الجائحة في مصر: بين الطوارئ والاستثناء

نجحت الدولة المصرية خلال زمن ممتد في إدماج سلسلة من القوانين الاستثنائية داخل القانون الطبيعي، وكان ذلك يتم خلال غياب الأحكام العرفية وقانون الطوارئ. بمعنى آخر، تمّ ترسيخ قوانين الأحكام العرفية والطوارئ داخل القانون الطبيعي.
2020-08-07

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
ضياء العزاوي - العراق

فجرت جائحة كورونا سؤال الطوارئ والاستثناء عبر العالم. اضطرت مختلف الدول إلى اللجوء لتدابير استثنائية لمواجهة هذا الوباء، لا تختلف كثيراً عن الإجراءات التي تتخذ في مواجهة الحروب والإرهاب والإضرابات السياسية والاجتماعية. فالحفاظ على الصحة العامة يتلاقى مع الهواجس الدائمة للمؤسسات الأمنية التي تدور حول التجمعات، والرغبة المحمومة في الفصل والعزل الاجتماعي لمنع أي تلاقٍ ضد منظومة السلطة، ولترسيخ حالة الجهل الاجتماعي عن المجتمع نفسه، وتحويله إلى فضاءات معزولة يخشى بعضها البعض. ولذلك عاد سؤال: هل حقاً يجب أن نضحي بحرياتنا وحقوقنا التي يكفلها القانون والدستور لمواجهة الوباء؟ كما عاد سؤال مركزية الدولة الحديثة في إدارة عمليات الخطر والأمن بقوة، حيث يمكن أن تتفلت بعض القطاعات الاجتماعية، وتعرّض الآخرين إلى خطر داهم. كذلك على مستوى الأفراد، أعيد طرح سؤال عن مدى ما يجب أن تحضر مؤسسات لديها القدرة المباشرة على القمع والتدخل لمنع الأفراد من التصرف بحرية تامة، ما يضمر أن حرية الفرد قد تصبح خطراً داهماً على المجتمع ككل في مثل هـذه الحالات.

هل من تمييز بين الاستثناء والطوارئ في مصر؟

جاءت الجائحة إلى مصر في وضعٍ الاستثناءُ فيه والطوارئ مستقران، وحقوق وحريات الأفراد ممنوعة بالفعل. وهو ما يجعل إعادة التأمل في سؤال الاستثناء مهمة اجتماعية وسياسية ضرورية، بالأخص وأن هذه هي المرة الوحيدة منذ زمن بعيد، يعود إلى أربعينات القرن الماضي، التي يطرح فيها سؤال الطوارئ في علاقة مع حدث غير سياسي بشكل مباشر.

الاستثناء في مصر هو الأصل عبر تاريخها الحديث كله. فمنذ تأسيس ما يُعرف بالقانون الحديث والبنية القضائية التابعة له، والظهور المتلاحق لجملة من الحقوق المدنية والجنائية لصالح المواطنين، حدث صراع دائم بغاية استثناء عموم المصريين من جملة هذه الحقوق. فالتاريخ الحديث عبارة عن تتابع للأحكام العرفية ثم لقانون الطوارئ، حتى ترسّخ الحكم الاستثنائي في مصر في ظل بنية قانونية وقضائية حديثة، ولكن دائماً ما يعلق جانب منها أو أغلبها. كما نجحت الدولة المصرية عبر عقود متتابعة أيضاً في إدماج سلسلة من القوانين الاستثنائية داخل القانون الطبيعي، في ظل غياب الأحكام العرفية وقانون الطوارئ. أي أنه تمّ ترسيخ قوانين الأحكام العرفية والطوارئ داخل القانون الطبيعي.

المعضلة في مصر ليست إذاً هي نفسها معضلة أغلب الدول الليبرالية، سواء البرلمانية أو الرئاسية. فالطوارئ في هذه الدول تقلّص هيمنة المؤسسات المنوطة بضبط وتحجيم السلطة التنفيذية، وتطلق العنان للأخيرة في حالة مواجهة أمر سياسي أو اجتماعي أو بيولوجي طارئ. الطوارئ تعزز السلطات الاستثنائية، وهي معضلة تلك الدول. وإذا كان الاستثناء في مصر ورسوخ توسع السلطات التنفيذية وهيمنة البوليس على كافة مناحي الحياة هو الأصل، كما أن القانون داعم للدولة البوليسية وليس العكس، فيجب التساؤل عن التفرقة بين الطوارئ والاستثناء في بلد مثل مصر.

