الاقتصاد غير الرسمي في مصر: حقيقة التهميش وأوهام التمكين

القطاع الخاص في مصر هو الاقتصاد غير الرسمي، وهو يستوعب جل الناتج المحلي والعاملين بأجر. ولكنه عبارة عن أنشطة منخفضة الإنتاجية والعائد التنموي، وأغلبها مدفوع بإيجاد القوت اليومي لا بالنمو والمراكمة.
2018-05-10

عمرو عادلي

أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة


شارك
| en
همام السيد - سوريا

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

احتل الحديث عن الاقتصاد غير الرسمي في العالم العربي حيزا كبيرا منذ اندلاع ثورات 2011 وما تلاها من أحداث سياسية واجتماعية، وقد اعتبرها الكثير من المراقبين والمحللين (من اليسار واليمين على حد سواء)، تعبيراً عن التهميش الاقتصادي والاجتماعي، وغياب التنمية التي تعاني منها قطاعات واسعة من المجتمعات العربية ولاسيما الشباب، وإن اختلفوا في تحديد الأسباب والعوامل الواقفة وراء ذلك. لقد كانت غلبة صفة "اللارسمية" informality على طيف واسع من الأنشطة الاقتصادية في البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية، مدعاة لمحاولات الربط بين استشراء الأنشطة غير الرسمية من جانب، والتهميش الاقتصادي والسياسي من جانب آخر. والحق، فإن اتساع نطاق الاقتصاد غير الرسمي لا يقتصر بحال من الأحوال على بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بقدر ما يمتد ليشمل أوجه عدة للنشاط الاقتصادي في العديد من البلدان "النامية" في جنوب آسيا وجنوب شرقها وإفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا الوسطى واللاتينية. ويمكن القول بصفة عامة أن حضور الأنشطة غير الرسمية يتزايد مع انخفاض مستويات الدخل، والذي يمكن اعتباره مؤشرا على تراجع مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ما هو الاقتصاد غير الرسمي؟

كما هو ظاهر من المصطلح نفسه، فإن الاقتصاد غير الرسمي يُعرَّف بالسلب أي بانتفاء صفة الرسمية عن أنشطته. وعادة ما يشير هذا إلى الأنشطة الاقتصادية التي تتعلق بإنتاج أو توزيع قيم اقتصادية في صورة سلع أو خدمات نهائية، وكذلك العمل للحساب الخاص أو للغير على نحو غير مطابق للقواعد التي تضعها مؤسسات الدولة في صورة قوانين وقرارات ولوائح إلخ.. وبالتالي فالاقتصاد غير الرسمي هو تلك المساحة (الافتراضية والمادية) لإنتاج وتوزيع القيم الاقتصادية بشكل يخرج عن تنظيم وتسجيل مؤسسات الدولة.. وقد يتسع الاقتصاد غير الرسمي ليشمل الوحدات القائمة على إنتاج وتوزيع السلع والخدمات، فتصبح منشآت غير مسجلة أو وحدات إنتاجية تعمل بدون ترخيص رسمي من السلطات المحددة قانوناً، بدءا من ورش ومصانع "بئر السلم" في محافظة القليوبية، وبالاخص في مدينة شبرا الخيمة المحاذية للقاهرة، ومروراً بالأنشطة العائلية التي تمارس في المنازل أو ملحقاتها، وانتهاء بالباعة الجائلين وأصحاب الفرَشات في الشوارع الذين يحتلون جزءاً من الحيز العام بدون تنظيم من السلطات العامة أو بالمخالفة الصريحة للقواعد القانونية الموضوعة.

الاقتصاد غير الرسمي ليس منفصلاً عن الاقتصاد الرسمي، بل هو معاملات منتشرة تتخلل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقد تجري من قبل مؤسسات هي نفسها رسمية، بل وحتى من أجهزة الدولة ذاتها، وهي غير رسمية طالما كانت معاملات غير منظمة طبقاً للقواعد القانونية.

وقد لا يقتصر الأمر فحسب على الوحدات الإنتاجية بل قد تتسع المعاملات الاقتصادية غير الرسمية لتشمل النفاذ لعناصر الإنتاج المختلفة. ويعتبر العمل هنا نموذجاً للنشاط غير الرسمي في الاقتصادات النامية وضمنها مصر. فكل عمل ينتج عنه قيمة صغرت أم كبرت، يجري بدون تطبيق أو بالمخالفة للقواعد الرسمية، هو جزء من الاقتصاد غير الرسمي. يضم هذا: العمل بلا أجر من النساء والأطفال في إطار مشروعات عائلية متناهية الصغر تنتج من أجل الاكتفاء الذاتي خاصة في قطاع الزراعة، أو من أجل التبادل في السوق كإنتاج الأطعمة أو السلع الرخيصة في المدن، ويشمل كذلك مختلف أشكال التوظيف الذاتي التي يعمل فيها الناس لحسابهم الخاص باستخدام كميات محدودة من رأس المال (الباعة الجائلون نموذجاً بارزاً لذلك، وكذلك أصحاب الحرف كالكهربائيين والنجارين والسباكين خاصة في حال عدم امتلاكهم لورش أو محال ثابتة للعمل). ويمتد الاقتصاد غير الرسمي إلى كافة أشكال العمل بأجر لدى الغير طالما كانت لا تخضع لقانون العمل، وطالما كان العمال محرومين من التعاقد الرسمي ومن الحماية الاجتماعية المنصوص عليها قانوناً. وينطبق هذا على العمال غير الرسميين في المنشآت الرسمية كحال تعيين المصانع ــ بل وفي بعض الأحيان الأجهزة الحكومية ــ لعاملين بدون عقود أو بعقود موسمية أو مؤقتة، وبدون التمتع بأي حماية تأمينية، كما ينطبق بالطبع على العمل في المنشآت غير الرسمية التي تعمل أصلا بدون تراخيص أو تسجيل.

