تتملّص صيغة الجوع الوشيكة في مناطق النظام السوري من احتمالية أن يقارعها المجتمع ببديهيات احتجاجية، كالاعتصام والتظاهر. فقد قرر النظام منح كل عائلة ربطة خبز واحدة كل يوم مهما كان عدد أفرادها، تُسلّم لهم من خلال البطاقة الذكية، وبذلك فهو يحرم بعض الفئات الاجتماعية من غبطة شراء الخبز بالسعر الحكومي. الطلاب الجامعيون، والعازبون أهم تلك الفئات، وعليهم تدبّر تأمين خبزهم من أسواق موازية تنهبهم بفارق السعر. والنظام لا يعنيه أن يصير خبز الناس مادة جديدة تضيفها السوق السوداء إلى مائدتها العامرة.
هو إذاً تقهقر إضافي تقترحه صيغة الدولة الفاشلة على المجتمع العاجز، الفاقد لأدوات الحراك الطبيعية، المنتظِر لوصايا "جو بايدن" الجديدة، أو آخر صيحات موضة الحل السياسي الذي يبتكره العقل الروسي في قاعدة "حميميم".
من يصنع لعنات الشتاء؟
"العاجزون عن مغادرة البلد" هو التوصيف الاجتماعي المهذّب للباقين في سوريا. توصيفٌ يسخر من السذاجة السياسية التي نظّمت مؤخراً في دمشق مؤتمراً ل"دعم عودة اللاجئين"، وهو مؤتمر ينتمي إلى فلكلور دأبت عليه مؤتمرات مماثلة كالتي تنظمّها غرف التجارة والصناعة والاتحاد النسائي وروابط المصدِّرين، وسوى ذلك من تنظيمات حكومية مُدجَّنة.
عرس الدم السوري الذي لا ينتهي!
21-11-2019
روسيا في سوريا: من النافذة إلى البحر
31-01-2017
فعن أي عودة تتحدث السلطة؟ العودة إلى بلد بدأ شتاؤه باثنتي عشرة ساعة انقطاع للكهرباء، وغياب واسع وممنهج لتوزيع وقود التدفئة، وغلاء فاحش لا يتغذّى إلا على أرواح الناس الخاوية من المعنى. بلدٌ تتسيّد فيه المشهدَ الاجتماعي عصاباتٌ مسلحة صنّعتها الأجهزة الأمنية، تقتل البشر كما لو أنها تشرب الماء، تخطف، تسرق، تهرّب ثم تتبجح بنشر فظاعاتها تلك على مواقع التواصل الاجتماعي، بأسماء وألقاب صريحة لمرتكبيها، وهذا استخفاف بالمجتمع يوازي الاستعلاء عليه، بل ويتطابق معه... ما نجده جليّاً في السويداء أكثر من غيرها، حيث المجتمع المحلي القائم على تعايش عائلات كبرى لها مذهب ديني واحد، ومندمجة في علاقات مصاهرة متداخلة ذات منشأ عشائري.
تقهقر إضافي تقترحه صيغة الدولة الفاشلة على المجتمع العاجز، الفاقد لأدوات الحراك الطبيعية، المنتظِر لوصايا "جو بايدن" الجديدة، أو آخر صيحات موضة الحل السياسي الذي يبتكره العقل الروسي في قاعدة "حميميم".
لدينا نظام سياسي نجح في إخصاء الاحتجاج الاجتماعي في المناطق التي لم تثر عليه، وهي العاصمة ومناطق عيش الأقليات في السلميّة والساحل والجنوب بصورة خاصة، لدرجة أن صورة الرغيف الشهير المكتوب عليه "بدنا نعيش" لم تظهر في أي احتجاجات جديدة. والأزمة المستحدثة الآن تدور كلُّها حول فكرة غياب الرغيف نفسه!
