجامعة وأغلبهم يساريون، وينتمي عدد من المعتصمين إلى اليسار أو هو متعاطف معه. ساندت الجبهة الشعبية الاعتصام منذ البداية سواء عبر مواقفها السياسية الصريحة او بطريقة غير مباشرة بفضل نفوذها في الاتحاد العام التونسي للشغل. وفضلاً عن تواجدها على الأرض بين المعتصمين او بين باقي أهل الجزيرة، فإن الجبهة تحركت في وسائل الإعلام دفاعاً عن المعتصمين وتنديداً بالعنف البوليسي والتعنت الحكومي. وتتالت بياناتها وتحركاتها، خصوصاً مع تطور العنف والمواجهات، فدعت إلى تنظيم وقفات ومسيرات مسانِدة أمام مقر محافظة صفاقس وفي تونس العاصمة، كما ساندت الاضراب العام في الجزيرة يوم 12 نيسان/ ابريل.
اعتصام "الكامور"
تقع منطقة الكامور في قلب الصحراء التونسية، وتحديداً في محافظة تطاوين الصحراوية المهمشة، وتعتبر منفذاً نحو حقول النفط الصحراوية التي تستغلها أساساً شركات أجنبية. بداية من 15 اذار/ مارس 2017، بدأت عدة مناطق من المحافظة بالتحرك رافعة مطالب متشابهة : التنمية والتشغيل. وعلاوة على المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، بدأ المتحركون بتعطيل حركة الشاحنات والسيارات من وإلى مقرات شركات البترول، وصولاً للإضراب العام يوم 11 نيسان /إبريل. تجذرت الاحتجاجات أكثر فأكثر الى أن برزت فكرة الاعتصام في منطقة الكامور (تبعد 150 كم عن وسط المدينة) لغلق المنفذ الوحيد المؤدي إلى حقول النفط الصحراوية ("البرمة" و"برج الخضراء"). نصب المعتصمون خيامهم يوم 23 نيسان/ إبريل في منطقة صحراوية معزولة وسط درجات حرارة عالية، معولين على إمكاناتهم الذاتية والتضامن العشائري لتوفير الحاجات الحياتية الأساسية. يمكن تلخيص مطالب المعتصمين في ثلاث مسائل: 1) تخصيص 20 بالمئة من عائدات الأنشطة البترولية لتنمية المحافظة، 2) نقل المقرات الرسمية للشركات البترولية التي تستغل حقولاً في المحافظة من العاصمة تونس إلى مدينة تطاوين، 3) التشغيل الفوري لآلاف من أبناء المحافظة في المؤسسات العمومية وشركات البترول.
حاولت السلطة انهاء الاعتصام، تارة بالوعود وتارة أخرى بالوعيد. ففي 27 نيسان /إبريل وصل رئيس الحكومة إلى تطاوين حاملاً معه حزمة من 64 اقتراحاً أغلبها التفاف على المطالب الثلاثة، فرد عليه المحتجون بإضرابٍ عام ثانٍ وتمسكوا بشعار الاعتصام: "الرخ لا"، أي لا تراجع بالعامية التونسية. ثم جاء دور رئيس الجمهورية ليطلب من الجيش التحرك لحماية المنشئات البترولية وفتح الطريق أمام شاحنات وسيارات الشركات العاملة فيها.
سيطر المعتصمون على مقر محطة الضخ يوم 20 أيار/ مايو وأوقفوا عملية نقل البترول عبر الأنابيب. لم تتأخر الحكومة في الرد فأرسلت تعزيزات أمنية كبيرة للمنطقة لفض الإعتصام بالقوة و "تحرير" المضخة، مما اسفر عن مواجهات عنيفة سقط فيها قتيل (دهسته سيارة أمنية). إثر انسحاب الأمن عاد المعتصمون وسيطروا على المضخة مجدداً ليبقى الأمر على ما هو عليه إلى أن تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل ولعب دور الوسيط بين الطرفين فتم التوقيع على اتفاق يوم 16 حزيران/ يونيو 2017
لكن أين اليسار من كل هذا؟
التيار الذي يُفترض انه المعني الأول بالنضالات الاجتماعية كان غائباً عن الاعتصام، وهو حال مجمل الأحزاب والجماعات اليسارية وليس الجبهة الشعبية فقط. لم يكن هناك وجود يساري على الأرض، وحتى بعض التحركات والبيانات اليسارية كانت ردة فعل على التدخل الأمني العنيف لفك الاعتصام أكثر مما هي تبني للحركة ومطالبها. أسباب هذا التخاذل عديدة، فمن جهة كان المعتصمون يرفضون تدخل الأحزاب السياسية خوفاً من "متاجرتها" بنضالاتهم واستغلال تحركاتهم، ومن جهة أخرى تعتبر تطاوين والمناطق المحاذية لها معاقل للإسلاميين، والتواجد اليساري وحتى النقابي فيها ضعيف جداً إن لم يكن معدوماً تماماً.
