كنت في الرابعة عشر من عمري حينما بدأت ألاحظ حالة الهلع التي تنتاب راكبي الميكروباص القادم من المعادي، مروراً بدار السلام، عند وقوفه في ثاني كمين بشارع القصر العيني. كان مساراً يومياً معتاداً للميكروباصات والعديد من المواطنين، وكذلك كان الهلع يوميّاً ومتكرراً. ثم بدأت أنتبه في السنوات اللاحقة لطوابير الإيقاف والاشتباه التي يطبقها هذا الكمين، وذلك كله في نهاية التسعينات وانتصار الدولة على الإرهاب، ومطلع الألفية الجديدة، حين انتصرت دولة مبارك البوليسية على الجميع. كان الأمر أحياناً يصل إلى الاشتباه في جميع الركاب وإخراجهم جميعاً للكشف عليهم: التأكد من صحة البطاقات أو الهويات الشخصية، وتفتيشهم وأحياناً انتظار تقرير موجز عن سجلهم الإجرامي من الأقسام التابعين لها، أو تركهم بعض الوقت واقفين بشكل صارم غير مسموح لهم بالحركة أو التدخين أو القيام بأي فعل في انتظار تعليمات الباشا الضابط. لم تمر ثلاث أو أربع سنوات حتى تحول هذا الكمين إلى هاجس شخصي بسبب أن بطاقتي كانت وما زالت ملحقة بمحافظة الإسكندرية. وفي إحدى المرات كان من الصعب أن أشرح للضابط أنني عائد إلى منزل جدتي بشارع الفلكي بوسط البلد، أي على بعد أقل من 500 متر من الكمين نفسه. لاحقاً بدأت أتجنب هذا الكمين، وألتف من الشوارع الداخلية المؤدية إلى منزلنا عبر ضريح سعد زغلول. لم تكن هذه الشوارع خالية من الأمن، بل على العكس، كانت أكثر شراسة أحياناً بسبب القرب من وزارة الداخلية ومقر أمن الدولة بمنطقة لاظوغلي ومجلس الشعب. ولكن كان أول كمين يمكن أن أتعرض له في حالة الالتفاف تلك، هو كمين منطقتي مجلس الشعب مع الفلكي. كانت المفارقة أنني في هذا المكان كنت أعتبر داخل الحيز الخاص بي، وليس الحيز العام، وكان أغلب ضباط وأمناء هذا الكمين على علم نسبي بسكان المنطقة وبناياتها، فكان من السهل إقناعهم بأنني عائد إلى منزل الجدة، أو ببساطة كانوا يميزون وجهي فلا يقومون بإيقافي، وفي أسوأ الحالات كان يمكن الإشارة إلى المنزل مباشرة وعندها تنتهي المشكلة، ولا أصبح عرضة للاشتباه أو التعامل معي كغريب قد يشكل خطراً أمنيّاً ما.
مربع الرعب
لم تكن رحلة العودة من وسط البلد ليلاً أقل قلقاً من رحلة العودة من المعادي. فحتى قيام ثورة 2011، كانت الميكروباصات الكحلية اللون التابعة لوزارة الداخلية، مصدر فزع كبير في حالة أنها قررت إيقاف أحد الأفراد أو مجموعة من الشباب. وفي كثير من الأحوال كان باب هذه الميكروباصات يفتح ويخرج منه اثنان أو ثلاثة مخبرين يقومون بشحن من تم إيقافهم بلا كلام أو إبداء أي أسباب أو حتى فحص للهويات. ولذلك كان الوصول لمربع الرعب - تقاطع شوارع الشيخ ريحان مع نوبار والفلكي ومنصور - أسهل بالنسبة لي من التعرض لأحد هذه الميكروباصات، أو بعض الأمناء المتجولين ليلاً بحثاً عن أحد للاشتباه فيه، أو قضاء بعض ساعات الليل في التسلية عليه، وذلك لدخولي مرة أخرى في الترتيبات المتعلقة بالحيز الخاص، أي قدرتي على إثبات أنني أحد سكان أو أبناء هذه المنطقة، والذي ليست له بطاقة أمنية أو "مسجل خطر".
