حوالي الثلاث دقائق هي مدة فيلم كارتون يناقش قضية حرمان المرأة من الميراث في صعيد مصر. الفيلم الفائز مؤخراً في مسابقة "سلامة وأمان" لمناهضة العنف ضد المرأة (التي نظمتها إحدى المنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا المرأة)، هو من إنتاج مؤسسة "مدى للتنمية الإعلامية" بمشاركة المجلس القومي للسكان وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، والسيناريو من كتابة أماني غانم . تُقدّم الفكرة في قالب ساخر، عبر حوار لمجموعة شخصيات كرتونية، تتخلله رسالة مباشرة يقدمها "عالم أزهري" للتحذير من عواقب جريمة حرمان المرأة من الميراث، من المنظور الشرعي.
وحرمان النساء من ميراثها في الصعيد بات بمثابة عرف سائد. حيث أكّدت دراسة للدكتور عصام الزناتي الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة أسيوط، للظاهرة في محافظة أسيوط، أن حصول المرأة على ميراثها الشرعي كاملاً يظل استثناءً من القاعدة.
ويقع الحرمان في الأراضي الزراعية في المرتبة الأولى، يليه الحرمان من الميراث في البيوت، وهذا بدعوى الحفاظ على الأرض من التفّتت والتجزئة، خاصة إذا كانت المرأة الوارثة متزوجة من "رجل غريب" (خارج أبناء العائلة أو القبيلة). وتعقيباً على هذه النقطة، يقول الخال لأبناء أخته في الفيلم، بعد مجيئهم للمطالبة بميراث أمهم "أرضنا من جدود الجدود وهي غير قابلة للتقسيم". ومعروف أنّ الأرض تعتبر معياراً للثروة والوجاهة والمكانة الاجتماعية للعائلة، لذلك فالعائلات التي تمارس حرفا غير زراعية (كالتجارة) أقل حرمانا لنسائها من الميراث. وفي العادة، تلجأ بعض العائلات إلى التعويض على نسائها بقدر من المال لا يساوي إلا جزءاً يسيراً من نصيبهنّ الفعليّ، بينما يتجاهل البعض التعويض كليّاً. وربما يجري الاكتفاء بقفص من "الجوافة" (الفاكهة المصرية الشهيرة) أو بعدد من الجلابيب وقـُلّة وحقيبة يد "مستوردة" مشتراة من المُوسْكِي (أحد أحياء القاهرة الشعبية)، كما يفعل الأخ في الفيلم الكرتوني.
وتشير الدراسة إلى أن حرمان المرأة من ميراثها في مدن الصعيد وقراه يحدث في الأسر المسلمة والمسيحية، كما أنه لا يرتبط بالمستوى التعليمي.
وتتحدث عن الإزدواجية والتناقض بين التمسك "الظاهر" لهذه المجتمعات بالقواعد والقيم الدينية واحترامها والممارسة "العلنية" للعبادات من ناحية، وعدم تطبيقها القواعد الشرعية في مسائل الميراث من ناحية أخرى.
وتتطرّق إلى جهل كثير من النساء بقواعد الميراث، ما يجعلهنّ يقبلنَ بأي "ترضية" تُقَدَّم لهن، والتي تكون أقل بكثير من حقهنّ الشرعي. وهذا الأمر لا يقتصر على غير المتعلمات أو الحاصلات على قدر قليل من التعليم، بل يشمل النساء المتعلمات مع استثناء الحاصلات على تعليم شرعي أو قانوني.
وبغضّ النظر عن المستوى التعليمي للمرأة، فهي في الغالب تّضطرّ للقبول والإذعان للحفاظ على الروابط الأسريّة وعدم فقدان السند العائلي الذي يمثله الإخوة الذكور والذي قد تحتاج اليه عند الضرورة.
لكن النساء لسنً الضحية الوحيدة للحرمان من الميراث، فهو يطال بعض الإخوة الذكور. الأمر، في هذه الحالة لا يصل إلى الحرمان الكليّ وإنّما إلى عدم المساواة في نصيب كلّ واحد بدعوى أنّ من حصل على نصيب أكبر في التعليم أو من تعلّم أبناؤه الذين كبروا يستحق نصيباً أقلّ في الميراث نسبةً لمن لم يتعلّم أو من ما زال أولاده صغاراً.
ويؤدي الصراع على الميراث في كثير من الحالات إلى ارتكاب جرائم قتل. والظاهرة ليست مقصورة على الصعيد المصري، بل موجودة في محافظات مصرية ودول عربية أخرى بنسب وأشكال متفاوتة.