الحركات الاجتماعية في تونس تبدو متقدمة على اليسار. مناطق طرفية مهمشة خاضت نضالات كبيرة ومبدعة دون أن يكون لها سند أو مرجعية "أيديولوجية". وفي كثير من الأحيان يأتي اليسار متأخراً ويحاول مجاراة نسق الحركة دون أن يسعى إلى تجذيرها فيبدو وكأنه يركب على الأحداث أو يحاول تجييرها لصالحه.
بيان "الجبهة الشعبية" الصادر بتاريخ 23 ايار/ مايو ، أي بعد التدخل الأمني لفض الاعتصام، يعبر بوضوح عن موقفها الفاتر: "تؤكّد (أي الجبهة ) دعمها لكل الاحتجاجات والتحرّكات الاجتماعية السّلمية القائمة على مطالب مشروعة، سواء في تطاوين أو في مناطق البلاد الأخرى، وتدعو كل القوى الديمقراطيّة والتقدميّة والشعبيّة إلى التصدّي لكل محاولات ضرب الحريات والعودة إلى الاستبداد. وهي إذ تسجّل بإيجابيّة إدانة معتصمي الكامور لأعمال الحرق والنّهب التي طالت عدداً من المؤسّسات الرّسمية وتحميلهم مسؤولية تلك الأعمال لعناصر وأطراف غريبة عنهم، فإنّها تدعو أبناء شعبنا وبناته إلى الحفاظ على الطابع السلمي والمدني لاحتجاجاتهم وتحركاتهم، وإلى التزام اليقظة تجاه كل الأطراف الرجعية والشعبوية التي تعمل على تحويل وجهتها لخدمة أجندات معادية لمصالح الوطن والشعب". لا يبدو ان الجبهة الشعبية استوعبت فرادة ونوعية الحراك في الكامور أو لعل المخاوف والحسابات السياسية جعلتها تكرر جزء من خطاب السلطة وابواقها الإعلامية..
الاحتجاجات على قانون المالية (الميزانية) يناير 2018
قدمت حكومة يوسف الشاهد أواخر سنة 2017 للبرلمان مشروع قانون المالية الذي يضبط ميزانية الدولة لسنة 2018. تفرض الكثير من فصول هذا القانون زيادات متنوعة وكبيرة في الضرائب والاتاوات، مما سينعكس آلياً كزيادات في أسعار السلع والخدمات. وهي في الوقت نفسه منحت امتيازات للمستثمرين والأثرياء. الحكومة اعترفت ان قانون المالية هذا قاسٍ ولكنها دافعت عنه باستماتة واعتبرته اجراءاً مؤلماً لكنه ضرورياً لتقليص عجز الموازنة وتسديد ديون تونس. صادق البرلمان يوم 9 كانون الأول/ديسمبر 2017 على القانون بالأغلبية في جلسة قاطعتها المعارضة.
ثم جاء كانون الثاني / يناير (وهو شهرٌ لا تشبهه أشهر أخرى في تونس!) فانطلقت الاحتجاجات منذ الأيام الأولى من 2018، وبدأت في بعض المناطق الداخلية من البلاد ثم انتقلت للعاصمة ومدن كبيرة أخرى. بموازاة ذلك تأسست يوم 3 كانون الثاني / يناير حركة شبابية تحمل اسم "فاش نسْتناوّ" ("ماذا ننتظر؟") ضمت عدة نشطاء شباب، متحزبين ومستقلين، مع حضور قوي لليسار وخاصة "الجبهة الشعبية". دعت الحركة للاحتجاج والتحرك في كامل البلاد لإسقاط قانون المالية.
الجبهة الشعبية دعت هي الأخرى المواطنين للنزول إلى الشارع والتحرك ضد قانون المالية وضد إرتفاع تكلفة المعيشة الذي أصبح لا يطاق بالنسبة لأغلب التونسيين. شاركت قيادات الجبهة، ومنهم برلمانيون في المظاهرات، وحاولت الضغط سياسياً واعلامياً بهدف دفع الحكومة للتراجع. تركزت الاحتجاجات في المدن الكبرى، وخاصة في العاصمة التي عرفت العديد من احيائها الشعبية مواجهات ليلية عنيفة مع قوات الشرطة. اعتُقل مئات المحتجين (منهم يساريون من الجبهة الشعبية وغيرها) كما قتل متظاهر في مدينة "طبربة" بالقرب من العاصمة.