كان لنصفي الإسكندراني قصة شبيهة، وربما أكثر عمومية من قصة وسط البلد في القاهرة، المدججة بمؤسسات الدولة الحيوية. فأنا من جيل يعرف أغلب أبنائه الضابط خالد شلبي، الشهير "بخالد اركب". كان خالد شلبي في ذلك الوقت، أو في أغلبه، رئيس مباحث قسم المنتزه ذائع الصيت والمشهور بالعنف والتوحش بالإسكندرية. نال الرجل شهرته لأسباب عديدة، ولكنه نال هذا اللقب تحديداً لسبب بسيط جداً وهو كمائن الكورنيش التي كان يقوم بها ليلاً. كان يقف بجوار البوكس أو الميكروباص، ويقوم بالنظر في هويات الذين تم إيقافهم، ولم يكن يتحدث كثيراً، كان يلقي نظرة سريعة جداً ثم يقول للشخص "اركب". كان هذا طقساً شبه يومي، حتى يمتلئ الميكروباص والبوكس بعدد لا بأس به من الأشخاص، ويذهب بهم إلى قسم الشرطة، ويتم الكشف عليهم ويخرج من يخرج بعد عدة ساعات، ويبيت في القسم من يبيت، ويُضرب البعض.. وهكذا.
الاشتباه كآلية إقصاء ومنع
أبناء دار السلام (منطقة شعبية بجنوب القاهرة) كانت لهم معاملة خاصة في كمين القصر العيني، كانت تستوجب أحياناً منعهم من إكمال الرحلة إلى وسط البلد، وتخييرهم بين العودة أو الذهاب إلى القسم والكشف عليهم. هذه الممارسات كانت تشير إلى بعد طبقي ومناطقي في ممارسات الاشتباه بالكمائن. فالكمائن تعمل كأدوات حجز وتنقية واستبعاد للذوات التي يجب عليها ألاّ تتواجد في مساحات معينة، مثل وسط المدينة في أوقات معينة. تنجح الكمائن في ربط عناصر الاجتماع بالجغرافيا وبالزمن. فالكثير من ضباط هذا الكمين كانوا يوجهون أسئلة من نوع "وأنت بتعمل إيه، أو حتعمل أيه في وسط البلد بالليل؟". وكونك أحد أبناء منطقة شعبية معينة، والأسوأ لو أنك آت من شارع أو حيز معين من هذه المنطقة، ذاع صيته في عالم الجريمة أو العنف والشقاوة، فستتحمل تبعات الاشتباه والاستبعاد نيابة عن كامل منطقتك السكنية. أنت فرد وجماعة في آن واحد.
والأخطر أن الممارسة الواسعة للاشتباه في الاجتماع المصري، تعيد تشكيل وصياغة العلاقة مع السلطة، بل وتخلق ممارسات وطقوس خاصة أثناء هذه الممارسة، أو أثناء التعرض لها، وهذه بدورها تعيد تشكيل الأداء الحركي والجسدي والنفسي للمواطنين في الحيز العام، أو أثناء استخدام وسائل النقل الجماعية والخاصة. فمثلاً، إذا قلت لشخص أجنبي - وأحياناً مصري ولكن من حيز مختلف، أو هو أحد الذوات التي تمتلك "الحماية" - عن احتراف العديد من شباب الطبقة الوسطى والفقراء لآليات الاختفاء، أو محاولة تأكيد عدم الحضور، فلن يفهمك. والحقيقة أن اللغة ذاتها شديدة التناقض والالتباس لوصف هذه الحالة. فكيف لجسد أحد ذوات منطقة معينة، ولتكن دار السلام مثلاً، أن يأكد عدم حضوره وألا يثير الريبة، بل وأن يجعل أمين الشرطة أو الضابط لا يلاحظ حضوره الجسدي – الحاضر بالفعل. أن هذا الأمر هو عبارة عن ممارسات حسية يتناقلها الأفراد ويطوِّعها كل فرد على طريقته الشخصية، ولكن على مستوى اللغة وفهم ما تعنيه هذه الإشارات ودلالاتها، فإن لها أرضية مشتركة بينهم بسبب تخلقها كفعل اجتماعي. فإذا قال لك صديق "اهدى شوية عشان داخلين على كمين، أو حاول متبانش عشان ميشتبهوش فينا"، فستعرف بنسبة كبيرة ما عليك فعله، وستحضر نفسك لذلك.
