على خطى عائشة التيمورية: مفهوم "القوامة" في فكر مثّقَّفات مسلمات معاصرات

يقوم اليوم جدل، مثلما حصل مع عائشة التيمورية، بين مثقفات مسلمات يرغبن في تقديم قراءة مختلفة للنص الديني تنصف النساء من منطلق عدل الشريعة، والشيوخ المحافظين الذين لا يريدون أن يتزحزحوا عما ذكرته كتب التراث، يصبغون عليها ما للنص الديني من قداسة، لتعزيز سلطتهم وأفكارهم المنحازة، التي يريدون أن يجعلوا من الدين سنداً لها وداعماً.
2020-07-09

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
علا الأيوبي - سوريا

كانت رسالة "مرآة التأمل في الأمور" لعائشة التيمورية، محاولة رائدة لقراءة النصّ الديني من منظور نِسْوي. ويمكن رؤية امتداد لذلك الجدل (عائشة/ الشيخ الفيومي) في الوقت الحاضر، في هذا الجدل القائم بين مثقفات مسلمات يرغبن في تقديم قراءة مختلفة للنص، تنصف النساء من منطلق عدل الشريعة، والشيوخ المحافظين الذين لا يريدون أن يتزحزحوا عما ذكرته كتب التراث، يصبغون عليها ما للنص الديني من قداسة، لتعزيز سلطتهم وأفكارهم المنحازة، التي يريدون أن يجعلوا من الدين سندا لها وداعما.

والحقّ أن تفسير النصّ الديني لا بد أن تحكمه ضوابط، وأن يكون قائماً على معرفة وامتلاك أدوات معينة، كي لا يتحول الأمر إلى فوضى. ولكنّ محاولة فهم النصوص الدينية والتفاعل معها لإدراك مراد الله ليس حكراً على فئة معينة، بل هو واجب على المؤمنين المطالَبين بإعمال عقولهم، لا سيما عندما يكون "العلماء المتخصصون" يخيم عليهم الجمود، وهذا هو ما صنع الإشكالية.

وإذا كانت هؤلاء المثقفات غير دارسات للعلوم الشرعية بصورة أكاديمية، فلا بد أنهن يحرصن على تحصيل معارف دينية لتوظيفها في عملهن، والأهم أنهن لا يعتبرن أنفسهن فقيهات، بل مفكّرات، ومرادهن "ليس أن يحل المفكّر محل الفقيه، ولكن أن يلفت نظره إلى قضايا معينة ويحثه على البحث فيها" (1) ، أي تحريك المياه الراكدة.

يتجاهل مفهوم "التكامل بين الطرفين" عوامل التنشئة الاجتماعية للجنسين، والتعليم والثقافة والمتغيرات التاريخية والسياسية وتنوّع السياقات. وهو تَطوّر على حساب الشراكة أو التعاون أو الإنسانية المتساوية، ليحجّم كلا من الجنسين في مجال عمل واحد فقط، ويبرّر إقصاء النساء عن العمل العام، وإقصاء الرجال عن المهام التربوية والمسئوليات الوالدية المشتركة والعمل المنزلي.

يمكن أن نشير هنا إلى ورقتين بحثيتين لأميمة أبو بكر أستاذة الأدب المقارن بجامعة القاهرة وعضو مؤسسة المرأة والذاكرة وحركة "مساواة" الدولية، وأماني صالح أستاذة العلوم السياسية بجامعة مصر الدولية ورئيسة جمعية دراسات المرأة والحضارة، منشورتين بكتيب "القوامة: نحو رؤية اجتهادية بديلة" (2) . تقول د. أميمة إن آية القوامة حُمّلت إضافات ليس لها أصل قرآني، وذلك من قبل المفسرين عبر قرون طويلة، لأسباب ثقافية واجتماعية وتاريخية معقدة، وإن المطلوب تنقيح مفهوم القوامة وإعادة شرحه وتعريفه، لا سيما أنه اكتسب مركزية في الفكر الإسلامي وصار أساساً لتحديد العلاقة بين الجنسين، خاصة داخل مؤسسة الزواج، على أنها علاقة غير متساوية، يتمتع فيها الرجل بسيادة مطلقة وتُهمَّش المرأة في المجالين الخاص والعام. وهي تَعدّ هذا التفسير المغلوط انحرافاً عن رسالة الإسلام وتشويهاً لصورته بتقديمه كدين تمييز لا كدين كرامة وإنسانية متساوية، مما ينفّر قطاعات كبيرة من النساء، ويعزز المنظور الرافض لأي مرجعية دينية.