إن أهم ما يميز الاقتصاد غير الرسمي إذاً هو أنه يحوي كافة المعاملات ذات القيمة الاقتصادية التي لا تنظمها أو تسجلها أجهزة الدولة أو سلطاتها العامة، والتي تجري بدون الرجوع أو بالمخالفة للقواعد التي تضعها أجهزة الدولة والتي من المفترض أن تكون قائمة على إنفاذها.

إن الاقتصاد غير الرسمي طبقا لهذا التعريف ليس "قطاعا غير رسمي" منفصلا عن الاقتصاد الرسمي، بل هو معاملات منتشرة تتخلل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقد تجري من قبل مؤسسات هي نفسها رسمية، بل وحتى من أجهزة الدولة ذاتها، طالما هي معاملات غير منظمة طبقاً للقواعد القانونية الرسمية. ولا يعني هذا بالضرورة مخالفة الأنشطة غير الرسمية للقانون بمعنى خرقها للنظام العام كالإتجار في المخدرات والسلاح والبشر، أو الرشاوى المالية والعينية وغيرها من الأنشطة الإجرامية، التي هي بحكم التعريف غير رسمية كونها تجري في تحد للنظام القانوني برمته. فغالب الاقتصاد غير الرسمي لا ينطوي على مخالفة للنظام العام للدولة بقدر ما يتم تنظيمه بقواعد بديلة ويخضع لآليات اجتماعية تقوم عليها مؤسسات من غير الدولة، كالعائلات أو الصداقات أو الروابط الخاصة، التي قد تكون أكثر حضوراً ونجاعة في إنفاذ الالتزامات المختلفة بين أطراف العملية الاقتصادية.

وبتبني هذا التعريف المرن للاقتصاد غير الرسمي، يمكن إدراك حجم الظاهرة التي يضعها الاقتصادي والإحصائي فريدريك شنايدر في 2010 عند 40 إلى 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المصري، أي القسم الأكبر مما يتم إنتاجه وتوزيعه سنوياً، وبما يستوعب الجزء الأكبر من منشآت القطاع الخاص ومن القوى العاملة (1). ولا تعد مصر استثناء في ذلك، إذ أن التقديرات التي وضعها شنايدر لبعض بلدان العالم النامي تظهر أن الاقتصاد غير الرسمي هو الحال الغالب على النشاط الإنتاجي والتوزيعي في معظم بلاد الجنوب، بل وأن له حضوراً ما، وإن كان أصغر بالطبع، في بلدان الشمال مرتفعة الدخل، ما يؤكد على نسبية الظاهرة.

ما هي مشكلة الاقتصاد غير الرسمي إذاً؟

وهل يعد مشكلة على الإطلاق؟ غلبة صفة اللارسمية على النشاط الاقتصادي في الوقت الراهن عادة ما ترتبط بانخفاض معدلات التنمية. فاقتصادياً، تتميز الأنشطة غير الرسمية في الأغلب الأعم بانخفاض في الإنتاجية، وضعف مهارة القائمين عليها، وانخفاض نصيبها من رأس المال سواء التمويلي كالقروض البنكية، أو المادي مثل الأرض والماكينات والأجهزة إلخ.. ويتماشى هذا مع صغر حجم الأنشطة غير الرسمية على الرغم من انتشارها، والتي عادة ما تقتصر على فرد واحد وربما فردين (عادة ما يكونان عضوين في العائلة نفسها)، أو تأخذ شكل منشآت متناهية الصغر توظف عددا صغيرا من العمال أو من أعضاء الأسرة. ومما يشوب تلك الأنشطة أن ضعف مستويات المهارة وتدني نفاذها لرأس المال يترجم إلى تضاؤل فرص النمو أو التوسع، وبالتالي فمعظم الأنشطة غير الرسمية منخفضة الإنتاجية، منخفضة الأجر، وموجهة لكسب القوت عوضاً عن توليد أرباح تكفي للمراكمة والنمو، وهو ما حدا بمدارس اقتصادية عدة، يساراً ويميناً، إلى اعتبار اللارسمية ودرجة انتشارها تعبيرا عن "التخلف الاقتصادي" بالمعنى الحرفي للكلمة أي غياب ملامح ومؤسسات الاقتصاد الحديث.

تتجلى الهامشية لا في علاقات توزيع الدخل والثروة والقوة فحسب، بل حتى في الحيز المكاني، إذ نجد أن غالب العاملين في الأنشطة غير الرسمية في المدن في العالم الثالث يسكنون ما يُطلق عليه "المناطق العشوائية" أو "مدن الصفيح"، وهي مستعمرات بشرية نشأت بشكل غير مخطَّط في العقود الوسطى من القرن العشرين جراء تدفق الهجرة من الريف إلى المدينة.