أن تكون أحد أبناء منطقة شعبية معينة، والأسوأ أن تكون آتٍ من شارع أو حيز معين من هذه المناطق، ذاع صيته في عالم الجريمة أو العنف والشقاوة، فستتحمل تبعات الاشتباه والاستبعاد نيابة عن كامل منطقتك السكنية. أنتَ فرد وجماعة في آن واحد.
تصبح عملية الاشتباه، الدائمة والموسعة أحد آليات الإقصاء والتهميش، وخلق وتحديد ذوات يحق لها التمتع بالموارد وبحقوقها الدستورية، وذوات أخرى يتم إبطال هذه الحقوق لها ولو لبعض الوقت. ولكن، ولأنها عملية متجددة، فالانقطاع و/ أو التمتع بالحقوق هو الاستثناء وليس الأصل.
وفي أكثر من حوار مع أبناء الطبقة الوسطى غير المسيسين، ستجد أن هناك نسقاً يتكرر في حديثهم، سواء خلال لقاء شخصي أو بحثي ممنهج أو خلال حوار عام، يتجسد في مقولة "أنا بحاول أن الدولة متشوفنيش، وأنا كمان مش عايز أشوفها ولا أحتك بها". فالاشتباه، والخوف والتضييق والإرهاب، كل هذه الممارسات التي تنتهجها الدولة، دفعت قطاعات مختلفة من الناس في مصر لمحاولة التخفي. والتخفي أصبح أحد أدوات الذوات على تنوعها واختلافها، للتكيف مع تكثيف السلطة للاشتباه والتضيق الأمني على عموم الجمهور.
كيف تختفي/تتخفى؟
ولكن كيف لعموم السكان في بلد بحجم مصر أن يمارسوا التجنب والاختفاء من السلطة في أوقات ومساحات معينة؟ المشكلة ليست في آلية التكيف والمناورة هذه، المشكلة أن هذا الأمر هو أحد مطالب السلطة من السكان. أحد الضباط يقول دوماً: "يستحسن أن تختفوا من وشنا، مش عايزين نشوفكم من أساسه". وقطعاً، فالأمر لا ينجح، ومستحيل أن ينجح. ولكنه يؤشر إلى شيئ مشترك بين الاختفاء والنجاح والتحقق في ظل النيوليبرالية. فالأيديولوجيا تعتمد على النماذج شديدة العمومية في التعميم والإشارة إلى أن المشكلة فردية. ففي كل عائلة، وبدون امتلاكها لـ"وسايط"، سينجح أحد أبناء العمومة في شق طريقه العملي من دون الاستناد إلى نفوذ سواه. وسيصبح بذلك مثالاً محورياً على أن فشل الآخرين مشكلة شخصية نابعة من تكاسلهم، أو أنهم حفنة من الفاشلين.
____________
من دفاتر السفير العربي
كيف تشتغل الدولة المصرية؟
____________
ولن تتضح أبداً علاقته بالمنظومة وتوزيع الثروات في المجتمع، وأن الأمر يخص خلق فرص عمل منظمة ومحترمة وفتح قطاعات إنتاجية مستقرة. الأمر نفسه يمكن رؤيته في التعرض للاشتباه، وستكون الدفوع كثيرة: "طيب وأنت أيه إلي كان ممشيك بالليل... أنت مش عارف إن هنا فيه كمين... ما أصل برده أنت شكلك غلط... تلاقيك شديت مع الضابط في الكلام... أنت إيه إلي كان موديك هناك أصلاً... أنت ليه تقعد جنب واحد شكله غلط... ما أنت مربي دقنك وأنت عارف أن الحكومة بتقلق من الدقون... أنت شعرك طويل ومنظرك ملفت".
ولنأخذ نموذج دراسة محدد. مجموعة من الأصدقاء الشباب من الإسكندرية يبلغ عددهم حوالي 15 فرداً. ينتمي أغلبهم دخلاً وسكناً لمناطق الطبقة الوسطى، واثنان أو ثلاثة ينتمون للشرائح الأفقر في المجتمع سكناً ودخلاً أيضاً. حوالي 6 أفراد منهم يدخنون الحشيش بشكل متقطع، أو متعاطين دائمين وثلاثة منهم فقط لهم احتكاك بالسياسة. هذه المجموعة تعرف بعضها منذ 2003. ثلاثة منهم فقط حتى عام 2014 لم يتعرضوا للاشتباه أو لأي تضييق أمني. وبحلول 2014 لم يتبق أحد منهم لم يتعرض للاشتباه أو التضييق أو القمع أو الإذلال بمختلف درجاته. ربما يمكن القول أن واحداً فقط من أصل هذه المجموعة هو من نجا حتى الآن بدون أي احتكاك حقيقي. هذا مع الأخذ في الاعتبار حيطة أغلب أفراد هذه المجموعة، وتجنبهم الاحتكاك مع الدولة وتحديداً الداخلية بشكل عام.