من الناحية الشكلية، يحمل الدستور المصري عبر تاريخه سمات الدساتير الليبرالية، وإن بدرجات مختلفة. ويتيح في بعض بنوده التعامل مع الطوارئ، والتصدي لها من حيث هي مخاطر تهدد السلم الاجتماعي أو تهدد حياة الاجتماع نفسه. ولذلك تضمّن الدستور منذ 1956 إدماج الكوارث الطبيعية كحالة استثنائية تدفع لإعلان حالة الطوارئ وتعزز من بعض السلطات الاستثنائية للسلطة التنفيذية. ولكن من الناحية العملية، فهناك منطق مقلوب في علاقة الطوارئ بالاستثناء. فالطوارئ في مصر غطاء شرعي وأيديولوجي للاستثناء القائم بالفعل. فكلما حدث أمر طارئ وجلل في البلاد، مثل الحروب أو الاضطرابات السياسية والاجتماعية أو الإرهاب، يكون لسان حال السلطة هو: انظروا ماذا يحدث؟ لهذا يجب أن تظل البلاد ترزح تحت وطأة المؤسسات الأمنية ويكون عصب الحكم هو المنحى الأمني والبوليسي الغليظ، وإلا انفلتت الأوضاع. فحملات الاعتقال وممارسة الإخفاء القسري كانت قائمة في مصر قبل الجائحة الأخيرة، ولكن الجائحة أعطت الدولة الغطاء الخطابي لحبس بعض الأطباء الذين اعترضوا على معايير السلامة الخاصة بهم وإدارة الدولة لملف الوباء. كذلك استغلت الدولة هذه الفرصة للإمعان في التنكيل بالمعارضين السياسيين ورفع جميع حقوقهم الطبيعية. مثل هكذا وضعية، تشكل مأزقاً حقيقياً على مستوى اللغة، وإشكالية كبيرة على مستوى طبيعة السيادة الهشة/ الغليظة للدولة المصرية.

يعرف الاستثناء بمقابلته مع الطبيعي. ولكن في مصر تمّ توصيف الطبيعي والاجتماع المصري نفسه على أنه مولّدان دائمان للخطر. وإذا كان الاستثناء يرسّخ السيادة وحكم السيد عبر دوره في استعادة الطبيعي عن طريق منحه سلطات استثنائية، ففي مصر لم نصل بعد للطبيعي.

هكذا تشكلت سيادة منقوصة للدولة، ولكنها تعيد إنتاج نفسها من خلال التلاعب بهذا النقص، ووصم المجتمع بأنه المتسبب الأول فيه. وربما تعبّر السخرية التي كانت منتشرة على صفحات التواصل الاجتماعي عن هذا الأمر بعمق: "إن نجونا فهي الدولة، وإن هلكنا فهو الشعب". وطبيعة الجدل الاجتماعي والسياسي في مصر، تدفع في أحيان كثيرة إلى تجاهل الطوارئ والاستثناء، وإلى سؤال أكثر مبدئية وبدائية في حقيقة الأمر وهو: هل ثمة أفق لطبيعة حكم غير بوليسي في عمقه، أي غير قائم على الحكم اللامحدود، حيث لا تعرف السلطة التنفيذية حدوداً لرقعة عملها؟

يعرف الاستثناء بمقابلته مع الطبيعي. ولكن في مصر تمّ توصيف الطبيعي، والاجتماع المصري نفسه، على أنهما مولدان دائمان للخطر. وإذا كان الاستثناء يرسّخ السيادة، وحكم السيد عبر دوره في استعادة الطبيعي عن طريق منحه سلطات استثنائية، ففي مصر لم نصل للطبيعي.

ولهذا نجد أنفسنا أمام مفارقة حقيقية بما يخص فيروس كورونا: فما الذي جدّ، أو يمكن أن يجدَّ في حالة طارئة مثل هذه الجائحة البيولوجية؟ أن أول استثناء فرضته هذه الجائحة لم يكن تغيير نمط الحكم إلى استثنائي، بل تغيير نمط الحياة اليومي. فالاستثناء جاء عبر مواعيد الحظر وغلق المقاهي وكافة أشكال الحياة اليومية من خلال تفعيل مزيد من صلاحيات قانون الطوارئ. وهو أمر لم يُقابل بكثير من المقاومة الفعلية الجادة من قبل عموم الجمهور (بالطبع هناك استثناءات هنا وهناك، مثل مقاهٍ سرية تعمل في الخفاء أو بعض محاولات اختراق الحظر، ولكن لم نشهد مقاومة اجتماعية جادة للقيود الجديدة التي فُرضت من قبل الدولة في مصر). وربما السبب في ذلك هو خطورة الحدث نفسه. فالالتزام بالتعاليم الطبية التي منبعها الأساسي منظمة أممية غير خاضعة لهيمنة الدولة القومية الحديثة، ومتجاوزة لها بحكم طبيعتها وبحكم العولمة بشكل عام، وبحكم الحالة المعولمة للجائحة نفسها، لا ينبغي أن يكون المقياس المركزي في تقرير طبيعة هذه الاستجابة. ومن السخف الحديث عن "وعي الشعب" وتعمد إهانته الدائمة، مثلما حدث في العديد من القنوات الإعلامية. النقاش ينبغي أن يتمحور حول قدرة الدولة على الإقناع، وفرض معايير صحية وتدابير وقائية للجائحة. وأما الدولة التي تمتلك تاريخاً طويلاً في الاستثناء، فتحمل كافة المقومات السلطوية والدستورية والتشريعية والتاريخية لمواجهة الأمر.