في عقد السبعينات من القرن الفائت، عندما ظهر مصطلح اللارسمية لأول مرة في أدبيات "منظمة العمل الدولية"، كان منصبَاً على حالات في بلدان إفريقيا التي يمثل القطاع الزراعي الجزء الأكبر من اقتصادها (2)، والذي تخضع فيه قوة العمل لقواعد غير رسمية تعكس تدني مستويات التنمية، وتؤدي لإعادة إنتاجها. أي أن اللارسمية هنا تعبر عن التخلف وتنبئ بانعدام فرص الانعتاق منه. وعلى اليمين، فإن كتابات الاقتصاديين المؤسسيين الذين ينتمون للمدرسة النيوكلاسيكية، من أمثال هيرناندو دي سوتو، يربطون استشراء المعاملات غير الرسمية بغياب علاقات السوق الحرة، حيث من المفترض أن يجري الإنتاج من أجل التبادل، وأن يكون التبادل مدفوعاً بالأسعار النسبية التي تعبر عن قوى العرض والطلب (3). دي سوتو وغيره يرون أن الاقتصاد غير الرسمي يعبر عن أنماط ما قبل رأسمالية (وبالتالي ما قبل حداثية) للنشاط الاقتصادي، وأنها ناتجة بالأساس عن عدم قدرة مؤسسات الدولة على توفير الحماية لحقوق الملكية الخاصة، والتدخل لإنفاذ التعاقدات، ما يرفع من تكلفة التعاملات الاقتصادية ومن مخاطر التبادل في السوق، سواء من قبل ممثلي السلطات العامة أنفسهم، الذين قد يستخدمون سلطاتهم للاعتداء على حقوق الملكية الخاصة، أو من قبل الفاعلين الآخرين في السوق، الذين قد ينتهزون فرصة ضعف مؤسسات الدولة، كالقضاء والشرطة، أو فسادها للتهرب من التزاماتهم التعاقدية. ويكون المخرج بالتالي هو قَصْر إنتاج وتبادل السلع والخدمات على الدوائر المباشرة للأفراد والعائلات، حيث تنخفض مخاطره. ولكن يكون هذا بالطبع على حساب الفرص المتاحة لتعظيم القيمة الاقتصادية التي تميز عمل السوق الحرة.

وبغض النظر عن الانحياز الأيديولوجي المعلن أو الضمني في تحليل الاقتصاد غير الرسمي يمينا أو يساراً، فإنه من النادر عدم ربط تفشي الأنشطة غير الرسمية بتدني مستويات المعيشة والتنمية. وهو لا يكون إلا في سياق من الهامشية الاجتماعية التي تلف أولئك المرتبطين بالاقتصاد غير الرسمي، خاصة العاملين بأجر والعاملين لحسابهم الخاص في أنشطة صغيرة ومتناهية الصغر. فهؤلاء في الأغلب يكونون ضمن الشرائح الأشد فقراً في المجتمع، وعادة ما يعكس نشاطهم غير الرسمي افتقادهم للحدود الدنيا من الحماية الاجتماعية أو الأمان الوظيفي أو الوقاية من الاستغلال، سواء من أصحاب العمل أو حتى في إطار العمل الأسري الذي يختلط فيه الاستغلال الاقتصادي بالتسلط الجندري على النساء والأطفال. وتتجلى الهامشية لا في علاقات توزيع الدخل والثروة والقوة فحسب، بل حتى في الحيز المكاني، إذ نجد أن غالب العاملين في الأنشطة غير الرسمية في المدن في العالم الثالث يسكنون ما يطلق عليه "المناطق العشوائية" أو "مدن الصفيح"، وهي مستعمرات بشرية نشأت بشكل غير مخطط في العقود الوسطى من القرن العشرين جراء تدفق الهجرة من الريف إلى المدينة في أغلب البلدان النامية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بحثاً عن فرص للعمل. وفي ظل غياب مستويات متقدمة من النشاط الصناعي، انتهت غالبية هؤلاء العاملين إلى أنشطة هامشية خدمية الطابع وغير رسمية، تتميز بضعف الإنتاجية والعائد وبالتالي ترتبط بالفقر. وارتبطت الهجرة بنشوء تلك الأحياء المحرومة من الكثير من الخدمات الأساسية، والمقامة بأشكال غير قانونية، ما يمكن اعتباره تجسيداً اقتصادياً واجتماعياً مادياً لانتفاء الرسمية، كما أنه تعبير فج وملموس عن ضعف قدرة الدول على ضبط وتنظيم تلك الأنشطة الاقتصادية، بما فيها السكن والهجرة.

الجانب السياسي للاقتصاد غير الرسمي

الاقتصاد غير الرسمي ليس ظاهرة اقتصادية فحسب بل له تداعيات وتجليات سياسية تخص علاقة الدولة بالمجتمع في العديد من البلدان النامية، ومن بينها مصر والعالم العربي. إذ أن استشراء اللارسمية في التعاملات الاقتصادية يعني ضعف أو حتى غياب قدرة الدولة، باعتبارها السلطة العامة ،على ضبط وتنظيم قسم كبير من نشاط المجتمع، وهو ما عده كُتاب مثل نزيه أيوبي علامة على ضعف الدولة وافتقاد أجهزتها للقدرات المؤسسية والسياسية، وللشرعية (4)، وكذلك للتغلغل في المجتمعات التي تحكمها. تظل جوانب عدة من النشاط الاقتصادي والاجتماعي لمجموعات كبيرة من البشر بمعزل عن يد الدولة، فلا تستطيع ضبط التفاعلات بحماية العمال على سبيل المثال، أو تعديل وضع النساء أو الأطفال، أو التنسيق مع رأس المال في قطاعات بعينها بغية تحقيق أهداف تخدم التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية، ولا تتمكن في الوقت نفسه من استخلاص الموارد الاقتصادية من المجتمع عبر تحصيل الضرائب، وبالتالي تتضاءل قدرة الدولة على إعادة توزيع الدخل والثروة، وكلها علامات على ضعف الدولة مؤسسياً وانحسار شرعيتها السياسية في مواجهة المجتمع، مهما بلغت درجة سلطويتها. بل إن أيوبي ذهب إلى اعتبار إفراط الدولة العربية في التسلط والقمع، ولجوء بعض الأنظمة للعنف بشكل متواتر لتثبيت سيطرتها، ما هو إلا دليل إضافي على مقدار ضعفها.

