تونس "الخضراء" التي كانت تعتبر "مطمور روما" لم تعُد قادرة على الإيفاء بالاحتياجات الغذائية لقرطاج. العجز الغذائي يتفاقم كل عام، ومع استمرار تهاوي قيمة الدينار التونسي، أصبحت فاتورة الواردات أثقل. أسباب هذا التردي المستمر كثيرة، لكن يمكن حصر العوامل الأساسية بـ:
- المناخية: تأثيرات الاحتباس الحراري، التصحر، نقص الأمطار (وضعف القدرة التخزينية).
- الخيارات الاقتصادية - السياسية للدولة التونسية: تهميش القطاع الفلاحي لصالح الصناعات الخفيفة والتحويلية وقطاع الخدمات. تشجيع الفلاحين على ترك الزراعات غير المجزية مادياً (الحبوب أساساً والخضروات والبقول) لصالح الغرسات ذات المردود المادي العالي (تمور، غلال، حمضيات، زيوت) والتي يخصص أغلب إنتاجها للتصدير وجلب العملة الصعبة.
- في المستغَلات الكبيرة ذات الإمكانيات الضخمة والمردود العالي، يتعمد المستثمرون الكبار الاستغلال المفرط للأراضي عبر استعمال مكثف للأسمدة الصناعية والبذور المعدلة جينياً مما يفقر التربة.
- العوامل الاجتماعية - الثقافية: نتيجة للخيارات الاقتصادية والسياسية تلك، فإن الكثير من الفلاحين ينزحون سنوياً نحو المدن الكبرى ويندمجون في قطاعات إنتاج أخرى، أو يضخمون جيش البطالة الصريحة والمقنعة المتكدس في "أحزمة الفقر".
- سوء التصرف في المجال: الحجم الهائل للأراضي الفلاحية التي يساء استغلالها. بعض تلك الأراضي أهملها أصحابها لعدم قدرتهم على توفير الإمكانيات اللازمة لها والنقص في اليد العاملة، وبعضها الآخر هي أراضي "ميري" مملوكة من الدولة.
الأراضي الميري، تاريخ مبني على الباطل
وكل تلك أسباب جوهرية، وللملمح الأخير أهمية كبيرة، فهو في الوقت نفسه جزء من المشكل وجزء من الحل فهذه الأراضي الشاسعة ممتدة على كامل تراب تونس وتهمل الدولة جزءاً كبيراً منها، في حين يجوع الآلاف من الفلاحين الذين لا يملكون أراضي.
عند استقلال تونس كانت مساحة الأراضي الفلاحية المملوكة من الدولة تفوق 800 ألف هكتار، أي أكثر من 10 في المئة من المساحة الصالحة للزراعة. الأهم من ذلك، أنها من أكثر الأراضي خصوبة وإنتاجية. بعد سنوات من سوء التصرف أصبحت مساحتها في حدود 500 ألف هكتار (ثلثاها تقريباً يتصرف فيه مستثمرون خاصون، أمّا الثلث الآخر فتتصرف فيه الدولة مباشرة). تاريخياً تعود ملكية أغلب هذه الأراضي للعروش (القبائل) التونسية أو للأوقاف، لكن الغزاة المتعاقبين من عثمانيين وفرنسيين انتزعوها بالدهاء تارة وعنوة تارة أخرى..