تعيد الممارسة الواسعة للاشتباه في الاجتماع المصري تشكيل وصياغة العلاقة مع السلطة، بل وتخلق ممارسات وطقوس خاصة أثناء هذه الممارسة، أو أثناء التعرض لها، وهو بدوره ما يعيد تشكيل الأداء الحركي والجسدي والنفسي للمواطنين في الحيز العام، أو أثناء استخدام وسائل النقل الجماعية والخاصة.
لبعض المناطق والأقاليم الجغرافية معاملة استثنائية داخل الاستثناء نفسه. الأبرز في ذلك كله هو معاملة أهالي شمال سيناء تحديداً، سواء في الكمائن داخل سيناء أو المحافظات الأخرى. وحينما تحولت شرم الشيخ إلى مدينة سياحة عالمية، كان الاشتباه في عموم المصريين ممارسة يومية ينتج عنها أحياناً الترحيل من المدينة.
ممارسة الاشتباه عبر عقود مبارك الطويلة نجحت في تحجيم حركة السكان إلى حد بعيد، وإذا فشلت في هذا الأمر في بعض الأوقات، فقد نجحت في بث الرعب والرهبة في النفوس، وترسيخ حالة الاستثناء والطوارئ، وتأكيد سيادة الداخلية وأفرادها.
كانت لبعض المناطق والأقاليم الجغرافية معاملة استثنائية داخل الاستثناء نفسه. وكان الأبرز في ذلك كله هو معاملة أهالي شمال سيناء تحديداً، سواء في الكمائن داخل سيناء أو المحافظات الأخرى. وحينما تحولت شرم الشيخ إلى مدينة سياحة عالمية، كان الاشتباه في عموم المصريين ممارسة يومية، ينتج عنها أحياناً الترحيل من المدينة. وكانت هذه الممارسة مرتبطة شرطاً بالخوف من توسع العمالة المصرية هناك أو تحديداً الباحثين عن عمل، وثانياً، التحفظ والضيق من وجود الشباب المصري نفسه. وشملت هذه الممارسات أشكالاً ذكورية وأخلاقية أيضاً مثل إيقاف الذكور والإناث، والسؤال عن طبيعة العلاقة التي تجمعهم. ارتبط الاشتباه من خلال هذه الكمائن بإمكانية تعرض الأفراد لنزع حقهم في الحركة والتواجد داخل بعض المدن، أو قبولهم ببعض أشكال التمييز والانتهاك. وتصبح عملية الاشتباه، وهي عملية دائمة وموسعة كما نرى، أحد آليات الإقصاء والتهميش، وخلق وتحديد ذوات يحق لها التمتع بالموارد وبحقوقها الدستورية وذوات أخرى سيتم إبطال هذه الحقوق لها ولو لبعض الوقت. ولكن لأنها عملية متجددة فسيكون الانقطاع و/ أو التمتع بالحقوق هو الاستثناء وليس الأصل. فأهم ما يميز الاشتباه كأحد ممارسات الدولة البوليسية هو التكرار. وهذا التكرار وطول أمد حكم الطوارئ في مصر، نجحا في غرس خوف وتوجس دائمين لدى عموم السكان من التعرض للكمائن الشرطية. لقد تركت ممارسات الاشتباه آثارها العميقة على نفوس وأجساد المصريين.
