منطق الشقيقة الكبرى والعمق الاستراتيجي أكل عليه الدهر بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، بعد ان اصبحت تتوجس اكثر من السابق من النيات السعودية ذاتها، وبعد ان استُرجِع ما كان يراود العقل الباطن لحكام الامارات الخليجية، والقائل بحتمية التمسك بالحماية الامبراطورية الاميركية قلباً وقالباً، كبديل مقرر وجاهز ومطلوب لملء الفراغ الامبراطوري البريطاني، وللتحصن من التهديدات الاقليمية المتربصة بها، ومن محاولات ابتلاعها من قبل المملكة المتمددة بكل الاتجاهات. وخضوع امارات الخليج للقوامة الاميركية لا يؤدي لابتلاعها ككيانات، على عكس اي نوع اخر من الخضوع الاقليمي، بما فيه السعودي، بل هو بالأخص، لأنه يجد نفسه الأحق بضم وإذابة تلك الواحات في جوف صحرائه الشاسع.
الحرملك الاميركي
القوامة الاميركية على السعودية وضرائرها من الصغيرات الخليجيات امر مسلم به خليجيا قبل ان تتسلم أميركا مفاتيح الخليج. وهي لا تنظر هنا بالمنظار النمطي للقوامة، لأنها اولا غير مقيدة بعدد محدد منها ولا بتبعاتها الاخلاقية، ولا يجول بخلدها منطق «القديمة تحلى ولو كانت وحلة»، ولا «الجديدة احلى». وثانياً لا مقدم ولا مؤخر يربطها بأي واحدة منها، وثالثاً قوامة أميركا على توابعها حول العالم يحكمها رسم قانون القوة، فليس بقاموسها ارتباط ديني او مدني، بل هو أقرب للمسيار والعرفي والمتعة، لكنه ايضاً يختلف عنها من حيث الزمن، فهو قد يطول او يقصر بحسب الحاجة، وقد يحصل بالإكراه. وأميركا لا تدفع أجراً ولا تكتب اعترافاً، وإنما تملي على المعني ما سيفعله مذ دخوله في الحرملك الاميركي. والوهم الذي صدقه البعض، والقائل بأن السعودية قادرة على موازنة الميزان المائل، قد ذهب ادراج الرياح. فالاحداث المركبة والمتسارعة اقليميا ودوليا افرزت نتائج كشفت ظهور الجميع، وصارت الأحجام الميكروسكوبية لدول الخليج، من ناحية مناعتها الامنية، طاغية على أحجام ثرواتها الخرافية، حتى تسيدت معادلة طردية مفادها: كلما تضخم حجم الثروة الخليجية كلما تضخمت المخاطر الامنية عليها!
تغير الموقع السعودي
لم تعد الاوضاع كما كانت في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت السعودية هي مركز الثقل الحصين الاول للقوى المحافظة في المنطقة، والمعتمد الثاني (بعد اسرائيل) أميركياً لعرقلة اي تحول يزعزع الغلبة الاميركية على مقدراتها. فقد اثبتت مجريات الامور، وتحديدا منذ عقد التسعينيات، بأن لا حول ولا قوة للسعودية في رد أو صد أو الحد من التهديدات والمخاطر والحروب، ناهيك عن لعب دور محوري في المجريات التي تعصف بالإقليم، لان الوجود الاميركي المباشر، وبكثافة في الخليج خصوصا، والشرق الاوسط عموما، ازاح هذا الاعتبار الظاهري الذي لم يمتحن بجدية الا بعد حرب الخليج الثانية وتوابعها، وبعد هبة «الربيع العربي». فلا محور الاعتدال العربي (الذي انخرطت فيه وقتها كل من مصر والمغرب والاردن
ودول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة) الذي تصدرته السعودية نجح في تحقيق أي من الأهداف الاميركية ـ الاسرائيلية المرسومة لتصفية القضية الفلسطينية ومحاصرة ايران، ولا نجحت فيه مبادرة السلام العربية مع اسرائيل، التي اطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز عندما كان ولياً للعهد عام 2002. ما يعني ان هناك مسلكا اخر قد اتخذ، ونجح لحد ما في تحقيق بعض من تلك الاهداف التكتيكية الاميركية، اضافة الى مكاسب جانبية ابرزها تنشيط سوق بيع الاسلحة وفتح الطريق امام شركاتها النفطية الاحتكارية للاستثمار في مناطق جديدة من بلدان «الربيع العربي». فقد نجحت أميركا وحلفاؤها المحليون في إحلال الصراع السني ـ الشيعي محل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وتوسعة رقعة محاصرة ايران وحلفائها العرب، وهي وهم ما زالوا جادين في السعي لحرف ثورات الشوارع العربية عن مسارها المتطلع لإقامة انظمة مؤسسات ديموقراطية وتنمية حقيقية وعدالة اجتماعية، بحيث لا تؤدي إلاّ الى اقامة انظمة طفيلية مفككة وتابعة، لكن بزي انتخابي وحكومات مدنية.