الاستعمار
رسمياً، تشكل هذا "الجسم" (الأراضي الميري أو الأراضي المملوكة من الدولة) إبّان استعمار فرنسا لتونس. لكن في الحقيقة، الأمر أقدم بكثير، فالبايات العثمانيون الذين حكموا "الإيالة التونسية" كانوا هم الروّاد في هذا المجال. فمع استقرار الأمر لهم في أواخر القرن السادس عشر، بدأت رحلة انتزاع الدولة للأراضي وضمّها إما لبيت المال أو لأملاك الحاكم مباشرة. تسارعت وتيرة الانتزاع أكثر مع حكم البايات الحسينيين الذين التجأوا إلى تعمير الأراضي بعد تراجع مداخيل القوافل الصحراوية والقرصنة البحرية. بدأ الأمر بالأراضي "الموات" (المهملة) ليشمل في ما بعد الأراضي الخصبة والمنتجة. لم تعد الأراضي المنتزعة تُضم إلى الدولة بل إلى البايات شخصياً، فتشكّل ما يسمّيه التونسيون "رزق البيليك" (أي أملاك الباي، مشتقة من Beylical). مع قدوم "الحماية" الفرنسية سنة 1881، سيصبح الاستيلاء أكثر تنظيماً وفاعلية. استغلّ الفرنسيون جيداً وضعية الأراضي الفلاحية التونسية ليتمكّنوا من وضع أيديهم على أكبرها وأخصبها. ففي أواخر القرن التاسع عشر لم تكن الملكية الخاصة منتشرة إلا في بعض المدن، في حين أن ملكية أغلب الأراضي كانت جماعية أو غير محددة (أراضي القبائل، الأوقاف، أراضٍ مهملة، أراضي البايات).
كان هدف السلطات الاستعمارية من وضع اليد على الفلاحة التونسية مزدوجاً: من جهة بسط سيطرتها على كامل المجال وإخضاع التونسيين وإفقارهم، ومن جهة أخرى إغراء الفرنسيين بالقدوم إلى تونس والاستقرار فيها عبر تمكينهم من أراضٍ شاسعة وخصبة. لم تكتفِ فرنسا بالانتزاع بل قننته، وحرصت على حماية ما استولت عليه. تمّ استحداث "السجل العقاري" لتثبيت الملكيات وأنشئت المحكمة العقارية للبت في النزاعات (علماً أنّ اغلب التونسيين حينها لم تكن لديهم وثائق ملكية لعقاراتهم) وتمّ بعث إدارة المسح الطوبوغرافي. مكّنت السلطات "المعمّرين" القادمين من فرنسا من "مقاسم استعمارية" وامتيازات عدة حتى تفتح شهيتهم للتوسع في كامل أرجاء البلاد. استمرت الأمور هكذا حتى بعد توقيع اتفاقيات الاستقلال، ولم تتغير إلا مع صدور قانون "الجلاء الزراعي" (تأميم أراضي "المعمرين"، وهي التسمية المعطاة للفرنسيين) في 12 أيار/ مايو 1964.
الاستقلال ليس نهاية الاستغلال..
مع إلغاء نظام الأوقاف الإسلامي العام 1957 واسترجاع الأراضي التي نهبها المستعمر الفرنسي، تَكوّن لدى الدّولة التونسية الفتية رصيد عقاري ضخم جعلها أكبر كبار الملّاكين. وعلى الرغم من مطالبة قبائل وعائلات عدّة باسترجاع تلك الأراضي، بحكم أنها انتزعت منهم بالقوة والاحتيال، فإن النظام الجديد آثر أن يسير على نهج الحكّام السابقين وأن يستأثر بملكيتها واستغلالها. ومن أجل تأمين إدارة واستغلال هذا الرصيد العقاري جرى تأسيس "ديوان الأراضي الدولية". ومنذ 1964 وصولاً إلى 2011، تعددت سياسات الدولة بخصوص "أراضيها" الفلاحية حسب التوجه الإيديولوجي السائد خلال كل فترة.
خلال الستينيات من القرن الفائت، اعتمد النظام التونسي "اشتراكية الدولة" كخيار اقتصادي. في القطاع الفلاحي، فرضت الدولة سياسة "التعاضديات" (اشتراك الفلاحين في استغلال الضيعات) وجعلت من الأراضي المملوكة من الدولة الفلاحية نواة لهذا المشروع، ومثالاً يتوجب الاحتذاء به من طرف بقية الفلاحين. لم تصمد تجربة التعاضد الإجباري طويلاً، وآلت للفشل بسبب ضغوط الدول الغربية (فرنسا وأميركا بالأساس) وتحريض كبار الملاكين "المتضررين" وفساد المسؤولين المتواطئين معهم (الجناح الليبرالي في الحزب الحاكم).