هناك إذاً ما يربط الإيقاف والاشتباه بعمليات ممتدة وممنهجة من التصنيف وخلق أقاليم ومناطق يُعد أصحابها ذوات خطرة حتى يتم إثبات العكس. هناك قلب لمنطق مؤسس للقانون الحديث مفاده أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فالمواطن متهم حتى تثبت براءته. عملية خلق هذه الأقاليم والذوات ليست محض ممارسة عرفية للبوليس المصري امتدت عبر قرنين من الزمن، ولكنها تظهر أيضاً في الوثائق والتشريعات مثل الحال مع العربان والغجر والهناجرة، أو توسيع مفهوم الاشتباه والتشرد عبر سلسلة ممتدة من القوانين منذ 1885 حتى اليوم. وللدولة المصرية ترسانة كبيرة من التصنيفات مثل الأشقياء، والمسجلين خطر، والبلطجية، والفلاتية. وظلت الدولة تتوسع في مفهوم الاشتباه حتى أصبح الاستثناء منه هو الاستثناء.
ترتيبات الاشتباه وطقوسه
في مدينة أدكو وقرية المعدية، وكليهما يقع بالقرب من بعضهما البعض على شاطئ المتوسط بمحافظة البحيرة، كانت هناك ثلاثة مشاهد استدعوا انتباهي أثناء العمل الميداني والمعايشة. الأول كان مرور ضابط المباحث على أحد المقاهي، سواء في زيارة خاطفة أو حملة أمنية. كان هذا المشهد مصحوباً بعدة طقوس متكررة: كان على الجميع الوقوف، ويجب أن يتم الوقوف بشكل يؤكد للضابط إظهار الخوف منه واحترامه الشديد وتبجيله. وكان البعض يلقي بعض كلمات الترحيب وأحياناً يضربون تعظيم السلام له ولرجاله. يسحب الأمناء جميع الهويات من رواد المقهى، ثم يقوم الضابط بإلقاء نظرة كثيفة الحدة في وجوه البعض، وينتقي من سيقوم بتفتيشهم. كان الأمر يزداد سوءاً وحدّة في حالة وجود كوتشينة (لعبة الورق)، أو اكتشاف سلاح أبيض مع أحد الأفراد، أو ورق "البافرة" (الذي أصبح الآن أمراً أكثر اعتيادية مع تدخين العديد من الشباب للتبغ غير المصنّع آلياً– السجاير اللف).
هناك قلب لمنطق مؤسس للقانون الحديث مفاده أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فالمواطن هنا متهم حتى تثبت براءته. عملية خلق هذه الأقاليم والذوات ليست ممارسة عرفية للبوليس المصري امتدت عبر قرنين من الزمن، بل تظهر في الوثائق والتشريعات، مثل الحال مع العربان والغجر والهناجرة، وبتوسيع مفهوم الاشتباه والتشرد عبر سلسلة ممتدة من القوانين منذ 1885 حتى اليوم.
لم تكن مدن محافظة البحيرة ذات باع مع الوشم، ولكن هناك، وتحديداً مع الأغراب القادمين من محافظات ومدن أخرى، عرفتُ أن الوشم ("التاتو") هو موضوع أمني واجتماعي بامتياز. فالضابط لا يفتش الجسد فقط للبحث عن ممنوعات، ولكنه يفتش الجسد ذاته ويفحص ما به من علامات. والوشم أقرب لحرز يستدعي إجراءات أمنية غليظة لارتباطه عرفياً وأمنياً بجماعات بعينها.
كانت هذه الأشياء تستدعي إجراءات أمنية غليظة، وربما تنكيلاً علنياً قبل سحب هؤلاء الأشخاص على البوكس ثم إلى القسم أو المركز. لم تكن تلك المدن لها باع مع الوشم، ولكن هناك، وتحديداً مع الأغراب القادمين من محافظات ومدن أخرى، عرفتُ أن الوشم أو الدق ("التاتو" كما يطلق عليه الآن) هو موضوع أمني واجتماعي بامتياز. فالضابط لا يفتش الجسد فقط للبحث عن ممنوعات، ولكنه يفتش الجسد ذاته ويفحص ما به من علامات. والوشم أقرب لحرز يستدعي إجراءات أمنية غليظة لارتباطه عرفياً وأمنياً بجماعات بعينها، مثل الغجر والهناجرة، أو لارتباطه بالشقاوة والجريمة. وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى الرغم من انتشار الوشم في أقاليم عديدة في مصر من الصعيد إلى وجه بحري، فهو يثير تحفظ الأسر ويستدعي ممارسة انضباطية أخلاقية على من يرغب في وشم نفسه.