هل أخذ الوحش فرصة للانعتاق الإيجابي؟

من المفترض نظرياً أن دولة بهذه الطبيعة الاستبدادية تكون قادرة على فرض الاستثناء بسهولة. فتاريخياً لدى مصر باع طويل في التعامل مع الأمور الطارئة، مثل الحروب الكبرى (العالمية الأولى والثانية)، والحروب الإقليمية والوطنية، كذلك الأوبئة مثل الإنفلونزا الإسبانية والكوليرا. هذا التاريخ الطويل أتاح دقة كبيرة على مستوى التشريع. والأمر ليس محض فرض طوارئ. فمثلاً في أربعينات القرن الماضي، نرى بوضوح الدقة التشريعية في أدوار الحاكم العسكري، وضبط عمليات التموين وفرض رقابة عسكرية دقيقة على خطوط الإمداد للسلع الرئيسية وشكل خطوط التوزيع والمهام المنوطة بها، وذلك عبر تشريعات الأحكام العرفية والقوانين العسكرية في ذلك الوقت. كما تطورت الأجهزة الأمنية والبوليسية في مصر بشكل ملحوظ بعد انقلاب 1952. فتعددت الجهات الأمنية ومواضيعها المختلفة وأدوارها، وتعاظمت قوة المخابرات العسكرية، ثم تمّ إنشاء المخابرات العامة في 1956 وبدأ الجهاز بعمله الحقيقي في 1958. وكل من الجهازين يستحوذان على مساحات مهمة للتعامل مع الوباء. فالمخابرات العسكرية تتابع قرابة 400 ألف فرد داخل الجيش، وتضطلع بمراقبتهم وتتبع أنشطتهم المختلفة. ما يعني امتلاك القدرة، بالتعاون مع المؤسسات الطبية المدنية والعسكرية، على محاصرة الوباء. أما المخابرات العامة فهي مسؤولة عن متابعة كل ما يدخل ويخرج من البلاد ومراقبة الأنشطة الخارجية وتتبعها. ويتبع رصد حركة الفيروسات والأوبئة في هذا النطاق، لا بالنسبة لجهاز المخابرات العامة المصرية على وجه الخصوص، وإنما لجميع أجهزة الاستخبارات في العالم.

____________
من دفاتر السفير العربي
كيف تشتغل الدولة المصرية؟
____________

وتطورت وقتها قدرات البوليس، والأجهزة الأمنية من الناحية التقنية والكفاءة والتدريب والعتاد، وتسلحت بتقنيات وتدريبات، من خلال عناصر من ألمانيا النازية جلبتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكذلك خبرات سوفياتية، وخبرات وتقنيات من ألمانيا الشرقية. وترافق ذلك مع تطوير دائم منذ بدايات القرن العشرين في مصر في الأرشفة ومزيد من اختراق المؤسسات للمجتمع ومعرفة تفاصيله الدقيقة، من صحة وعمل وسجل جنائي ومسكن. ويمكن القول أنه بحلول ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي كان الربط بين السلطة الحيوية Biopolitics والاجتماع المصري وبقية مؤسسات الدولة وسلطتها آخذ في التطور. فالمطاعم والأوبئة والتطعيمات والنظافة كلها، وشكل العمران وتوسيع الطرق والحارات وإدارتها وإدارة النفايات... أصبحت جزءاً من إدارة الصحة العامة لعموم السكان، والأجهزة المنوطة بها تتدخل في أدق التفاصيل. لا يعني هذا بالضرورة أن كفاءة تطبيق هذه الأنظمة وجودتها كانت عالية. ولكن ذلك لا يمنع من القول أن هذا التحول التاريخي الكبير كان قد تحقق بكامل أركانه. إن البنية الأمنية، والروابط بين هذه البنية والمؤسسة الصحية، تحمل كافة المقومات المطلوبة مادياً وهيكلياً للتعامل مع هذا الأمر الطارئ.