بدءاً من الأسبوع الثالث من شهر كانون الثاني / يناير بدأت المواجهات تخفت وتناقص عدد المحتجين في الشارع حتى تلاشى الحراك تماماً دون ان يسقط قانون المالية أو يتم تعديله. راهنت الحكومة على الوقت واستنزاف المحتجين وهو ما حصل فعلاً، حيث لم يستطع اليسار ان يجذر الحراك وان يرفع مطالب اكثر راديكالية.
استنتاجات..
لا يمكن أن يكون كافياً تقييم دور اليسار التونسي في الحراك الاجتماعي "ما بعد الثورة" من خلال أربع محطات، واستناداً لمواقف الجبهة الشعبية فقط، لكن على ذلك، فهناك استنتاجات أولية يمكن استخلاصها:
• الاستنتاج الأول: الحركات الاجتماعية في تونس متقدمة على اليسار، مناطق طرفية مهمشة خاضت نضالات كبيرة ومبدعة دون أن يكون لها سند أو مرجعية "أيديولوجية". في الكثير من الأحيان يأتي اليسار متأخرا ويحاول مجاراة نسق الحركة دون أن يسعى إلى تجذيرها فيبدو وكأنه يركب على الأحداث او يحاول تجييرها لصالحه.
• الاستنتاج الثاني: اليسار هو في أفضل الحالات قوة مؤثرة، وفي معظم الأحيان قوة ساندة، وأحياناً هو مجرد متضامن أو متعاطف.. ويندر أن يكون قوة مبادرة وقيادة. وعندما يلتحق بحراك اجتماعي ما فهو لا يقترح افقاً كبيراً بل يكتفي بالاحتجاج وبالدفاع عن مطالب إصلاحية أساسا. حتى التجارب المميزة الناجحة يكتفي بالاحتفاء بها ولا يفكر او لا يستطيع إعادة انتاجها في مناطق أخرى حتى تصبح امرا واقعا وتكون بداية حقيقية لتغيير نمط الإنتاج الاقتصادي ومنوال التنمية.
• الاستنتاج الثالث: ينتشر اليسار التونسي في المدن بالأساس، ويعجز في أغلب الأحيان عن التركز والتموقع في الأحياء الشعبية والأرياف والمناطق الداخلية. وجود شخص يساري مثلاً على رأس تجربة التسيير الذاتي في جمنة لا يعكس وجوداً لليسار هناك بل هو فقط مجهود فردي لمناضل استطاع ان يفهم طبيعة مجتمعه المصغر، وأن يبني معه تجربة تَجْمع بين الإبداع والاستلهام من المخزون الثقافي المحلي.
• الاستنتاج الرابع: عندما نقارن بين تفاعل الجبهة الشعبية مع هذه التجارب الاربعة نلاحظ ان اليسار لا يستطيع التحرك والتأثير إلا في المناطق التي يوجد فيها كوادر يسارية ناشطة حزبياً، وفي النقابات، أي أنه يحبذ الأرضيات الآمنة.
• الاستنتاج الخامس: مقارنة بالفترة الممتدة من 2011 إلى 2014، فإن حماسة اليسار قد خبت كثيراً وإنخراطه في الحركات الاجتماعية أصبح ضعيفاً جداً. هناك عدة أسباب يمكن ان تفسر هذا التراجع: إعطاء الأولوية للتصدي للإسلاميين، الانخراط في مسار "الانتقال الديمقراطي" والتخلي عن المسار الثوري، سعي "الجبهة الشعبية" لتسويق نفسها كحزب معتدل وواقعي له برامج ويريد الوصول إلى الحكم عبر الصناديق.
لم يستطع اليسار إلى اليوم أن يستغل حالة الغليان الاجتماعي المستمر في تونس وأن يكون قاطرة أو على الأقل "منسق" لحركة اجتماعية لها امتداد وطني. على كلٍ، لم يفت الأوان فالقادم أخطر.. لكن قبل كل شيء يجب على اليسار أن يحسم "أزمة الهوية" التي يعيشها منذ سنوات وان يحدد موقعه: هل يريد أن يكون يسارا إصلاحوياً يعمل في ظل النظام السياسي - الاقتصادي القائم أو يريد أن يكون قوة دفع وتغيير لهذا النظام...
_____________________
1- لمراجعة التسلسل الزمني المفصل للإعتصام يمكن الاطلاع على التحقيق المتميز الذي قام به موقع "انكيفادا".
2- http://front-populaire.org/?p=5075
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.