المشهد الثاني كان متداخلاً مع الأول، وهو يخص من يتم إعفاءه من عبء هذه الطقوس، والذوات التي من الصعب المساس بها. لا يتطلب الأمر أحياناً أكثر من ذكر لقب العائلة، دون القيام في حالة توجه الضابط للشخص. يكون اللقب محمّلاً بالكثير من الدلالات العرفية والقانونية والاجتماعية. فببساطة يصبح اسم العائلة بوابة لعدة ضمانات حقوقية من المفترض أنها مكفولة بحق القانون والدستور للجميع، ولكن لقب الشخص من أبناء هذه المدينة هو مخرج استثنائي - في هذا الحيز أو الإقليم ولا يمتد خارجه، فيجب أن يعني اللقب شيئاً لضابط المباحث - من حالة الاستثناء والاشتباه الدائمة في البلاد. إذ أن كلفة التنكيل بأحد الأشخاص ممن ينحدر من عائلة كبيرة الحجم ولها بعض القوة والنفوذ، غالباً ما تكون عالية، وربما تتسبب في عدة مشاكل لمعاون المباحث. ولكن هذا لا ينفي بالضرورة نشوب بعض المشاحنات الذكورية بين هكذا أشخاص والضابط، والسبب في ذلك أمران: الرغبة في عدم اهتزاز هيبة المسرح الذي تتم على خشبته هذه الطقوس، بتغيير علاقات القوة والهيبة والحقوق القانونية. والثاني هو امتعاض الضابط من المعاملة الندية له، وعدم الاعتياد أو الرغبة في وجود أشخاص يمكنهم الاعتداد بأنفسهم أمام هذه الماكينة البوليسية. لكن الضابط لا يتجاوز هذه الحدود في أغلب الأوقات، وذلك لعدم إرباك بنية ومنظومة متكاملة من العلاقات الاجتماعية – الأمنية - السياسية وترتيباتها في إقليم ما. هذه الترتيبات نفسها كانت تستدعي أحياناً التحرش ببعض أبناء العائلات، وبالأخص من الفروع الأضعف والأفقر لتوصيل رسالة لكبار العائلة. فمثلاً يتم سحب أحد أفراد عائلة نائب الدائرة إلى المركز تحت دواعي الاشتباه أو حمل سلاح أبيض أو أية مخالفة عابرة، وذلك حتى يقوم النائب بنفسه بالحضور إلى المركز وإخراجه، وفي هذه العملية توجه الماكينة البوليسية عدة رسائل للمجتمع: 1- التأكيد على وجود تراتبية سلطوية على رأسها القسم، وهو صاحب السيادة في المقام الأول. 2- إظهار الأنياب البوليسية والقانونية، وإمكانية تفعليها في أية لحظة وذلك لترسيخ فكرة أن الميري هو الحاكم. 3- ثالثاً، خلق مجاملات يجب ردها مرة أخرى بعد إخراج فرد العائلة من المركز معززاً مكرّماً.
قد تنشب بعض المشاحنات الذكورية بين أشخاص ينتمون لعائلات معفية من الاشتباه، والضابط، وذلك لأمرين: الرغبة في عدم اهتزاز هيبة المسرح الذي تتم على خشبته هذه الطقوس، بتغيير علاقات القوة والهيبة والحقوق القانونية. والثاني هو امتعاض الضابط من المعاملة الندية له، وعدم الاعتياد، أو الرغبة، في وجود أشخاص يمكنهم الاعتداد بأنفسهم أمام هذه الماكينة البوليسية.
الميكانزم نفسه قائم بين النيابة العامة والداخلية. فكثيراً ما يقوم وكلاء النيابة باستدعاء ضباط المباحث والتحقيق معهم، ولكن دون رغبة جادة في استكمال القضية: فقط لإظهار بعض الأنياب القانونية، والتأكيد على مستوًى معين من التراتبية بينهم، أو لدفع الضباط للتعاون أكثر في قضية ما، أو لرد عمل مشابه قامت به الداخلية تجاه النيابة العامة، لإظهار أنيابها هي الأخرى.