مجتمعات الحقوق الضائعة
وتشير بعض الإحصائيات التي توصلت إليها دراسة أخرى أجريت على عينة من النساء بمحافظتي سوهاج وقنا، الى أنّ 4.5 في المئة فقط منهن حصلنَ على ميراثهنّ من دون مطالبة أو مشاكل مع الأهل، وأن 57 في المئة ممّن لم يحصلنَ على ميراثهنّ طالبنَ بحقهنّ و43 في المئة لم يطالبن به (ليأسهنّ من جدوى المطالبة أو احتراما لتقاليد العائلة أو رغبة في عدم خسارة الأهل أو لأنّ الآباء كتبوا أملاكهم باسم الذكور قبل وفاتهم). أمّا بالنسبة لمن طالبن، فإنّ 48 في المئة منهنّ لم يُحصلنَ شيئاً و34 في المئة أخذن جزءاً فقط و18 في المئة حصلن على حقهنّ كاملاً.
وفي ما خصّ اللواتي لم يحصلن على شيء، فإن 42% منهن اكتفين بالصمت وتفويض الأمر لله، و35 في المئة قاطعن الأهل و13 في المئة أدخلنَ وسيطاً من المقربين لحلّ القصة. بينما نسبة ضئيلة جداً هي التي لجأت للقضاء ورفعت دعاوى. وتعود هذه النسبة المنخفضة إلى الوقت الكبير الذي تستغرقه هذه القضايا حتى يجري الحكم فيها، فضلاً عن أنّ اللجوء للقضاء يسبّب العداء مع الأهل.
ويمكن القول ان المشكلة تبدأ حين لا تُقَسَّم التَرِكة بعد وفاة المورِّث مباشرة، بل تظلّ الأرض الزراعية تحت سيطرة الإخوة الذكور كما كان الوضع قبل حصول الوفاة، فلا تعرف المرأة كم نصيبها من هذه الأرض وأين يقع على وجه التحديد ضمن المساحة الكلية. ويستمر هذا الوضع لسنوات، قد تُعطى المرأة خلاله إيجاراً سنوياً يقدّره الأخ، وعادةً ما يكون مبلغاً أقلّ من القيمة المتعارف عليها للإيجار. وأيضاً قد تُعطَى أشياء عينيّة (كزجاجتين من السمن البلدي أو كمية من المخبوزات في كل زيارة لها إلى بيت العائلة إذا كانت متزوجة في محافظة أخرى على سبيل المثال، ويكفي استضافتهم لها طوال مدة إقامتها هناك!
وغالباً ما تصطدم المرأة بمماطلة ورفض صريح أو مبطّن، عند المطالبة بحقّها في الميراث. وتحت الضغط، قد تُعطَى أرضاً في مناطق يكون سعر الأرض فيها منخفضاً، بينما يأخذ الإخوة الذكور لأنفسهم الأرض المرتفعة الثمن.أو يقوم أخوها بشراء نصيبها بثمن بخس يُقدَّر بناء على سعر الأرض في أرخص المناطق (وهذا يؤكد أن السبب المُعلن عن الخوف من تجزئة الأرض ظاهريّ، فالمرأة لو رغبت ببيع حصتها لأخوتها فهي لا تحصل على مقابل مادي عادل).
وإذا كانت المرأة متزوجة (خاصة إذا تم زواجها بعد وفاة المورِّث)، يُقال لها إن نصيبها من الميراث قد أُنفق على مستلزمات زواجها (رغم أن الإخوة الذكور قد تزوجوا بدورهم، فهل حسبوا ما أنفقوه على زواجهم من نصيبهم في الميراث أيضا؟!). أما إذا بقيت من دون زواج، فيتمّ تمنينها بتوفير طعامها وشرابها وكسائها وإقامتها في بيت (هو في الأغلب منزل الأهل)، فما الذي تريده أكثر من ذلك؟!
وعيٌ وقانون
فيفيان فؤاد خبيرة التنمية الاجتماعية في المجلس القومي للسكان (إحدى الجهات المشاركة في إنتاج الفيلم)، تحكي أن مواجهة المشكلة تكمن في ضرورة الاعتماد على جانبين:
الأول توعويّ، وذلك في المناطق حيث تنتشر الظاهرة.
الثاني قانوني، من خلال إجراء مراجعة شاملة للقوانين الحاليّة لتحديد التعديلات اللازمة لضمان حماية المرأة من أي ممارسات ظالمة في مسائل الميراث، مع ضرورة تسهيل إجراءات التقاضي لا سيّما على النساء الفقيرات اللواتي يجدن صعوبة في رفع دعاوى قضائية لارتفاع كلفة ذلك عليهن.
ذلك كله قد يطابق "الأصول" الشرعية والقانونية، لكنه يبدو كمخطط ونصائح فوقية و"حرفية" إن لم نقل شكلية، لأنه لا يجيب عن المعضلات ـ أو أقله العقبات ـ المرتبطة بالواقع الاجتماعي السائد، وبالأخص خوف النساء من التسبب بنزاع أسري، أو ببساطة خوفهن من تخلي أسرهن عنهن، وهو ظلم يعادل ظلم حرمانهن من الميراث، لكنه يثبت أن الموضوع يتطلب حلولا ـ بما فيها تلك القانونية ـ تناسب تعقيده.
لمشاهدة الفيلم اضغط هنا