ثم تستعرض تشكُّل مفهوم القوامة وتطوره والتوسع فيه لدى المفسرين، بدءاً من الطبري، مروراً بالزمخشري والرازي والقرطبي والبيضاوي وابن كثير، وصولاً إلى الشيخ محمد عبده، الذي جعل من الاختلاف البيولوجي أساساً لتقسيم الأدوار بين الجنسين بحيث يختص كل جنس بأعمال معينة، وهو في ذلك متأثر بفكر الحداثة الغربية، الذي اعتمد الثنائية والتنميط والتحديد في كل شيء. وكان من تداعياته - مع التغيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية في أوروبا - هذا التقسيم الحاد بين المجالين العام والخاص، وبين عقلانية الذكورة وعاطفية الأنوثة. وفقا لعبده، فإن علاقة الزوج بزوجته هي علاقة رئيس بمرءوس. كما يبدو تأثره بالإنجيل في قوله "إن الرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن"، وبالثقافة الفيكتورية الإنجليزية للطبقة المتوسطة في قوله إن البيت مملكة صغرى للمرأة وإن الحياة المنزلية هي عملها الطبيعي، وهو ما يعكس تقديساً مصطنعاً ومبالغا فيه للعمل المنزلي الذي تختص به المرأة "كما تقتضي الفطرة". وقد كان لمقولة عبده هذه وزنها في تشكيل القناعات في القرن العشرين. ويمثّل تفسيرا سيد قطب في منتصف القرن والشيخ الشعراوي في آخره هذا الاتجاه المحافظ. وفي هذا الخطاب الذي ينظر للأسرة كمؤسسة تراتبية/هرمية تحكمها علاقات قوة وسيطرة ثابتة، لا يُلتفت إلى التناقض بين مبادئ المودة والرحمة أو مفهوم "النفس الواحدة" من ناحية، والقول بأن الأسرة لها قائد، له الهيمنة وبيده زمام الأمور من ناحية أخرى. كما أنه يتجاهل عوامل التنشئة الاجتماعية للجنسين، والتعليم والثقافة والمتغيرات التاريخية والسياسية وتنوّع السياقات. وهكذا تطور مفهوم التكامل بين الطرفين - على حساب الشراكة أو التعاون أو الإنسانية المتساوية - ليحجّم كلا من الجنسين في مجال عمل واحد فقط، ويبرّر إقصاء النساء عن العمل العام، وإقصاء الرجال عن المهام التربوية والمسئوليات الوالدية المشتركة والعمل المنزلي.

تقوم هذه النظرية على أن هناك أفضلية قَدَرية وطبيعية للرجال على النساء، راجعة إلى إرادة الخالق، وهذه الأفضلية تولّد بدورها سلطة خالدة لهم عليهن مهما تدنى قدر الرجل أو ارتفع شأن المرأة.

وبعد الإشارة إلى عدد من الاجتهادات التي قُدّمت على مسار إعادة الفهم والتفسير لمفهوم القوامة (عائشة التيمورية، زينب رضوان، خالد أبو الفضل، طرْح مجموعة من النسويات المسلمات في الغرب: عزيزة الحبري، أسماء برلاس، ميسم الفاروقي..)، تأتي خلاصتها تحت عنوان "نحو تعريف يتسق مع المفهوم القرآني للزواج" لتؤكد أن آية القوامة تشير إلى المسئولية المالية والمعنوية للرجال تجاه النساء، بما أعطاهم الله من زيادة في الميراث، وعن طريق الإنفاق مما يكسبون، بهدف إرساء مبدأ التوزيع العادل للكسب، ومبدأ الإنفاق كمسئولية تجاه الآخرين، وتعويضاً للدور الإنجابي الذي تقوم به المرأة في معظم الأحيان، وليس بشروط أو كمقابل لأشياء أخرى، مثل الطاعة، أو المعاشرة الزوجية، وكأن الزواج مقايضة تجارية.

وتذهب أماني صالح إلى أن الأمر الخطير تَمثّل في بناء نظرية عامة لسلطة الرجل على المرأة اعتماداً على تصعيد آية القوامة – بتأويلها الشائع المنحاز - من مجرد آية تنطوي على حكم جزئي إلى نظرية عامة ومبدأ كلي يحكم تأويل سائر الآيات التي تخص العلاقة بين الجنسين، بل الرؤية العامة لهذه العلاقة. وتنبع خطورة النظرية أو الفكرة العامة الحاكمة من كونها تمارس سلطة وتفرض الانحيازات المتضمَّنة بها على سائر النصوص، بل على عمليات التقنين وعلى الثقافة العامة والسلوك الإنساني. فهي تنقل مرض الانحياز إلى كل خلايا المجتمع وثناياه. وتقوم هذه النظرية على أن هناك أفضلية قَدَرية وطبيعية للرجال على النساء، راجعة إلى إرادة الخالق، وهذه الأفضلية تولّد بدورها سلطة خالدة لهم عليهن مهما تدنى قدر الرجل أو ارتفع شأن المرأة (3). وأن الإنفاق مسألة ثانوية، وزواله لا يعني انهيار سلطة الرجل، فهذه السلطة متحققة للرجل "لأنه رجل".

على الرغم مما طرأ على مجتمعاتنا من تغيرات هائلة، تطورت معها رؤية المثقفات المسلمات المعاصرات كما يتضح من المقارنة بين اجتهاد عائشة واجتهادهن الذي هو أكثر عمقاً وشجاعة، فما تزال رؤية الطرف الآخر كما هي.. مما يجعل الشيوخ المعاصرين أكثر رجعية وجموداً من شيخ القرن التاسع عشر.