يقفز الطرح النيوكلاسيكي على المشكلة، فهو يتجاهل الشروط الاجتماعية والسياسية لإنشاء الأسواق في نظام رأسمالي قادر على النمو والتنمية، لصالح تصور فني أو تقني إلى حد كبير، يدور حول بناء كفاءة الأجهزة البيروقراطية والقضائية في مجالات معينة عادة ما تكون مرتبطة برأس المال الأجنبي: الشركات الكبرى أو كبريات الشركات المحلية.

ولا شك أن غلبة الاقتصاد غير الرسمي من الزاوية السوسيولوجية يعكس ضعفاً للدولة ويؤشر لوجود كيانات وتنظيمات ــ غير الدولة ــ تمتلك قدرة الضبط والتنظيم، في تجاهل للقواعد الرسمية التي من المفترض أن تضعها الدولة. بل إن اللارسمية قد تصل إلى حد اختراق أجهزة الدولة نفسها وإخضاعها لمصالح خاصة بأفراد أو بمجموعات، وعندها ينخرط ممثلو السلطة العامة في أنشطة تتجاهل القانون وربما تخالفه مخالفة صريحة. وهذه كلها علامات وأمارات على انحسار قدرة الدولة على تنظيم المجتمع وتوجيه النشاط فيه. وهي ملامح تتكامل مع الاقتصاد والمجتمع غير الحديثين الذين عادة ما تميز فعالياتهما الصفة غير الرسمية.

ينبغي الانتباه هنا إلى أن اللارسمية لا تعني بالضرورة ترتيبات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ما قبل حداثية، أي تقليدية باقية من العصور الوسطى أو قادرة على البقاء في مواجهة ضغوط التحديث. إذ يمكن اليوم بسهولة رصد اللارسمية كصفة للنشاط الإنساني في بلدان العالم النامي، وفي قطاعات لا تمت للزراعة بصلة مباشرة، وخاصة في الخدمات. ولا يخفى على أحد أن الهجرة إلى المدينة وخروج أقسام كبيرة من السكان من الاعتماد على الزراعة، كلها أجزاء لا يمكن إنكار أنها نتاج عملية التحديث نفسها، ما يجعل الاقتصاد غير الرسمي الحضري (المديني)، وغير الزراعي، انعكاساً لمشكلات التحديث في أغلب بلدان الجنوب، نتيجة لتعسر أو تعذر جهود التصنيع، وهو ما أنتج خللاً هيكلياً يصيب الاقتصادات وينجم عن عدم قدرتها على استيعاب المهاجرين من الريف والخارجين من قطاع الزراعة في أنشطة ذات إنتاجية مرتفعة وظروف عمل مستقرة. وعوضاً عن هذا تتضخم قطاعات خدمية هامشية منخفضة رأس المال ومنخفضة المهارات، وبما يفوق قدرة الدول في العالم النامي على التنظيم أو الضبط – خاصة مع ضعف قدراتها المؤسسية أصلاً وعجزها عن تحصيل الضرائب واختراق مؤسساتها العامة من المصالح الخاصة، بما يقوض الصفة "العامة" للسلطة ويجعلها تخدم مصالح المسئولين المادية المباشرة أو مصالح مجموعات اجتماعية ذات نفوذ قادرة على تسخير الدولة لنفعها الخاص.

الخروج من الهامش

إذا كان الاقتصاد غير الرسمي صنواً لضعف التنمية وكبتاً لفرص التقدم المادي والاجتماعي فكيف السبيل للانعتاق منه؟ يرى أصحاب التيار النيوكلاسيكي من الاقتصاديين أن الحل قانوني ومؤسسي في المقام الأول، يدور حول إيجاد الأطر التشريعية والتنفيذية والقضائية الكفيلة بحماية حقوق الملكية الخاصة. وأمثلة ذلك اختصار إجراءات تسجيل ملكية العقارات كالأراضي والشقق، وزيادة كفاءة الجهاز القضائي الناظر في نزاعات الملكية وقضايا الإفلاس وتصفية الشركات، وإنفاذ التعاقدات والاتفاقات بأقل تكلفة على المستثمرين. ويرى هؤلاء أن تحويل دور الدولة كي تصبح ضامناً فاعلاً لحقوق الملكية الخاصة يمكن الثقة فيها بتخفيض معدلات الفساد وعدم الكفاءة، كفيل بإتاحة الفرصة أمام نشوء علاقات سوق حرة تحمل حوافز للجميع بأن ينخرطوا في الإنتاج والتبادل والعمل، بما يزيد من فرص تحسين أحوالهم.. ومن ثمّ يتحقق المفهوم النيوليبرالي للتنمية، والذي يدور قلباً وقالباً حول تمكين أكبر عدد ممكن من الفاعلين من الانخراط في التبادلات السوقية الحرة، وينطلق من افتراض أن توليد النمو ينعكس إيجاباً على الجميع من خلال تساقط الثمار عبر خلق فرص العمل وتوسيع أسواق الاستهلاك.

يقفز الطرح النيوكلاسيكي على المشكلة إلى حد كبير، فهو يتجاهل الشروط الاجتماعية والسياسية لإنشاء الأسواق في نظام رأسمالي قادر على النمو والتنمية، لصالح تصور فني أو تقني إلى حد كبير، يدور حول بناء كفاءة الأجهزة البيروقراطية والقضائية في مجالات معينة عادة ما تكون مرتبطة برأس المال الأجنبي ــ الشركات الكبرى أو كبريات الشركات المحلية.

