هي علاماتٌ ليست في السياسة ولا بين "السياسيين"، التعبير الذي يكاد أن يصبح أجوفاً أو حتى مرادفاً للشتيمة. بل تجدها عند الشابات والشبان المبدعين، المبادرين (على الرغم من كمّ من القهر والحرمان المهوليَن) إلى أشكال شتى من التعبير عن مواقفهم، بالرسم والموسيقى والأغاني والمسرح والرواية والشعر.. وبإنشاء مواقع تَفرض على من يطلّع عليها الإعجابَ. ولنتذكر أن الانتفاضات الأخيرة في منطقتنا، في السودان والجزائر والعراق ولبنان، قد قامت على هذا، وليس على الخطابات والنصوص السياسية، ولا على الأحزاب والتنظيمات. كان بعض هؤلاء حاضراً، بصدق أو للاحتواء، ولكنه لم يتحول في أي لحظة ليكون أساسياً أو مقرراً للمسير والمصير. وهذه كانت نقطة قوة تلك الانتفاضات وفي الوقت نفسه، وبلا شك، نقطة ضعف بيّنة فيها.
لكنه يعني أشياء عدة، منها أن هذه المجتمعات التي مورس عليها كل ما يمكن تخيّله من اضطهاد، وما يتجاوز الخيال، بالقمع والإهمال والاحتقار والتجهيل والإفقار، وبالتيئيس بفعل خطاب مفتكَر وممارسات مدروسة ومخطط لها، هذه المجتمعات ولاّدة، تفاجئ من ظن أن الأمر "انتهى"، سواء كان حزيناً لذلك، أو كان ينتمي إلى شلة الأوغاد التي تتمنى استعباد الناس. وها التجربة، التي هي أكبر برهان، تثبت ذلك. من نسي 2011 بكل عجره وبجره (وقبله سواه كل بضع سنين)، لاقاه 2019! هؤلاء الذين كانوا أطفالاً في 2011، ومعهم إخوتهم الأكبر سناً، وأمهاتهم (نعم! والجدات)، انتفضوا وقابلوا أعداءهم بعناد تصحبه الدهشة.
الكتابة بين الخرائب
06-07-2017
يعني ذلك أيضاً أنها سيرورة تفاعلية، لا أحد يدري حظوظ لحظتها في الإشراق، كالتماعة تملأ الكون ضياء، وتشفي الغليل، وترضي المكلومين.. ولو إلى حين. ولأن الأمر صراع، فلا بد من إكمال الجملة بـ: ولا أحد يدري مآلاتها، ولا أين ومتى ستنجِز، ولا حتى قيمة الإنجاز نفسه. وقد تكون محاولات متكررة، كما في سيرة "سيزيف" (الأسطورة، التي تحكي عن إنسان كُتب عليه دحرجة صخرة حتى أعلى الجبل، ثم تهوي فيعاود الكرة) والتي يعتبر الكاتب الكبير ألبير كامو أنها لا تدعو لليأس بل للتمرد. إذ الخيارات الأخرى منحطّة وتشيع العبودية.
في فلسطين تحديداً - يا للهول الكوني لما يعيشه أبناؤها، ويا لبشاعة ما يردَّد على مسامعهم ليل نهار من أنه "قضي الأمر"، و"كفاكم أوهاماً" وهلمَّ جرا - في فلسطين، شبان وشابات يُنتجون نصوصاً تحليلية لواقع بلادهم، هي في غاية القسوة.. لكنهم لم ييئسوا، ولم يتخلوا عن مواقفهم وقناعاتهم، ولم يبيعوا أنفسهم باثنين من الفضة. لماذا يا ترى؟ هل هم بلهاء؟ هل هم حالمون؟ بل لأنهم مقتنعون بخوض الصراع. يعلمون بكل الموبقات المحيطة بهم، ويعلمون بكل جبروت الأعداء. لكنهم، بذكائهم المتقد ومواقفهم المبدئية، يُبقون الشعلة وضّاءة. في فلسطين تجد مبادرات متقنة ومهمة كل يوم، غالباً ما تكتشفها بالصدفة، ومنها على سبيل المثال وبعيداً عن الحصر، موقع "متراس" الذي نقتبس عنه، بالاتفاق معه، نصوصاً. وهناك سواه، وأحب أن أذكر "شاشات" سينما المرأة الفلسطينية، وهو برنامج درّب عشرات الشابات على صناعة السينما وانتج لهن أفلاماً عرضنا لها في "السفير العربي". ومؤخراً وقعنا على موقع بصري ننشر بعض إنتاجه في هذا العدد في زاوية "بألف كلمة"، يُفرح قلب بسبب المقدار العالي من الإتقان والدقة، وبسبب الموقف الذي يحمله... وهذه دينامية لن تخنق لا من قبل إسرائيل ولا من قبل مشيخات تافهة تظن نفسها إمبرطوريات. هذا هنا التاريخ كله، والواقع العنيد كذلك.
"ثورة تشرين" في العراق... مرّ عام!
08-10-2020
وهكذا في العراق وفي سواه. وليس على عَرّابي ودعاة التطبيع إلا الموت قهراً. قد يبدو غريباً أن يعاود شبان وشابات الكرة في ساحات الاحتجاج على طوال بلاد الرافدين وعرضها، حيث تعرضوا للقنص والخطف، واستشهد أصدقاؤهم. لكن ها هم! مجانين؟ بل عقلاء جداً، ومن يدعونهم إلى الرضوخ لحياة الصراصير، تلك الوحيدة التي تنتظرهم وتتوفر أمامهم، لم يفهموا شيئاً. ولن!
وهذا يستحضر مسألة الموقف، وهي مبتدأ كل شيء. فكما على المستوى الفردي، يمكن للإنسان أن يشيح ببصره عن المشكلات التي يعاني منها سواه، وأن يتأقلم هو نفسه مع بؤسه، ولعل أكثرية البشر من يفعل. ولكن يمكن أيضاً أن يهتم، أن يكترث، وألاّ يرتضي المهانة والجوع له ولسواه. تلك هي السياسة بمعناها النبيل. وذاك هو ما يجعل أُناساً من العالم كله يحملون فلسطين، كقضية حق وعدالة، في قلوبهم وعقولهم، ويتبنونها، ويبذلون الوقت والجهد من أجل نصرتها: مسلمين ومسيحيين ويهوداً وبوذيين، أو ملحدين. ومن كل الألوان والأعراق والأصقاع.
السلطة الجزائرية في مواجهة حراك 2019-2020
08-10-2020
تبين النصوص التي باشرنا بنشرها حول "انتفاضات 2019 الكبرى: نتائج مبتورة"، وحول "انتفاضات 2019: إبداع تأسيسي"، وسنجمعها عند اكتمالها بدفترين، تبيّن موقفنا من.. الحياة، وتوضح كيف أننا لسنا قلة ولا معزولين ولا واهمين. ولنا رفاق وأشباهٌ في كل مكان، وبخصوص كل شؤون.. الحياة، مجدداً!