وفي قراءتها البديلة، تؤكد أن التفسير الشائع لآية القوامة ليس الوحيد أو الأصح، بل هو خيار حرص الجنس المستفيد على تكريسه للحفاظ على مصالحه وامتيازاته. وأن الآية لها طرح تفسيري آخر، هو أن الرجال مكلفون بالقيام على رعاية النساء، بما وهبهم الله وأنعم عليهم من نِعم يتفاوت فيها بعضهم عن بعض، سواء نعم مادية أم خُلُقية. الإنفاق عليهن، هو تكليف وواجب وليس مزيّة، وهو فرض على الرجال وحق للنساء بقطع النظر عن قدرة النساء على الكسب، وذلك لأمرين، أولهما أن الله يخاطب المرأة التاريخية، والنساء في أغلب عصور التاريخ لم يكن لهن دور مهم في النشاط الاقتصادي في ظل نظام إنتاجي يعتمد على العمل العضلي الشاق، قبل تطور الميكنة والحوسبة، وثانيهما أنه حتى في ظل عصر كعصرنا تعمل فيه النساء، فإن هناك فترات قد يضطررن فيها إلى الامتناع عن العمل، أثناء الحمل ورعاية الأطفال، كمشروع مشترك للرجل والمرأة على السواء. وهنا يصبح من العدل أن تحظى المرأة، في مقابل هذا الدور، بالكفالة الاقتصادية من الرجل، كحق لا منّة أو فضل. والآية بهذا المعنى هي آية لصالح النساء، بل هي نوع من الحماية والتأمين المستديم والضمان الاجتماعي.

وعلى غرار ما قالته عائشة التيمورية من قبل في نهاية رسالتها "أستغفر الله أن أكون مدعية بالفضول متطفلة بالدخول على محافل الفحول"، تقول د. أماني إنها تستشعر نوعا من التخوف أن تفهم ورقتها على أنها نوع من الاجتراء، فهي اجتهاد فكري لا فقهي، وجهد ثقافي من مسلمة غير متخصصة في علوم الدين: "وقد أكون مخطئة في بعض اجتهاداتها، فأرجو تنبيهي إلى ذلك من علمائنا الأجلاء". ولا أظن أن رد الغالبية العظمى من الشيوخ الآن سيختلف عن رد الشيخ الفيومي على عائشة قبل أكثر من مئة وعشرين عاماً، على الرغم مما طرأ على مجتمعاتنا من تغيرات هائلة، تطورت معها رؤية المثقفات المسلمات كما يتضح من المقارنة بين اجتهاد عائشة واجتهادهن الذي هو أكثر عمقاً وشجاعة، بينما ما تزال رؤية الطرف الآخر كما هي، مما يجعل الشيوخ المعاصرين أكثر رجعية وجموداً من شيخ القرن التاسع عشر.

______________

1-كما تقول د. أماني صالح، راجع "النسوية الإسلامية في مصر: تحديات عديدة أمام تيار جديد" المنشور بالسفير العربي 2015.
2- إصدارات مركز "نون" لقضايا المرأة والأسرة بالقاهرة.
3- يقول د. زكريا الفقي أستاذ العلوم اللغوية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية (في مقابلة معه للكاتبة بمكتبه بالكلية في تموز/ يوليو 2019) إن "قوامة الرجل في الأسرة تقوم على جانبين: جانب فطري ونفسي عند المرأة حيث ترغب في أن تعيش مع رجل يتحمل المسئولية وتشعر معه بالأمان، وجانب اقتصادي يتمثل في الإنفاق الذي هو حق المرأة على الرجل، ومن حقها طلب الطلاق حال تقصيره في هذه المسئوليات، ولا تجدين امرأة تحب أن تُعفي زوجها من المسئولية وتتولاها هي". وبخصوص "بما فضل الله بعضهم على بعض" يقول: هذه تسمّى تتمة الحكم أو علّة الحكم. ويضيف: مثل هذه الألفاظ تسمّى مجملة في مقابل المبيّنة، أو الإجمال في مقابل التبيين، والمجمل يحتاج إلى بيان، ووجه البلاغة في استخدام تعبير "بما فضل الله بعضهم على بعض" على رغم من أن سياق الحديث عن القوامة من الطبيعي أن ينتهي بـ "بما فضلهم الله عليهن" ولكن كأن الله هنا أراد أن ينبّه إلى أن التفضيل ليس مطلقا لجنس على جنس، بل هي قدرات معينة وهبها الله لكل جنس تؤهله للقيام بأدوار معينة أفضل من الجنس الآخر، فالتفضيل هنا متبادل، وهذا لا يتناقض مع فكرة المساواة. وقد ذهب سيد قطب في تفسيره "الظلال"، لفكرة أن كل جنس مفضّل بأمور.

مقالات من العالم العربي

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...