إنشاء رأسمالية تنموية في بلد مثل مصر لا يكمن فحسب في توزيع حقوق الملكية الخاصة على الجميع، لاسيما إذا كانت الغالبية من ذلك الجميع لا تملك شيئا بالأصل كي تحصل على ضمانات بشأنه، بل تدور حول شروط إدماج هؤلاء.

وهناك افتراض قائم على أن السوق قادر على استيعاب الجميع ومنحهم فرصاً أفضل من خلال العمل والإنتاج والاستهلاك. وبالطبع لا يوجد مجال للحديث عن دور أكبر للدولة من الأصل، إذ أن حصر دورها في حماية حقوق الملكية وإنفاذ التعاقدات ورفع كفاءة التقاضي في القضايا التجارية والاستثمارية ما هو سوى الوجه الآخر لتقليص دور الدولة في إعادة توزيع الدخل والثروة، والاستثمار العام في التعليم والتدريب المهني والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية، وهي المسائل التي تمس من الأصل شروط "دمج" أو "استيعاب" السوق الحرة لقطاعات عريضة من السكان من الفقراء والمهمشين في البلدان النامية. فإذا كانت الغالبية محرومة من التعليم أو فرص اكتساب مهارات مطلوبة، فمن الصعب أن يجدوا أعمالاً مرتفعة العائد أو الأجر حتى وإن رغبوا أو أجبروا على الانضمام لسوق العمل. وكذلك الحال مع الوحدات الاقتصادية مثل المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر، فإذا لم تتمكن تلك من النفاذ لرأس المال من أرض وائتمان، علاوة على المعلومات اللازمة للتبادل في الأسواق، فمن الصعب أن تنمو وربما حتى لا تنجو من التقلبات الاقتصادية التي تشوب عمل الأسواق في البلاد النامية.

إن إنشاء رأسمالية تنموية في بلد مثل مصر لا يكمن فحسب في توزيع حقوق الملكية الخاصة على الجميع، لاسيما إذا كانت الغالبية من ذلك الجميع لا تملك شيئا بالأصل كي تحصل على ضمانات بشأنه، بل تدور حول شروط إدماج هؤلاء. وإن اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمي سواء في أسواق السلع والخدمات أو في الصبغة القانونية للمنشآت الإنتاجية، أو في أسواق العمل ورأس المال (القروض غير الرسمية والإقراض في دوائر العائلات والصداقات)، ما هي إلا ملمح على ذلك الدمج البائس لقطاعات من الفقراء والمهمشين في المدينة والريف، لا يملكون رأس مال لا مادي ولا معنوي (مهارات وتعليم) في سوق حرة يهيمن عليها القطاع الخاص نظرياً، بينما الواقع هو أن التهميش يستمر كما هو، ويصبح القطاع الخاص في بلدان كمصر (ولكن كذلك في المغرب وتونس والأردن وغيرها من البلدان العربية غير النفطية) هو الى حد كبير الاقتصاد غير الرسمي، يستوعب جل الناتج المحلي ويوظف غالب العاملين بأجر أو من خلال التوظيف الذاتي، ولكنه قطاع خاص زائف لأنه في مجمله عبارة عن أنشطة منخفضة الإنتاجية، منخفضة العائد التنموي، وأغلبها مدفوع بإيجاد قوت اليوم لا بالنمو ولا المراكمة، ومن ثم يكون يراوح محله.

في مصر اليوم، وسواء كانت المنشآت نفسها رسمية ــ أي مسجلة لدى الدولة ــ أو غير رسمية، فإن علاقات العمل ليست رسمية. وتمتد تلك الممارسة إلى العمالة غير الماهرة في المنشآت الرسمية الكبرى، التي تقوم بالتمييز بين قواها العاملة لتخفيض حجم الالتزامات تجاه العمالة، سواء في شق الأجور أو فيما يتعلق بتحمل أعباء سداد أنصبة رأس المال من التأمينات.

إن استشراء معاملات الاقتصاد غير الرسمي هي في آن معاً، تعبير وسبب ونتيجة لضعف التنمية وللتخلف الاقتصادي والاجتماعي. وما من سبيل لكسر تلك الحلقة المفرغة إلا بتمكين قطاعات واسعة من النفاذ لرأس المال المادي (أراض صحراوية وتسهيلات ائتمانية ومهارات وتعليم وتدريب إلخ)، وذلك من الشباب في سن العمل من الجنسين (خاصة في ظل تحمل النساء للعبء الأكبر من البطالة والبطالة المقنعة)، وفي المدينة والريف (في ظل تحمل الريف للفاتورة الأكبر من الإفقار جراء التحولات النيوليبرالية في المنطقة العربية)، حتى يتمكن هؤلاء من الاندماج في السوق الحرة وهم ينتجون أشياء لها قيمة يمكن تبادلها وتحقيق العائد من ورائها، لهم ولمن يحصل عليها. وبمجرد أن تصبح السلع والخدمات والعمل ذات قيمة وعائد، ستنشأ القواعد الاجتماعية والسياسية الداعمة لبناء مؤسسات تحفظ الملكية الخاصة وتحقق عدالة التقاضي وكفاءته إلخ.. وليس بالعكس. فإيجاد تلك المؤسسات كما يصبو "البنك الدولي" و"هيئة المعونة الأمريكية" كشروط مسبقة لإنشاء نظام رأسمالي تنموي أمر غير قابل للتحقيق على الأرض، ومخالف للتطور التاريخي في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أمريكا الشمالية وغرب ووسط أوروبا، والتي شهدت في الأول ظهور برجوازيات وصل بها التراكم الرأسمالي إلى اكتساب الاهتمام والقدرة على إعادة تشكيل مؤسسات الدولة والمجتمع.. وإلا لكان الأمر حرفياً هو وضع العربة أمام الحصان ثم انتظار أن تمضي للأمام.