أما من الناحية الشكلية، فقد اهتمت الدولة المصرية سريعاً بتقنين وضبط الوباء الجديد ضمن منظومة تشريعاتها. فبعض النشطاء والمتابعين على صفحات التواصل الاجتماعي، سخروا من إدراج الحكومة للفيروس كوباء، وإدراج هذا الأمر في الجريدة الرسمية. ولكن قراءة تفاصيل القرار، تسقط السخرية. فهناك تفاصيل شديدة الدقة لمعناه، من حيث وصف المساحات الجديدة التي يمكن أن تتوغل فيها السلطات الصحية والأمنية بفضله، سواء لعزل المواطنين والأحياء أو للتطهير والحجز. كما استغل السيسي الفرصة، ووسّع من نطاق قانون الطوارئ، حيث منحت التعديلات الأخيرة رجال القوات المسلحة حق القبض على المدنيين، ومنحت النيابة العسكرية النظر والتحقيق مع المدنيين في أمور غير عسكرية. كما تمنح التعديلات الرئيس السلطة المباشرة في تكليف الجيش والشرطة بمهمات محددة من قبله.

إذاً فنظرياً، الدولة لا تنقصها التشريعات أو الخبرات التاريخية والقوة السلطوية والاستبدادية الكافية للتعامل مع هكذا جائحة. فهل انعتق وحش الدولة بشكل إيجابي ليتصدى لظرف استثنائي حقيقي، ومن ثم يعرض كل قدراته وإمكانياته السلطوية في فرض إدارته وإرادته على المجتمع وقواه الاجتماعية المختلفة، وفرض أجندة تعامل واضحة ومقنعة ولديها القدرات التنفيذية والسيادة لإنفاذ تلك الإرادة؟

اهتمت الدولة سريعاً بتقنين وضبط الوباء الجديد ضمن منظومة تشريعاتها. ونشرت ذلك بقرار في الجريدة الرسمية، واصفةً المساحات الجديدة التي يمكن أن تتوغل فيها السلطات الصحية والأمنية بفضله، لعزل المواطنين والأحياء والتطهير والحجز. كما استغل السيسي الفرصة، ووسّع من نطاق قانون الطوارئ.

الحقيقة أننا لم نشهد انهياراً كاملاً للمنظومة الصحية على غرار إيطاليا وإسبانيا، أو حالات وفيات ضخمة مثل البرازيل، كما لم نشهد تراجعاً جاداً، وانتصاراً شبه كبير على توسع وانتشار الفيروس مثل ألمانيا. ولهذا فلا نستطيع أن نحكم بجدية على مدى انعتاق مارد الدولة في مواجهة الوباء. ولكن يمكننا أن ندرس بعض النواحي ونجادل بشأنها.

الأمننة: فراغ المحتوى وقصور التطبيق

عزز كورونا النزعات الأمنية على مستوى عالمي، في الوقت نفسه الذي تحاول فيه العديد من الحركات الاجتماعية عبر العالم تقليص وتفكيك سطوة وهيمنة المؤسسات الأمنية وخفض ميزانياتها. ولكن الجائحة منحت هذه المؤسسات عدة أدوار جديدة، بعضها تقليدي وبعضها الآخر مبتكر. كما أنها شرعنت كل هذا الإنفاق المهول على أجهزة المراقبة والتتبع والتحديث التقني الرهيب، واختراق هذه الأجهزة للحدود الكلاسيكية، حتى تلك المعتادة في الأنظمة القمعية. فعمل هذه المؤسسات أصبح لا يعرف حدوداً أو فواصل أو حتى لحظات انقطاع. وأصبح الأفراد في حالة مراقبة دائمة حتى في المساحات الخارجة عن نطاق عمل السلطات الأمنية. وبدلاً من دفع هذا الشبح الأمني الدائم خطوة إلى الخلف، يرى البعض أنه يجب تعزيزه وتسليحه. تعزيز النزعات الأمنية قائم هذه المرة على نواحٍ أنطولوجية لها علاقة مباشرة بالموت والحياة والوجود الإنساني. وتقوم عمليات الأمننة بتحويل كل مسألة اجتماعية وسياسية واقتصادية إلى مسألة أمنية، على أساس مستوىً جديدٍ من الهلع الوجودي المباشر.