أثناء العمل الميداني الموسع اكتشفتُ وجود الميكانزم نفسه بين النيابة العامة والداخلية. فكثيراً ما يقوم وكلاء النيابة باستدعاء ضباط المباحث والتحقيق معهم، ولكن دون رغبة حقيقية أو جادة في استكمال القضية. فقط لإظهار بعض الأنياب القانونية والتأكيد على مستوًى معين من التراتبية بينهم، أو لدفع الضباط للتعاون أكثر في قضية ما، أو لرد عمل مشابه قامت به الداخلية تجاه النيابة العامة لإظهار أنيابها هى الأخرى. وكثيراً ما يتراجع الطرفان. وذلك لأن الاحتكام الكامل للمسار القانوني قد ينفجر في وجه أحدهما بالكلية، وفي هذه الحالة فأحد الأطراف عرضة لخسارة كاملة أو مكسب كامل، الأمر الذي يُعد بالنسبة لكلا الطرفين مقامرة غير مضمونة العواقب. وكانت هذه نقطة مهمة في مسار بحثي للتركيز على حدود التكامل والتنافر بين المنظومة القانونية والبوليسية في مصر، وشروط وحدود الأطر المؤسسية وطبيعة التفاعل والعلاقات بين الحقلين، وعلاقة هذا كله بالظرف التاريخي والسياسي للبلاد.
أما المشهد الثالث، فهو مرة أخرى ترتيبات العام والخاص. ففي أغلب المحافظات الريفية والصحراوية - وربما يختلف ذلك الأمر تماماً في المدن الكبرى - يصيب الهلع رواد المقاهي ليلاً في حال دخول ضابط المباحث، وهذه حالة تختلف تماماً عن الطمأنينة التي يكون فيها البعض على بعد عشرة أمتار من المقهى، أو وجودهم بعيداً عن حيز محطة القطار. هناك يمكن أن تجد مجموعات مختلفة من الشباب وكبار السن يقومون بتدخين الحشيش دون أدنى قلق. فهذه الأمتار هي الحد الفاصل لحدود تغوّل الدولة، حيث تُعامل كحيز خاص لا يقترب منه الأمن في أغلب الأوقات، وبالأخص في حالات الاستقرار العامة. هذه الحدود بين الحيز الخاص والعام ليست صارمة. وفي كثير من الأوقات تتجاوزها الماكينة الأمنية والبوليسية بسهولة إذا تطلب الأمر تدخلاً أكثر خشونة. ولكن في العادة يتم الحفاظ عليها. وأحياناً يكون تكرار انتهاك هذه الحدود هو مناطٌ بصراع بين الأمن والسكان، مثلما هو الحال في الإقليم الشمالي والغربي حيث تمتد قبائل وعائلات عربية مختلفة، يكون دخول الدولة في حدود الخاص التابع للسكن أو ما يعرف بالمجاعد، أمراً جللاً. وكثيراً ما يحاول السكان الضغط على الماكينة البوليسية للقيام باتفاق مفاده: إذا أرادت المباحث القبض على أحد المشتبه بهم وهو محتمٍ بحيزه الخاص، أن تقوم بطلب ذلك من أحد العمد أو المشايخ حتى لا تنتهك حرمة الحيز الخاص، الأمر الذي يتسبب في المزيد من الضغائن والتوتر بين السكان والبوليس. هذا الأمر أيضاً ليس محض عرف بين الدولة والقبائل والعائلات، ولكنه يمتلك تاريخاً طويلاً يظهر في تشريعات الدولة المختلفة المتعلقة بأدوار المشايخ والعمد. بالإضافة إلى أن العمد والمشايخ هي وظائف عرفية اجتماعية من ناحية، وهي مواقع مؤسسيّة ووظيفيّة داخل وزارة الداخلية من ناحية أخرى.
---
● وفي محاولات مختلفة من الأفراد لتفادي وتجنب الاشتباه، رصدتُ في عدة مدن أن بعض الشباب كان يقوم بالالتحاق بالحزب الوطني للحصول على بطاقة العضوية بالحزب وإظهارها في الكمائن ليلاً. أغلب هذه الحالات لم تكن من الطبقات الفقيرة، بل من أبناء الطبقة الوسطى والوسطى العليا إن جاز التعبير، فأغلبهم من المهندسين والمحاسبين وأحياناً الأطباء، وكان المحامون أفضل حظاً من الباقين، فكانوا لا يلجأون إلى هذه الحيلة.