ولا سبيل لأن يحدث هذا دون النظر في القيود والفرص التي راح يتيحها الاقتصاد المعولم في العقود القليلة الماضية، حيث تمّ دمج اقتصاديات الدول النامية فيه، خاصة تلك الصغيرة التي لا تتمتع بالوزن الكافي لتعريف قواعد التبادل الاقتصادي، خلافاً لبلاد نامية متنفذة كالصين، وإلى حد أقل الهند والبرازيل، وهو النموذج الاقتصادي الذي تتبنى مراكزه السوقية، والمؤسسات المالية الكبرى وبنوك الاستثمار والتنمية، مقدمات ونتائج الأيديولوجيا النيوليبرالية، وما ينجم عن هذا من فرض تصورات معينة على سياسات ومؤسسات الدول النامية ترسّخ من المفاهيم محل النقد أعلاه، ما يضّيق من مساحة صياغة ترتيبات مؤسسية على المستوى الوطني قد تخلق نمطاً رأسمالياً تنموياً.

ملحق: تدقيقات في الاقتصاد غير الرسمي في مصر

مجدداً بعض التعريفات

تمثل اللارسمية بتعريفها ذاك سمة أساسية للنشاط الاقتصادي في مصر. وتشمل الظاهرة الكثير من المعاملات الاقتصادية - إن لم يكن أغلبها - والجزء الغالب من المنشآت الاقتصادية، والقسم الأكبر من القوة العاملة. ويعني هذا أن جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي يتم خارج رصد مؤسسات الدولة الرسمية أو تسجيلها وتنظيمها له، وخارج ما ينتج عنها من قوانين ولوائح وإجراءات. ومن الصعب الوقوف تحديداً عما إذا كان الاقتصاد غير الرسمي بالفعل ظاهرة حديثة نسبيا يمكن ردها إلى التمدين المفرط أو إلى تفكك نماذج التنمية الاقتصادية الدولتية التي إعتمدت على توسيع القطاع العام وعلى اضطلاع الدولة بدور مركزي في تخصيص الموارد من خلال الإنتاج والتوزيع وإعادة التوزيع، بجانب التوظيف المباشر للقوى العاملة.. أم أنها ظاهرة قديمة ولكن تم كشفها أو البدء في رصدها بشكل متأخر، وهو سؤال ربما لا يمكن الإجابة عليه مطلقاً.

ولكن وبشكل عام، تجب الإشارة إلى أن إشكالات الاقتصاد غير الرسمي هي حديثة بحكم التعريف، لأن قضية تنظيم وتسجيل الاقتصاد، وجعله مجالاً لتجلي دولة الحق وسيادة القانون، لم تخرج إلى حيز الوجود إلا عندما أخذت الدول الحديثة شكلها البيروقراطي الحالي في نهاية القرن التاسع عشر في غرب أوروبا والولايات المتحدة. حينها إنكشف الإرتباط العضوي بين حكم القانون وحماية حقوق الملكية الخاصة من جانب، وتطور النظام الرأسمالي من جانب آخر، خاصة في طور التصنيع الذي ارتبط بدوره بتضخم المدن مادياً من حيث عدد السكان، وسياسياً واقتصادياً من حيث الأهمية. وقد طرح الإشكال في إرتباطه بالتنمية عند استقلال القسم الأكبر من دول الجنوب أو ما بات يعرف بالدول النامية بعد الحرب العالمية الثانية. وينطبق هذا كثيراً على الحالة المصرية.

السياق التاريخي

كان الاقتصاد المصري حتى الحرب العالمية الأولى زراعياً صرفاً يكاد يعتمد في علاقته بالخارج على إنتاج وتصدير القطن الخام. وكان غالب السكان يعيشون في الريف ويعملون بالزراعة من خلال علاقات متنوعة ومتشابكة. وشهدت سنوات الحرب العالمية الأولى وما تلاها من عقود حتى الاستقلال في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، جهوداً دؤوبة من قبل البرجوازية الوطنية (وحلفائها من غير المصريين خلافاً للرواية الشائعة) وبتأييد وتدعيم من الدولة بعد معاهدة 1936، التي مكنت الدولة في مصر من إكتساب صلاحيات تنظيمية على الاقتصاد في مسائل ذات أهمية حيوية كفرض الجمارك وحماية الصناعة الوطنية، ثم مد مظلة القضاء الوطني تدريجياً ليشمل كافة أشكال نشاط رأس المال. وبالتزامن مع هذا فَرضت قضية الاستقلال الوطني في صيغتها الاقتصادية على الحكومات في أربعينيات القرن الماضي التصدي لحقوق العمال والتأمينات الاجتماعية، بجانب تمصير رأس المال الأجنبي العامل في مصر. وفي كلتي الحالتين إتسع دور الدولة في التصدي للشأن الاقتصادي، وهو الأمر الذي سيستمر حتى تحقيق الاستقلال الكامل في أعقاب حرب السويس 1956، وما تلاه من حركة تأميمات واسعة للمصالح الفرنسية والبريطانية (بجانب رأس المال المملوك ليهود من جنسيات متعددة)، الذي شكل نواة للقطاع العام بعد حركة التأميمات الكبرى في مطلع الستينيات التي اضطلع بها النظام الناصري، وقضى بها على القطاع الخاص المصري الكبير، بعد أن سدد ضربات قاصمة لكبار ملاك الأراضي من خلال سلسلة قوانين الإصلاح الزراعي بدءا من 1952.