ولمصر تاريخ عريق مع أمننة الخطاب وتحديداً منذ 1952. وهكذا رأى البعض في كورونا فرصة جديدة لتوسيع الخطاب الأمني وتطوير وتدعيم منظومته. ولكن ما فضحته الجائحة في مصر هو أن كل هذه الأمننة بلا إمكانيات وأنياب أمنية حقيقية متطورة. بل إن الأجهزة الأمنية نفسها لم تسع بجدية لتطويع لحظة الجائحة لطرح مخطط تطويري وتوسعي لها. هي فقط استغلت الظرف لتدعيم القمع، وإعطائه غطاءً جديداً أو توسيع بعض صلاحيات ونطاق قانون الطوارئ. فتعقيد الأمننة في ظل عالم يعيش لحظات من السيولة الشديدة، ورغبة السلطة على مستوى عالمي في التحول لشبح دائم، غير مرئي، ومتوغل في جميع مناحي الحياة ولحظاتها، يختلف عن الأمننة في ظل نظم قمعية محضة هدفها الرئيسي ينحصر في تعضيد أواصر القمع. فمثلاً، وعلى الرغم من كل هذا التعقيد الأمني، لم تنجح مصر في معرفة المريض صفر، أو كيفية انتقال الفيروس إليها، أو أن تقيم حصاراً حقيقياً بوجه توسّعه لمناطق الاشتباه، أو حتى أن تتمكن من تنظيم العمل (عملية الإنتاج) بشكل صارم وناجع. بل ولم تسعَ لمثل هذه الأهداف. فمصر ليست ألمانيا التي استطاعت فرض حظر واسع على البلاد، ولكن مع دقة متناهية في تنظيم عمليات الإنتاج والاستهلاك الضرورية بشكل صارم من الناحية التنظيمية، وبما يتعلق بعملية الإنتاج نفسها، أو بشكلها الأمني القائم على رصد دقيق ومنظم لحركة هؤلاء العمال لضمان منع تسرب الفيروس إليهم أو من خلالهم.

وكما عمقت الجائحة النزعة الأمنية والطلب عليها، فهي في مصر، وفي الوقت نفسه، فضحت مضمونها المهترئ ومحتواها وقدراتها. فكل هذه الأجهزة الأمنية المعقدة الأدوار والأبنية والوظائف، ومطلقة اليد على المجتمع، أظهرت هشاشة ليس في السيطرة على الوضع بشكل مباشر، ولكن في تفصيلاته التقنية والاستراتيجية المهمة. وهذا يثبت من جديد أن الأمن والحرب أمورٌ أعقد في عملها من جوانبها التقنية والفنية ذات الملمح الأمني والعسكري المحض. فالأمر يخص طبيعة التشكيلات الاجتماعية الحاكمة، ونمط الإنتاج، والإمكانيات المادية من حيث الموارد والكفاءة البشرية، وشكل وطبيعة التنظيم الاجتماعي.

ببساطة، فشلت الدولة في استمرار فرض التباعد الاجتماعي وحظر التجوال لثلاثة أسباب: 1- عجزها أمام رجال الأعمال، 2- صعوبة تطبيق إجراءات صارمة ودقيقة على عموم السكان في ظل استحواذ السوق غير الرسمي على 40 في المئة من الاقتصاد المصري 3- عدم قدرة الدولة على تخصيص وحشد موارد مالية لتغطية إغلاق جزئي للحياة.

استغلت الدولة الفرصة لتكريس أهمية العسكرة. وهنا نستدعي صورة فرق الجيش العظيمة التي قامت بهذا الاستعراض العسكري المهيب في ميدان التحرير، حيث نشرت فرقاً عديدة منوطة بحماية البلاد والتصدي لهذا الوباء، واستعرضت إمكانيات تقنية وبيولوجية لمواجهة الفيروس. ولكن أيضاً يجب أن يعود للأذهان مشهد الاستعراضات العسكرية في أيام قليلة قبل الهزيمة في 1967. فهي أيضاً كانت مهيبة. ولكننا أيضاً مرة أخرى أمام الاستعراض العسكري في مواجهة الكفاءة العسكرية. وبعيداً عن الصور المهيبة والخطابات الرنانة، يعيد التاريخ إنتاج نفسه، في شكل كارثة اجتماعية واقتصادية قد تنتج عن وباء فيروسي. فكم مستشفًى ميداني تم إنشاؤه؟ وما هي البدائل في حالة تداعي منظومة الصحة وهي على وشك الإنهيار؟ وما هي قدرات الدولة على حصر الإصابات، وتوفير معلومات دقيقة عن الوباء وسلوكه في مصر؟ كذلك ما هي خطط التمويل التي تتبعها؟ وكيف تقوم بشحذ وتعبئة مواردها لمواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لهذا الوباء؟

تقوم عمليات الأمننة بتحويل كل مسألة اجتماعية وسياسية واقتصادية إلى مسألة أمنية، على أساس مستوىً جديد من الهلع الوجودي المباشر.