أزمة النظام، إشاعات تخدّر العامة
حين ظهرت صورة كبيرة لأسماء الأسد إلى جوار صورة زوجها في مناسبة لتكريم شهداء ومعوقي وجرحى الجيش في الملعب البلدي في مدينة حمص، تكاثرت الإشاعات حول الدور الجديد المناط بالسيدة الأولى، وأبرزها أن الروس يدفعون بها بدل زوجها لانتخابات الرئاسة القادمة. فهي غير مسؤولة من الناحية الإجرائية عن دمار سوريا، والمَقاتل التي أصابت الطائفة السنيّة، أو هجّرتها، وهي ابنة تلك الطائفة في المقام الثاني، ولها شعبية تفوق شعبية زوجها في مناطق سيطرة النظام كونها ليست صاحبة الكلمة في تعيين الطاقم الحكومي، أو طاقم مجلس الشعب الذي يحمّله الموالون مغبّة نكد عيشهم. كما تظهر أسماء الأسد كامرأة قوية عاندت مرض السرطان وقهرته، وجرّدت رامي مخلوف من امتيازات حصرية نالها لأنه من أقارب الأسرة الحاكمة، وصادرت أموال شركاته، وجمعية بستانه الخيرية.
لكن سرعان ما تطفو إشاعة مغايرة، بأن الروس اتفقوا مع الأتراك على حلّ سياسي يسمح لبشار الأسد بالترشح لدورة رئاسية جديدة مدتها أربع سنوات، وهذا سيترافق مع تعديل دستوري فيه تقصيرٌ لمدة رئاسة الجمهورية من سبع إلى أربع سنوات، على أن يكون رئيس الحكومة معارضاً، ونصف الحكومة من المعارضين. وتسمح "إشاعة" الاتفاق تلك بعودة الضباط المنشقين، وحصولهم على كامل ترفيعاتهم ومستحقاتهم، وهم ينتظرون تبلور الإدارة الأمريكية الجديدة لمناقشة هذه الصفقة / الحل (سمعنا ذلك على الأقل من فراس طلاس ابن وزير الدفاع السوري السابق).
نُظِّم مؤخراً في دمشق مؤتمر ل"دعم عودة اللاجئين". فعن أي عودة تتحدث السلطة؟ العودة إلى بلد بدأ شتاؤه باثنتي عشرة ساعة انقطاع للكهرباء، وغياب واسع وممنهج لتوزيع وقود التدفئة، وغلاء فاحش. بلدٌ تتسيّد فيه المشهدَ الاجتماعي عصاباتٌ مسلحة صنّعتها الأجهزة الأمنية، تقتل البشر كما لو أنها تشرب الماء.
تظلُّ تلك، وغيرها، صيغاً متخيّلة لكسر الإيهام باستمرار الحياة القاحلة بصورتها الراهنة، المتوارثة منذ تسع سنوات، منذ أن قرر قسمٌ من السوريين أن "الربيع العربي" من حقه الوصول إلى دمشق، عاصمة الانقلابات العسكرية الشهيرة، بعدما غاب التغيير عنها خمسة عقود كاملة.
حلولٌ بدل "المذلة"
في واحدة من حلقات مسلسل "الخربة"، الذي حصد متابعة واسعة من السوريين (عُرض أول مرة عام 2011) نسمع عبارة: "الموز أو البازلاء"، وهي تحاكي واحدة من شعارات الانتفاضة السورية الشهيرة: "الموت أو المذلّة".
والغريب أن المتخيّلَ الدرامي ظلّ متواضعَ الإحاطة بالصورة اللاهثة للواقع الفعلي، سواء كان هذا التواضع منشؤه الخوفُ من إعادة كتابة الواقع، أو العجز عن مجاراة ما يحدث.
ليظلَّ المجتمع هو الهامش، والنظام هو العنوان الذي تفيض من أجله أجندات السياسة الدولية. فمن الذي فكر بالناس إذاً؟ لا أحد. إلا من راقهُ التبجّح وراء عناوين فارغة، مثل "الدول الصديقة للشعب السوري" وسوى ذلك من اشتقاقات لفظية بائسة المضمون. تلك صداقةٌ تقوم على فناء الآخر أو إذلاله على السواء، وعلى العالقين داخل سياج الوطن ابتكار ما يخفف وطأة مأساتهم، حتى وإن مالوا مع الهوى الروسي في اقتراحاته لتجنيدهم كمرتزقة. فبعد حراسة المنشآت النفطية أو القتال في ليبيا، جاءت حراسة مناجم الذهب في فنزويلا، والقبلة دوماً هي قاعدة "حميميم": هناك يختارون عباد الله الصالحين، ويعيدون إلى الديار من ثبت عدم صلاحه. ماذا بقي لهم هنا، في العتمة، وعلى عتبة الجوع ليبقوا؟ غير الدولة الفاشلة، تلك التي استرخت تحت ظلال شعار "الأبد" إلى الأبد.