في تلك الفترة، لم تكن قضية الاقتصاد غير الرسمي مطروحة كثيراً لأن دور الدولة في مصر، وغيرها من الدول لاسيما في العالم النامي، كان يُرى من منظور التصنيع. وطبقاً لنظرية التحديث كان القطاع التقليدي كثيف العمالة متخلف التكنولوجيا هو الزراعة ومحله الريف، في مقابل قطاع حديث صناعي وخدمي تعمل الدولة على تنميته بطرق شتى، إما بالتعاون والشراكة مع القطاع الخاص الوطني، كما كان الحال في العديد من دول أمريكا اللاتينية وتركيا بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أو بحلول القطاع العام محل القطاع الخاص، كما كان الحال في الدول الشيوعية بشرق أوروبا والاتحاد السوفيتي والصين، و إلى حد كبير الحالة المصرية في الستينات من القرن العشرين.

ثم أتى العقد الذي تلاه، وتزامنت فيه تغييرات عدة على الأصعدة السياسية والاقتصادية لتنتج الوضع الحالي للاقتصاد المصري، الذي تغلب عليه اللارسمية. ومن الصعب تعقب تفشي الاقتصاد غير الرسمي عبر عامل بعينه بمعزل عن العوامل الأخرى، وبالتفاعل معها. فمن ناحية، كان الانفتاح الاقتصادي بدءاً من 1974 إيذانا بإعادة إطلاق قوى القطاع الخاص بدعم من الدولة، بعد عقد حافل بالتغول على حقوق الملكية الخاصة بالمصادرات والتأميمات، وكان ذلك على خلفية سعي نظام السادات في أعقاب ست سنوات طويلة من الحرب مع إسرائيل إلى إلتماس علاج الاختلالات المالية والاقتصادية الكبيرة التي كان يعاني منها الاقتصاد المصري بجذب رؤوس أموال من الخارج في صورة منح وقروض واستثمارات، خاصة من بلدان الخليج العربي (وإيران قبيل الثورة الإسلامية)، التي أمست لديها فوائض بالغة الضخامة من الدولارات البترولية. وبالفعل فإن مصر قد نالت نصيبها من الثروة النفطية ليس فحسب في صورة تدفقات رسمية ذهبت للحكومة بل كذلك بفضل تحويلات العاملين المصريين بالخليج وليبيا، التي دعمت أنماطاً جديدة من الاستهلاك في المدن والريف.

لم يكن الانفتاح الذي أعلن عنه السادات نابعاً من قناعة أيديولوجية ليبرالية اقتصادية أو من انحياز مبدئي لاقتصاد السوق، بل كان اعترافاً من نظامه بتصدع نموذج التنمية الدولتي القائم على القطاع العام الذي دشنه عبد الناصر، سواء نتيجة تناقضاته الداخلية أو بسبب هزيمة 1967. النتيجة واحدة، وهي ان الدولة في مصر كانت أضعف من أن تستمر في الهيمنة على النشاط الاقتصادي، وآن وقت عودة القطاع الخاص إلى الصورة. ولكن هل كان القطاع الخاص حقاً قد ذهب كي يعود؟

إن الجواب على السؤال هو بالنفي. لم تقضِ الإجراءات الناصرية على القطاع الخاص بل قضت على المؤسسات والشركات وبعض الأفراد والعائلات ذوي التركيز الكبير لرأس المال، سواء كانوا من الأجانب أو من المصريين. أما القطاع الخاص الصغير ومتناهي الصغر في المدن، وهو على شكل ورش ومحلات البقالة والدكاكين فقد ظل كما هو. بل وقد يستغرب البعض أن شركات القطاع الصغيرة استمرت تهيمن على قطاع الإنشاءات في عز الحقبة الناصرية، إذ لم يضخ القطاع العام أكثر من ثلث الوحدات السكنية المبنية في تلك الفترة على الرغم من كل القيود والمخاطر التي كانت تحيق بنشاط القطاع الخاص. وينطبق الأمر نفسه على قطاع التجارة سواء بالجملة أو بالتجزئة، الذي ظل بشكل شبه كامل في أيدي تجار بمختلف الأحجام في القطاع الخاص، ما يثبت قدرة هؤلاء، دون القطاع العام، على الولوج لأركان السوق المصرية المتباعدة.

القطاع الخاص الصغير وربما حتى متناهي الصغر (ليس لدينا تفاصيل يمكن الاعتماد عليها لتقدير حجم المنشآت من حيث رأس المال أو العمالة أو حجم التعاملات)، لم يختف قط، ولكن فترة التأميمات والقطاع العام أضعفت من الرابط المؤسسي بين أجهزة الدولة ومنشآت القطاع الخاص، التي كانت تُرى على أنها بقايا لنشاط اقتصادي تقليدي متخلف في محتواه التكنولوجي، وغير مؤهل للمشاركة في عملية التصنيع، ناهيك بالطبع عن تعرض القطاع الخاص الصغير هذا نفسه لحملات تحريض باعتباره تجلياً لجشع الرأسمالية، ما حدا بعبد الناصر في 1966 للحديث عن تأميم تجارة الجملة والتجزئة، وهو ما لم يتم إما بسبب الحرب وإما لصعوبة اتخاذ مثل ذلك الإجراء (5).