ظهرت الدولة الأمنية ضعيفة في قدراتها على إخضاع القوى الاجتماعية الأقوى والمهيمنة على عمليات الإنتاج لصالحها.

الأسوأ من كل ما سبق، وهو غياب قدرة دولة هذه طبيعتها الأمنية المفرطة في فرض استراتيجيتها على القطاع الخاص ورجال الأعمال. وتجلى ذلك في أمرين: غياب قدرة الدولة على إخضاع القطاع الصحي الخاص لهيمنتها سواء من ناحية الإمكانيات أو الإدارة. وثانياً، التخبط الدائم بين تصريحات رجال الأعمال مثل ساويرس ووزارة الصحة ورئاسة الوزراء في بداية الأزمة.

ظهرت الدولة الأمنية ضعيفةً في قدراتها الأمنية في إخضاع القوى الاجتماعية الأقوى والمهيمنة على عمليات الإنتاج لصالحها.

دور العبادة والسيادة: صراع الطقس والحياة

وعلى عكس ما كان متوقعاً، أثبتت الدولة قدرات جيدة سواء على مستوى الإقناع أو الإنفاذ حينما قررت غلق دور العبادة. وبالأخص بالنسبة للمسلمين، حيث تزامنت الجائحة مع شهر رمضان. مرة أخرى نحن أمام أكثر من حقيقة مهمة: قدرة الدولة السيادية في حالة الدراسة والإقناع، وفي ظل خطة واضحة تصبح أكثر تماسكاً وقوة حتى في تعاملها مع مواضيع شديدة الحساسية والحرج مثل دور العبادة.

اتضح أن المسألة الدينية في مصر يمكن أن تُرشّد في لحظات الضرورة والاستثناء لصالح حسابات مادية، عقلانية وعلمانية أيضاً، لها علاقة ببقاء الاجتماع سليماً ومنع تعرضه لخطر داهم. وعلى الرغم من بعض أشكال التفلت والالتفاف على منع الصلوات الجماعية، ولكن النسب والمشاهدات اليومية تشير إلى التزام القطاع الأوسع من الناس بقرارات المنع.

ولعل أبرز الأشياء التي تجلت خلال هذه الفترة هي الصراع داخل الكنيسة القبطية في مصر. فالباحث جورج فهمي يشير إلى عودة الصراع بين الجناح الإصلاحي بقيادة البابا تواضروس نفسه والجناح المحافظ إلى العلن. كان آخر صراع واضح وعلني قد جرى في 2012 حيث تصادم المجمع الكنسي مع البابا حول مسألة إعادة التعميد في حالة الانتقال من الكاثوليكية إلى الأرثوذكسية والعكس.. ثم انفجر الصراع مرة أخرى بين الجناحين في مسألتي التناول وغلق دور العبادة. وهو لم يبق داخل أروقة الكنيسة أو المجمع المقدس، ولكنه خرج إلى صفحات التواصل الاجتماعي. هذه المرة نجح الجناح الإصلاحي في حسم الأمر لصالحه بسبب عدة عوامل أهمها: 1- قرار الدولة السيادي بغلق دور العبادة، 2- جلل الجائحة وخوف قطاعات كبيرة من الأقباط من انتشار المرض في أوساطهم، 3- قدرة الخطاب العقلاني في الموازنة بين الصالح العام وبين إعادة تأويل الطقس الديني بحيث لا يسقط الطقس في حالة انفضاحه وانكشافه أمام الحقائق البيولوجية.

قدرات الدولة على الحجب وسرية المعلومات

مهما حاولت الدولة المصرية حجب المعلومات والسيطرة عليها فهي لن تستطيع إخفاء كارثة وبائية إن وقعت بالفعل. منذ بداية الأزمة والكثير من النشطاء ورواد مواقع التواصل الاجتماعي يخشون أن تحجب السلطات في مصر المعلومات وتقوم بإخفاء كوارث الموت. والبعض يذهب إلى أننا أمام دولة لم تعتد الشفافية وتتعمد التضليل بشكل عام، وبالتالي لن نعرف حقائق الأمور أبداً. ويعزز أصحاب هذا الرأي حجتهم بالوصم الاجتماعي، وحرص الناس في مصر على تقاليدهم في الموت والدفن، وخوفهم التاريخي من توغل السلطات عليهم في أزمنة الوباء مثل الكوليرا، وأن لا أحد يريد أن تتعرض جثة ابنه أو والده للتشريح والفحص أو الحجب. ولكن بعيداً عن طبيعة الدولة وتاريخها السيئ في إدارة المعلومات والمعرفة، أو حتى بعض ممارساتها الوحشية تاريخياً في التعامل مع الفلاحين في زمن الكوليرا، والسمعة السيئة لأماكن العزل والكرنتينا، فنحن في عصر مختلف تماماً عن كل ما سبق.

