حضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان بُعيد انفجار المرفأ، فلنقل بساعات. حضر طائراً على بساط، فرضيةٌ صحيحة تتعلق بشعور الصدمة العميقة التي تسبّب بها انفجار المرفأ، والكارثة التي تبعته. جاء مواسياً، بادئاً ليس من البروتوكول، وإنما من لقاء الناس في الشارع الأكثر تعرضاً للأذى جراء الحدث، الذي صادف أنه منطقة الجميزة - مار مخايل، المهيَّأة للتفاعل المتعاطِف معه. ولكنه لو جاء إلى سواها، لكان لقي ترحيباً حاراً في ذلك الوقت... لو جاء إلى طرابلس لحُمل على الأكتاف، بحسب التقليد المحلي، ولولا كورونا. كان هناك ما يشبه الإجماع في البلد على الامتنان لرئيس دولة كبرى، بدا أنه مهتم بمصير بلد تُرك يتخبط في مأساته الساحقة لأشهر طويلة. للمأساة عناوين لم تعد بحاجة لخبراء لتعدادها: قبل انفجار المرفأ المهول، انفجر النظام المصرفي اللبناني، كنز البلد، و"حيلته" الوحيدة التي يعتاش اللبنانيون منها وعليها، بفضل تحويلات أبنائهم العاملين في الخارج، وبفضل مدخراتهم التي صارت تطرح فوائدَ عالية بدرجة لا مثيل لها في أي مكان، وهي كانت مفتعلة ومنذرة بالكارثة كما ثبت في تجارب أخرى. وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مسروقين تماماً وبالكامل. عراة. وتُركوا بلا تفسير لما جرى، وبلا إدارة له، اللهم سوى القرارات الغامضة، الاستعلائية والمتناقضة، لجمعية المصارف والبنك المركزي، والاستنساب الذي مارسه كل مصرف. وزاد الطين بلة أن الشيء الوحيد الذي قيل صراحة أو تسريباً، هو أن الدولة استدانت الودائع لقاء تلك الفوائد المرتفعة، وأنها بددتها. وجرى ذلك بـ"القانون"، أي بقرارات رسمية، كما مورس طبعاً كل ما يُمارس عادة في الكواليس أو "تحت الطاولة"، من تهريب وتلاعب ومحاباة الخ...
فلما جاء ماكرون، ونطق بالحاجة الى حكومة "مِهَنية" تضع خطة لإخراج لبنان من مأزقه، متعهداً بتوفير المساعدة الدولية لها – وهي شرط حيوي لا مخرج من دونه – فهو عبّر عما كان يحلم به كل اللبنانيين التعساء، والذين كانوا قد فقدوا الأمل، فانسحقوا تحت خساراتهم، وبدأ من يمكنه ذلك في تدبّر هربه من البلاد، ليظهر أن مئات الألوف تقدموا بطلبات تأشيرات يبدو أنها مستجابة، وقرر الرحيل كل من كان بحوزته جواز سفر غير لبناني – وهذا تقليد شديد القوة هنا، بحيث يمكن القول وبلا أدنى مبالغة، أنه على رأس أهداف العائلات لأبنائها... ولمن لا يقدر، فهناك "قوارب الموت" التي تتوالى وتحمل قصص بشر تبكي الحجر.
.. سيزداد عدد البيوت التي تضم بين جدرانها عجائزَ وحيدين.
شهرٌ وأكثر قليلاً في الحفرة
10-09-2020
ليس ماكرون ملاكاً منقذاً متجرداً من الأغراض. هذا واضح وسواه سذاجة. أغراضه الخاصة به كسياسي، والمتعلقة بالانتخابات الرئاسية القريبة، والأغراض التي تتعلق بمصالح فرنسا في منطقة يدور حولها صراع دولي وإقليمي عنيف إلى درجة الإنذار بوقوع حروب. وهو حال سائر القوى، وليس فرنسا "الاستعمارية" وحدها. ولكن لبنان كان وما زال يحتاج إلى أي إشارة عضد. ومن يعجز عن فهم ذلك يكون خارج الواقع، وخارج أي إحساس بحال الناس.
**
يستحضر السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير عُدَّةً ليست للإقناع بل للمحاججة. يستحضر مفردات ك"استعلائي" و"استعماري" وسواهما من نعوت، ويعتبر أن المبادرة الفرنسية جاءت لتدعم السنّة (فهذا معنى "نادي رؤساء الوزراء"، وهو المنصب المخصص للسنّة، طالما أن الكلام طائفي بحت في مطالعة السيد حسن). وينتقد فكرة مداورة الحقائب الوزارية لأنها تنسف "أسس" (؟) يعمل وفقها النظام اللبناني، ويصر على مشاركة حزب الله المباشِرة في الحكومة ومعه سائر القوى. يعني وزارة تقليدية معهودة، أو شبه ذلك، وكأن البلد بألف خير. علماً أن الامر لا يخص الوزارات مهما كان شكلها، بل نية التوصل الى تسويات وتوافقات وطنية في بلد شديد التعقيد وزادت الازمة الراهنة من استعصاءاته الكبيرة.
ويتكلم السيد عن حماية ظهر المقاومة، فيلمّح إلى "7 أيار 2008" سيئ الذكر، حين استعرض قوته المسلحة في بيروت وعلى أهلها. بالطبع، فمن غير الواضح كيف أن وزارة المالية تحمي ظهر المقاومة بينما هي – رمزياً على الأقل – تحمي ظهر السرّاق الذين نهبوا البلد، أو تتستر على ترتيبات تفصيلية في الشأن. كان يجدر المطالبة بوزارة الدفاع لهذا الغرض وبهذه الحجة! لا سيما إذا كان منصب رئيس المجلس النيابي، السلطة الثانية في البلاد، غير كاف، سواء لهذا الهدف، أو لموازنة المحاصصة الطائفية بشكل "عادل".