في مصر إرهاب دولة
24-05-2018
● مع فترة النشاط السياسي الكبيرة بين 2005 إلى2010، قامت مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والجماعات السياسية المختلفة بتكثيف تسليط الضوء على الاحتجاز التعسفي والاعتقال غير المبرر، وسوء استخدام السلطة لقانون الطوارئ، والتوسع في الاشتباه وإجراءات التفتيش. الملفت ليس الاستخدام السياسي لقانون الطوارئ والاشتباه، فالأقسام والمراكز لم تكن تعج بالنشطاء السياسيين، ولكن بالمواطنين العاديين. كما أن ضابط المباحث حينما يقوم بالاشتباه في ميكروباص كامل، ويقوم بإنزال ركابه جميعاً والكشف عليهم، لا يقوم بذلك لأن هؤلاء الركاب سياسيون، ولكن لأنهم سكان مصريون عاديون. ومع الانخراط أكثر في دوائر المحامين وقطاعات اجتماعية مختلفة، وتفحص سجلات القضايا، بدأ يظهر أمامي ما يمكن تسميته بظاهرة أخذ الرهائن والأسرى من المجتمع للتفاوض عليهم أو للضغط على المطلوبين من أبنائهم لتسليم أنفسهم، أو لفض المنازعات بين العائلات أو العصابات. وهي ظاهرة غير محصورة أو محددة بإقليم ما أو منطقة شعبية عن أخرى، ولكنها عامة في عموم القطر، يتداخل فيها مع البوليس الوجهاء والأعيان والمشايخ والعمد وكبار المناطق ونواب مجلس الشعب.
الملفت ليس الاستخدام السياسي لقانون الطوارئ والاشتباه، فالأقسام والمراكز لم تكن تعج بالنشطاء السياسيين، ولكن بالمواطنين العاديين. كما أن ضابط المباحث حينما يقوم بالاشتباه في مايكروباص كامل، ويقوم بإنزال ركابه جميعاً والكشف عليهم، لا يقوم بذلك لأن هؤلاء الركاب سياسيون، ولكن لأنهم سكان مصريون عاديون.
● آخر الملاحظات الميدانية تخص عمليات الاشتباه والوصم الأخلاقي لكلا الجنسين، ولكن وطأة هذه العملية أشد بكثير على النساء. الاشتباه في هذه الحالة يأخذ أشكالاً ميدانية متعددة، مثل الاشتباه القائم على اختلاط الجنسين في بعض الأماكن العامة، أو الاشتباه في ممارسة البغاء. وهنا يأخذ الأمر المعتاد مجراه ويقوم الأمين أو الضابط بفحص الهويات وربما تفتيش الأفراد، ثم تأتي مرحلة التهديد بإبلاغ الأهل والاستجواب الميداني اللحظي عن طبيعة العلاقة بين الطرفين، وممارسة أنواع مختلفة من الابتزاز أحياناً، أو السلطة الأخلاقية والوعظ والتهديد. وإذا تم الاعتراض من قبل الأفراد قد يصل الأمر إلي حد التنكيل واختلاق قضية والسحب إلى القسم أو المركز. وعادة تنتهي القضية مع أول إحالة للنيابة العامة. ولكن يكون الغرض الرئيسي قد تحقق، سواء كان الضبط أو الفضح والتنكيل، وفي بعض الحالات الابتزاز والمساومة. الأمر نفسه يصح في ما يتعلق بمرور ذكر وأنثى معاً لا تربطهما علاقة مسجلة، بأحد الكمائن. فالضباط والأمناء يستغلون هذا الأمر في السؤال عن طبيعة العلاقة بينهما، وبالأخص فيما يعرف بالكمائن الحدودية، أي الكمائن التي تفصل بين المدن والمحافظات. كذلك الحال في عمليات الاشتباه في المثلية الجنسية، والتي تصل في كثير من الأحيان لحملات أمنية ومراقبة مكثفة للأفراد موضوع الاشتباه وتجمعاتهم.
وخلاصة: الغرض من الاشتباه، الذي توسع بشدة في عهد مبارك، كان ولا يزال لا يهدف إلى حصار الجريمة وزرع الطمأنينة في المدينة. بل أن هدفه الرئيسي هو إخضاع عموم السكان لحالة من الإرهاب اليومي، تكرّس مهابة السلطة وفرض سطوتها وهيمنتها.