لن يموت الناس في صمت. وإذا تفشى الوباء سيعرف الجميع ببساطة عبر أدوات التواصل الاجتماعي مهما بلغ مقدار قمع الدولة لأي تداول للمعلومات. كما أن بعض التجارب التي وقعت تشير إلى ذلك بالفعل، فالأهالي في أكثر من قرية ومحافظة رفضوا دفن بعض ضحايا كورونا ولم تتدخل السلطات لإخفاء الأمر، ولكن تدخلت لدفن هؤلاء الضحايا. هي أمور لم تتم في الخفاء، سواء بجانبها السيئ من قبل بعض الأهالي، أو في هذه الحالة الجانب الإيجابي من تدخل السلطة. ثم إن المحافظات المختلفة باختلاف طبائعها، سواء ريفية أو مدينيه، تخرج معلومات إثنوجرافية يومية في علاقتها بالجائحة بالإيجاب أو السلب. ولهذا فإخفاء كارثة أمر غير متخيل في هذا العصر وفي السياق المصري تحديداً.

هل يمكن أن تعزز الجائحة الدولة البوليسية في مصر؟

لن تضيف الجائحة نقلة كبيرة على مستوى الطابع الاستبدادي للدولة. فالاستثناء قائم بالفعل. ولكن هناك أمر يلوح في الأفق تحاول الدولة استغلال الجائحة لفرضه: أن تهدأ الحياة مبكراً. اعتاد الضباط في مصر على إطلاق مقولات تدعو إلى السخرية، ولكن مصيبتها أنها معبرة عن تفكيرهم الأيديولوجي في عموم الشعب مثل: "شعب صايع"، "شعب ما بينمش"، "ياريت مايتحركوش كتير"، "ياريت منشوفش وشوشهم"، "الناس في مصر كتير"، وهكذا... تعكس هذه المقولات رغبةً حقيقية قديمة لدى السلطة التنفيذية في تحجيم حركة عموم السكان وأن السكان عبء حقيقي، وأنهم موضع اشتباه دائم لدى السلطة البوليسية. فعلى الرغم من كل صلاحيات البوليس الواسعة، وإطلاق يده، يظل الأمر منهكاً.

هناك طموح لضبط النمط السلوكي اليومي. ومن هنا بدأت المناداة بالإغلاق المبكر للمحلات والمقاهي تلوح في الأفق. وهو ما صرح به أخيراً رئيس الوزراء في قرار الحكومة غلق المحلات والمقاهي في التاسعة مساءً، وإمكانية تعميم هذا القانون بعد الجائحة. قد تكون الجائحة فرصة على المستوى النظري لمزيد من الضبط الاجتماعي، والسيطرة أخيراً على إيقاع اليوم من ناحية التوقيت. ولكن مرة أخرى، هذا الأمر ليس محض إرادة سلطوية تتحقق من خلال التصميم على إنفاذ الأمر. فالموضوع مرتبط شرطاً بأنماط الإنتاج، وعدم الاحتياج الواسع للأنشطة التجارية والاستهلاكية الليلية، وكذلك بوجود مساحات أخرى لقضاء الوقت واللهو بعيداً عن المقاهي الليلية. والمقاهي ليلاً لها دور اجتماعي واقتصادي وخدمي، وهي نقطة تلاقي العديد من الأنشطة التجارية الأخرى، فهي في حد ذاتها عقدة مصالح تتجاوز المقهى نفسه كمصدر للدخل والعائد الاقتصادي.

لن يموت الناس بصمت. وإذا تفشى الوباء سيعرف الجميع ببساطة عبر أدوات التواصل الاجتماعي، مهما بلغ مقدار قمع الدولة لأي تداول للمعلومات.

الخطير في الجائحة، أنها قد تفتح شهية الدولة في مصر للمزيد من الهندسة والهيكلة الاجتماعية. وهو أمر قد يذهب إلى نقاط أبعد من أن تستطيع الدولة تحقيقيه منتشيةً بما أتيح لها من الاستثناء فوق الاستثناء.