قطر: في فضائل الخفة
كان الدور القطري قد تعاظم بنوازع ذاتية وأخرى موضوعية. فاذا كانت السعودية ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، فإن قطر هي ثالث اكبر منتج للغاز فيه. وصغر قطر وقلة سكانها هما نعمة لها وليس نقمة عليها، حيث يملك حكامها القدرة على تخصيص مبالغ أوفر في الاستثمار بالأوضاع الاقليمية والدولية، على عكس السعودية شاسعة المساحة وكثيرة السكان. أي أن مرونة السعودية أقل من قطر، وسكان قطر يتمتعون بحالة انسجام مذهبي وقبلي، عكس السعودية التي يتهدد فيها احيانا الحكم الوهابي للعائلة السعودية. وفي قطر قواعد عسكرية اميركية متكاملة، مشاة وطيران وتخزين، وتقوم في العديد والسيلية، قرب العاصمة الدوحة، اكبر قاعدة أميركية في المنطقة، وقد انتقلت اليها من السعودية عام 2002، القيادة العسكرية الجوية التابعة للقيادة المركزية للمنطقة الوسطى. ولا تجد الدوحة حرجا في ذلك، فهي ليست مهووسة بالتسلح، لان حماة الدار من الاميركان في عقرها، ولذلك فهي ليست مجبرة على استهلاك قدراتها بقوات «درع الجزيرة» التي لا جدوى منها، (وهي علاوة على ذلك رمز لمحاولات الهيمنة السعودية). وعليه، لم تكن قطر متحمسة لدخول القوات السعودية للبحرين، لأنها تعتبر ذلك تدخلاً خارجياً يثير الحساسيات الطائفية والاقليمية. 30 ألف عسكري من المشاة والمدفعية ورجال الدروع، هو تعداد قوات «درع الجزيرة». وبحسب قطر، فليس لها مبرر ما دامت أميركا ستتدخل بالنتيجة في حالة الحاجة لها، كما حصل في الكويت. اما السعودية فهي تتحرج من اي وجود عسكري اميركي معلن ومباشر لأسباب دينية متعلقة بحرمة دخول قوات غير مسلمة بلاد الحرمين الشريفين، لذلك فهي تلجأ الى موازنات واتفاقات سرية، علماً أن هناك تواجداً أميركياً في كل دول الخليج الاخرى، من الكويت وحتى مسقط، وهناك اتفاقيات توفر كامل التسهيلات المطلوبة للقطع البحرية واسراب الطيران الاميركية. قطر تبنت تنظيم الاخوان المسلمين، وهو اكثر حضورا وتنظيما وقوة من السلفيين الذين تبنتهم السعودية، الى جانب قطاعات من الوجاهات العشائرية في عدد من البلدان العربية خاصة بلدان «الربيع العربي»، من تونس وحتى سوريا مرورا بليبيا ومصر واليمن، وحتى في بلدان من خارج هذه الدائرة، كالسودان ولبنان والعراق وفلسطين، بل انهما يتنافسان بمد هذه التنظيمات الى بلدان الخليج ذاتها وخاصة الكويت والامارات. وقد غطت قناة الجزيرة على التفوق السعودي في الاعلام المقروء، ويبدو ان قطر تسعى حاليا للتفوق في الاعلام المقروء ايضا.
صراعات وانزعاج متبادل
النوازع الذاتية لقطر في صراعها الظاهر والمستتر مع السعودية، تنبعث من ردود افعال على محاولات السعودية للتوسع الحدودي البحري والبري على حساب قطر، ومحاولاتها لعرقلة استثمارات قطر الغازية الضخمة، كتعطيل مشروع مد الانابيب الناقلة للغاز الى الكويت والامارات. كما تنزعج قطر لتدخل السعودية في شأنها الداخلي، من خلال دعمها في حينه للشيخ خليفة آل ثاني والد الشيخ حمد، وجد أمير البلاد الحالي الشيخ تميم. بينما تنزعج السعودية عموماً من طرائق نقل السلطة في قطر، إن لجهة الانقلاب او لجهة التخلي عن الحكم، مما قد يدفع أصحاب الشأن فيها الى عقد المقارنات، حيث يتشبث اركان الحكم هنا بكرسي السلطة حتى اخر نفس. وعقد مقارنات كهذه يؤجج حالة التجاذب والصراع داخل اسرة آل سعود ذاتها، مما يزيد حرج حكام المملكة الذين لا يقوى أقواهم صحياً وعمرياً على إلقاء كلمة واقفاً.
المشاكل بين دول مجلس التعاون الخليجي الستة، عمان والامارات وقطر والبحرين والسعودية والكويت، عديدة، وبعضها مزمن على الرغم من حاجتها الموضوعية للتكامل والتقارب وحتى التوحد، وعلى الرغم من نجاحها في بلوغ اطار الحد الادنى من التواصل والتعاون السياسي والاقتصادي. الا ان حماية أمنها الاقليمي يبقى كاقتصاداتها، مرهون بالدواعي الاميركية اولا، وأما ما عدى ذلك فهو كزبد البحر.