ثم كانت السبعينات من القرن الفائت والتي شهدت تفجراً لشتى أنواع القطاع الخاص، لا الكبير المصري أو الأجنبي فحسب كما ركزت أغلبية الدراسات حينها، ولكن كذلك الصغير ومتناهي الصغر (والمعرّف غالباً بانه من يوظف أقل من خمسة عمال)، وغير الرسمي في صفته الغالبة، وهو انتعش في المدن والريف في قطاعات كالبناء والتجارة والخدمات، واستفاد من انفجار الاستهلاك الخاص مع تدفق الريع من البلدان النفطية، ومع استمرار النزوح من الريف إلى المدن – وخاصة القاهرة بمركزيتها المفرطة إدارياً واقتصادياً وسياسياً، وبدرجة أقل الإسكندرية. ومع انتعاش حركة التجارة اتسع السوق للقطاع الخاص بأشكاله المختلفة وأحجامه المتنوعة. ومع تباطؤ نمو التوظيف العام، سواء في جهاز الدولة الإداري أو في شركات القطاع العام منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، اتسع سوق العمل لدى القطاع الخاص هو الآخر، الذي كان في غالبه الأكبر غير رسمي، بوجود الملايين من العاملين لحسابهم الخاص. وهؤلاء ليسوا أصحاب منشآت أو من "البرجوازية الصغيرة" كما يحلو للبعض يميناً ويساراً نعتهم، بقدر ما أنهم أقرب للبروليتاريا ولكنهم لا يملكون نفاذاً لسوق العمل بأجر، فيضطرون للعمل لحسابهم الخاص عادة أملاً بدخل يكفيهم وعائلاتهم استهلاكهم الأساسي، وغالبا ما يكون ذلك بانتظار أن يتسنى لهم الحصول على عمل بأجر.

الواقع الراهن

تقاطر المصريون في سن العمل للعمل بأجر لدى منشآت القطاع الخاص، وكانت علاقات العمل في عمومها غير رسمية، أي لم تجرِ طبقا لقانون العمل، ولم تمكِّن العاملين من التمتع بحماية تأمينية أو بأمان وظيفي. وانطبق هذا على المنشآت متناهية الصغر (توظف أقل من خمسة عمال) والتي استوعبت نحو 45 ــ 47 في المئة من إجمالي العاملين بأجر لدى القطاع الخاص بين سنوات 1998 وحتى 2012. ثم، وطبقا لأسعد وكرافت (6)، كان 88 في المئة من العاملين بهذه المنشآت في 2012 يعملون بشكل غير رسمي.

وترصد دراسة لـ"منظمة العمل الدولية" في 2014 أن نحو 90 في المئة من الشباب العاملين يعملون بشكل غير رسمي. وتقاطع هذا إلى حد كبير مع عدم رسمية المنشآت ذاتها، ففي تقرير قديم نسبياً لوزارة التجارة المصرية صادر في 2003، مثلت المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر غير الرسمية (أي غير المسجلة لدى الدولة) نحو 83.5 في المئة من منشآت القطاع الخاص قاطبة في 1998، وذلك مقارنة بـ82.8 في المئة في 1988، ما يفيد عن الزيادة في عقد من الزمن، وما يفيد في الوقت نفسه عن قدم الظاهرة نسبياً (7).

وسواء كانت المنشآت نفسها رسمية، أي مسجلة لدى الدولة، أو غير رسمية، فإن علاقات العمل لم تكن رسمية، وامتدت تلك الممارسات إلى العمالة غير الماهرة في المنشآت الرسمية الكبرى، والتي تستمر حتى اليوم في التمييز بين قواها العاملة لتخفيض حجم الالتزامات تجاه العمالة سواء في شق الأجور أو فيما يتعلق بتحمل أعباء سداد أنصبة رأس المال من التأمينات.

تضخّم القطاع الخاص بشكل مستمر إذاً منذ سبعينات القرن العشرين حتى أصبح يحوز اليوم على ثلثي الناتج المحلي الإجمالي المصري، وعلى النسبة نفسها تقريباً من العاملين بأجر ولحسابهم الخاص. ولكن تطور هذا القطاع الخاص يتسم بالصغر في الحجم والتدني في الإنتاجية والتميز بالصفة غير الرسمية، والتضخم في العدد في الوقت نفسه. وهو ما يعيدنا إلى مقدمة هذا النص حول الشروط السياسية والاجتماعية لنمط رأسمالي تنموي على الصعيدين القومي والمحلي، التي من شأنها أن تنعكس على الترتيبات المؤسسية الرابطة بين الدولة بأجهزتها وقوانينها ولوائحها، وبين الأنشطة الاقتصادية الخاصة صغيرها وكبيرها، في جانبي رأس المال والعمل وما بينهما.


1) Schneider, Friedrich, Andreas Buehn, and Claudio E. Montenegro. "New estimates for the shadow economies all over the world." International Economic Journal 24, no. 4 (2010): 443-461

2) Mosley, Paul. "Implicit models and policy recommendations: Policy towards the ‘informal sector in Kenya." IDS Bulletin 9, no. 3 (1978): 3-10

3) De Soto, Hernando. The other path: The economic answer to terrorism. Basic Books (AZ), 2002

4) Ayubi, Nazih N. Over-stating the Arab state: Politics and society in the Middle East. IB Tauris, 1996

5) لعرض واف وعميق للاقتصاد المصري في الفترة الناصرية وما بعد الانفتاح مباشرة، يمكن مطالعة محمود عبد الفضيل "الاقتصاد المصري بين التخطيط المركزي والانفتاح الاقتصادي" ــ معهد الإنماء العربي، 1980.

6) Assaad, Ragui, and Caroline Krafft. "The Egypt labor market panel survey: introducing the 2012 round." IZA Journal of Labor & Development 2.1 (2013), p.10

7) Barsoum, Ghada, Mohamed Ramadan, and Mona Mostafa. Labour market transitions of young women and men in Egypt. ILO, 2014


محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...