خاتمة

تُعلمنا الجائحة ثلاثة دروس مهمة في مصر. لا يمكن للطبقة البرجوازية ورجال الأعمال التغافل عن السؤال الاجتماعي، وإمكانية الدولة والمجتمع في إدارة الموارد وتنظيم الحياة. فالاختباء في "كمبوندات" معزولة في الصحراء قد ينتهي بهم إلى عزل حقيقي وكامل، ولن تستطيع حمايتهم بالكلية من وباء عام يحمله فيروس متناهي الصغر. والدرس الثاني، لا وجود لدولة قوية بدون مجتمع قابل وقادر على التنظيم الجيد، سواء في ظل دولة ديمقراطية أو استبدادية. وأخيراً، إن استثمار الدولة في الجهل والأمننة، وتفكك أوصال المجتمع وعزله وحصاره الأمني الدائم قد ينقلب مفعوله على سيادة وقدرات الدولة نفسها في أي لحظة وتصبح على أعتاب كارثة كبرى.

ولكن المشكلة أن الكوارث لا تنتج بالضرورة نتائج عقلانية في استجابات السلطة والطبقات الحاكمة والدولة لها. فربما نشهد مزيداً من توسع الدولة الأمنية والأمننة على غرار النمط القديم. وهو ما نرى بعض ملامحه الآن. فالدولة مصرّةٌ على الاستمرار في حملة قمع واسعة للمعارضين والنشطاء الذين لم يعودوا نشطاء. كما أنها لا تتورع عن اعتقال الأطباء أنفسهم. كذلك في أثناء كورونا وفي ظل فزع الدولة من فقدان السيطرة الأمنية والسلطوية، يتوسع الأمن في اعتقال بعض الشابات من على بعض مواقع التواصل الاجتماعي مثل التيك توك، والأغرب هو توسع النيابة العامة الجديد من خلال بيانات رسمية في ربط أمر مريب وغير مفهوم، وهو تصنيف جديد يدعى "قيم الأسرة المصرية"، وتحويله إلى تصنيف قمعي/ أمني/ أخلاقي معياري لمزيد من ضبط المجتمع وفرض هيمنة وسطوة السلطة عليه. وربما تعزز الجائحة من الفصل الاجتماعي وتعزيز المدن المسيجة وعدم اختلاط الطبقات ببعضها البعض، إلا في أنساق خدمة الأفقر للأغنى وفي ظل شروط وحدود صارمة. كما أن الإنفاق غالباً سيذهب لمزيد من التدعيم الأمني والعسكري وليس لصالح البحث العلمي وتدعيم منظومة الصحة المتهالكة.

ومع اقتراب انتهاء الجائحة - أو هكذا يأمل العالم، بحلول العام المقبل حين الانتهاء من إنتاج اللقاح - ستكون العاصمة الإدارية على وشك الانتهاء هي الأخرى. وهو أمر لا يبعث على كثير من التفاؤل بما يتعلق بالخيال السياسي والاجتماعي حول إدارة عموم السكان في مصر، وإشراكهم في الثروة والموارد بشكل عام. فغالباً ستعزز العاصمة من مخيال آخر، وهو إمكانية الفصل والعزل الكامل بين الحكام والمحكومين، وبين الأغنى والأفقر. على جانب آخر، قد تبعث استراتيجية السيسي في القضاء على العشوائيات وتنظيم الاقتصاد غير الرسمي وإدماجه في أشكال مؤسسية وقانونية، على بعض الأمل المشوب بحظر وقلق أيضاً. فإعادة تنظيم المجتمع عمرانياً بشكل لائق – وبغض النظر عن بعض أوجه النقد المشروعة لبعض مناحي هذه الخطة - وخلق أشكال من الحياة المنضبطة اجتماعياً وصحياً ومن حيث فرص الحياة اليومية الكريمة للأجيال الشابة، وبالأخص مرة أخرى من ناحية العمران والبنية التحتية، كل هذه الأمور تجعل المجتمع بالضرورة قابلاً للتنظيم والترشيد، وشكل العمران مرتبط حصراً بإمكانية محاصرة المخاطر وعلى رأسها الأوبئة. فحتى الآن ولأسباب لا نعلمها، لم تنفجر الجائحة في مصر داخل مجتمعات يستخدم فيها أكثر من 50 فرداً مرحاضاً واحداً. أما القلق والحظر، فيأتي من الخوف من أن تتحول هذه الاستراتيجية من استراتيجية عمرانية لتوفير حياة لائقة للقطاعات الأفقر إلى استراتيجية أمنية معكوسة. فالأغنياء يتم عزلهم في هذه الكمبوندات الفارهة، والفقراء يتم عزلهم وحصارهم أمنياً داخل هذه المجتمعات الجديدة.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...