حرب تموز: المنجز العظيم.. المبدَّد
13-07-2017
في الواقع، أعطى الخطاب انطباعاً قوياً بأن من يقرر مصير البلد هو حزب الله. تساءل ماكرون عما يجعل الحزب يشعر بهذا المقدار من القوة، وهو تلميح فيه تهديد ضمني. الجواب سلاحه وقوة تنظيمه وارتكازه إلى قاعدة شعبية فعلية (ليست بالتأكيد كل الشيعة، ولا حتى أغلبهم، لكنها موجودة ومتماسكة)، وتحالفه مع "التيار الوطني الحر" (حزب الرئيس عون، وصهره الوزير جبران باسيل) الذي يمكنه ارتكاب ما يشاء من موبقات، بما فيها إدخال وإخراج عملاء إسرائيل من وإلى لبنان، بما فيها التصريحات الملتبسة بشأن الصلح مع إسرائيل... إلا أنه يمارس حياله التسامح التام ويبقى حليفاً ثميناً ضمن منطق اقتسام النفوذ في البلد. ولكن، وعلى تلك الأسباب كلها، هناك سبب أكبر، وهو انحطاط تمثيل سائر المكونات، بحكم سيرورة طويلة، بينما حالة تماسك وقوة حزب الله هي الاستثناء الذي يعود أيضاً إلى أسباب استثنائية تتعلق بالإقليم وليس بلبنان.
ولفهم المنطق الناظم لخطاب السيد، يجدر الاطلاع على تسجيلات ليس هو المتدخل فيها، بل قادة من الحزب. هناك أولاً شعار تقليدي ينتمي إلى أجواء "اللطميات"، وقد نُبش وأُبرز بشكل خاص هذا العام بمناسبة عاشوراء على منصات رئيسية. وهو مرعب: "لا طيّب الله العيش بعدك يا حسين"! فما العمل؟
وهناك أكثر من مداخلة لحزب الله جرى تداول أشرطة الفيديو الخاصة بها، ويتكلم فيها مسئولون كبار عن "انتهاء لبنان البارات والأندية الليلية"، وأن لبنان الحالي "مقاوِم" وإلا لا يكون (وهي مقاومة يحدد مواصفاتها حزب الله نفسه ويقْصرها على نفسه)، وأن الوزارة تتشكل على أساس رضى حزب الله عنها، وإلا لا تكون الخ.. وهذه كلها – خطاب السيد الأخير كما هذه التفاصيل – تؤشر إلى الموقف كما هو قائم. فتشي بسيادة منطق الغلبة، وليس التوافق وليس التسوية الضروريان في كل مكان والمقدسان في لبنان، وإلا لا يكون.. فعلاً! وهنا خصوصاً فهذا منطق حرب أهلية، لو لزم الأمر.
لعل حزب الله يشعر بالمأزق، وبالضغوط، ولكنه مستعد للقتال، ويتفكر الوضع على أساس إقليمي وليس محلي فحسب. ولو وضعنا جانباً هراء "مقاومة إسرائيل" الذي يمكن أن يُستعمل بشكل وظيفي ولا شك، بما في ذلك الصدام العسكري نفسه معها، فالذي يتبقى يخص ما يحب أنصار الحزب تسميته "الصراع الجيوستراتيجي"، وهو في الحقيقة مصالح المعركة التي تقودها إيران على طول المنطقة، بدءاً من العراق المنكوب، وتضميناً لليمن وسوريا ولبنان على الأقل. وهنا، وبفجاجة، فعلينا أن نعلم أن حزب الله لا يشتري مصائر هذه البلدان ومجتمعاتها وشعوبها بشروى نقير، كما بينت وما زالت التجربة. وأن حساباته تتعلق بتحقيق الغلبة وحسب، ولو تطلب الأمر خراباً تاماً لها. والأهم، أن شرط السيطرة عليها يمر بالضرورة بجعلها في غاية البؤس، إن لم يكن قاعاً صفصفاً.
محنة لبنان
03-09-2020
وهذا – وليس الغباء أو الجهل – هو ما يفسر المواقف التي يعلنها الحزب. يعلم أنه لا يملك أي تأييد خارج دائرة أتباعه الخاصة. يعلم أن الكثير من الشيعة ضده، وهذا ظهر علناً في تحركات الانتفاض الأخير في لبنان، على الرغم من بنائه لشبكة زبائنية كبيرة في بيئته. يعلم أن سائر السكان يتمنون انكساره واقتلاعه، وأنه خسر نهائياً المعركة الفكرية والقيمية والأخلاقية. والمؤلم أن ذلك حدث لمصلحة قوى وجهات هي في غاية البشاعة.. وعلى رأسها إسرائيل نفسها!
في العراق، يمارس أشباه حزب الله - وحتى مجموعات كُلّف برعايتها - القنص والاغتيال ودرجة غير مسبوقة من الترهيب على الناس، ما زلنا بمنأى عنها هنا في لبنان.. لكنه يمكن أن يلجأ إليها، لو حِيل بينه وبين السيطرة على مصير البلد، ودفعه إلى أن يكون تحت رحمة ما يرى وما يريد.
لبنان متروك لمصيره. والله أعلم!