مع بداية سبعينيات القرن الماضي، انتهج النظام التونسي منحى اقتصادياً ليبرالياً. أولى تجليات هذا الخيار تمثلت في شروع الدولة في بيع أراضيها الفلاحية للمستثمرين الخاصين وتشجيعها الزراعات التي تذهب ثمارها للتصدير أساساً. كما جرى التنازل عن أراضي عدة مجاناً لصالح التقنيين الذين يقبلون بالاستقالة من الوظيفة العمومية، وحولت ضيعات العديد من "التعاضديات" إلى شركات إنتاج ذات صبغة تجارية. هذا المسار تعمق أكثر خلال الثمانينيات، خصوصاً مع انخراط تونس في "برنامج الإصلاح الهيكلي" الذي فرضه صندوق النقد الدولي. بدأت الدولة تقلص بشكل كبير تدخلها في الشأن الفلاحي، وذلك عبر تحرير الأسعار وتشجيع المستثمرين الخاصين على استغلال الأراضي المملوكة من الدولة في إطار ما يسمى "شركات الإحياء والتنمية الفلاحية"، ورسملة البنوك المموِّلة (أغلبها مملوكة لمستثمرين خليجيين) لهذه المشاريع. بعد ذلك، في أواسط التسعينيات تخلى النظام عن سياسة بيع الأراضي المملوكة من الدولة للخاصّة لتبدأ المرحلة الأسوأ. فقرار وقف البيع لم يكن من باب الحرص على سيادة الدولة أو حماية للملك العمومي، بل تبين أنّه كان بوابة لفساد أعظم واستغلال كبير.
عود على بدء..
خلال فترة حكم بن علي أصبح الأمر مشابهاً لما كان عليه زمن البايات العثمانيين. فالرئيس وعائلته والدائرون في فلكه كانوا يتصرفون في هذه الأراضي، كما لو كانت غنائم حرب، يتقاسمونها حسب رتبهم وقربهم من الحاكم بأمره. وقف بيع الأراضي المملوكة من الدولة عام 1995 كان الهدف الأساسي منه تمكين الرئيس وحاشيته من الاستيلاء على تلك الأراضي بصفة مباشرة أو بواسطة عقود تسويغ مقابل معلوم رمزي. هكذا تم الاستيلاء على عشرات آلاف الهكتارات من أخصب الأراضي، وأصبحت توزع كمكافآت للموالين للنظام. المصيبة الأكبر أن جزءاً كبيراً من هذه الأراضي الفلاحية المنتزَعة لم يتم استغلالها في الإنتاج الفلاحي بل لبناء مصانع ومنتجعات سياحية ومدارس وجامعات خاصة، بالإضافة للمركبات السكنية والتجارية. وكأنّ الاستيلاء على الأرض وخيراتها لم يكن كافياً للكثيرين من أقرباء بن علي، فراحوا يستعملون العقارات المستولى عليها كضمانات للحصول على قروض من البنوك العمومية. وفي أحسن الأحوال، كان المستغل الجديد للأرض يستثمرها بطريقة غير سليمة لزيادة المحصول، دون أن يفكر بعواقب ذلك على التربة، أو أنّه يقوم بتأجيرها إلى فلاحين آخرين بمعلوم مرتفع جداً. "لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد" التي نشرت تقريرها بعد أشهر من انتفاضة كانون الثاني/ يناير 2011 رصدت بضع حالات استيلاء فقط، وأغفلت الجزء الأكبر، ربما نظراً لأنه في العديد من الحالات، يصعب إثبات الأمر عندما تكون كل الأوراق "سليمة". مناخ الحرية الذي ساد تونس بعد الثورة مثّل فرصة للعديد من الفلاحين الصغار والعاطلين عن العمل لكي يطالبوا بتمكينهم من أراضٍ صغيرة تضمن لهم قوتهم وكرامتهم.
•العديد من الأرقام والمعطيات الواردة في هذا الجزء من المقال مستمدة من دراسة أكاديمية (صدرت بالفرنسية) للباحث محمد اللومي المختص في السياسات الفلاحية والتنمية الريفية.
"Les terres domaniales en Tunisie", in Études Rurales, n°192, 2013, p.p. 43-60.