"سين وصاد" حرفان أولان لأسماء مستعارة، وأنا سكنتُ زنازين مختلفة، وفي الزنزانة الواحدة، كان يجاورني زملاء كثيرون... فرجاء عدم محاولة التعرف على صاحب البورتريه، أو تخمين هويته! فهدف هذه الكتابة هو أن يعرف الناس بالتفصيل كيف يعيش السجناء، بعيداً عن الكلام العام عن الحرية وحقوق الإنسان، وهذا يقتضي سرد تفصيلات شخصية دقيقة.
مشكلة العلاقات المثلية في العنبر
في ربيع 2014، حكى لي زميل عن أكثر خبرات سجنه إيلاماً. كانت ليلة قضاها منذ شهور بزنزانة أخرى. وَرَدَ عليهم سجين "مش تمام" كما قال، وكان المكان المتاح له بجوار زميلي. لم أسأله كيف عرفوا أنه مثلي الجنس، لأن الأسرار تُعرف في السجون بيسر. كانت هذه الليلة أقسى ليالي زميلي في السجن. كان يعلم أنه يستحيل أن يمسه الزميل الجديد، لأنه دائماً هناك زميل سهران، ولأن التكدس يمنع حدوث أي شيء في السر. عيون كثيرة لا تجد تسلية إلا التحديق في المساحة الضيقة. لكن ذلك لم يمنع رعب زميلي، لأن تكدس السجون يسبب نوعاً من التلامس الإجباري. في الصباح نُقل الوافد من الزنزانة. كانت ثمة تفاهمات وقتها مع إدارة السجن، فدبّر مسؤول الزنزانة الأمر بهدوء.
بعد ذلك بشهور بدأنا جميعاً نلاحظ أمراً. الزميل "س" صديق مقرب من الزميل "ص". كلاهما لم يبلغ العشرين. "ص" شاب مهذب، ذو حس أخلاقي وإنساني رفيع. أما "س" فيكاد يكون نقيضه إلا من بقايا بعض القيم الشعبية الراسخة كاحترام الكبير، وكان ذلك يخص زميلاً واحدا غالباً. كان "س" يتطاول أحياناً على بعض زملائه، أو يتهرب من أداء واجباته، لكنه كان يعتذر وينضبط مع ضغط الزملاء عليه، وخاصة المسنون منهم.
لم تكن الصداقة الوثيقة بين "س" و "ص" غريبة. فهي مألوفة لدى الشباب، تتأسس على الأخوة الصادقة، ومشاركة هموم وأنشطة مشتركة كحفظ القرآن أو تطبيق الـ "أوريجامي" (فن طي الورق، وهو ياباني الأصل). الذي بدا غريباً هذه المرة، أن "س" بدأ يمشط شعر "ص"، أو يطعمه بيده... لم أبالِ بالأمر. بعض الزملاء تحدثوا عن ذلك في ما بينهم، وقرروا أنها أخوة صافية.
ذات ليلة، وأنا سهران أكتب على ضوء لمبتي الصغيرة، سقطت عليّ قطعة بلاستيك صغيرة. (أظن الآن أنها كانت غطاء قلم). هذه إشارة من زميل يريد أن يلفت انتباهي دون صوت أنه ثمة شيء يجري هنا). رفعت رأسي ونظرت بحذر... رأيت "ص" مستغرقًا في النوم و "س" صاحياً بجواره، يمسك عضوه برفق ويضع يده على جسده. ضايقني المنظر، فأبعدت نظري فوراً، دون تفكير.
عدلتُ جلستي لأنبهه لوجودي قريباً منه. ثم شعرت بحركة بالأعلى، على الطيارة (الطيارة نسيج من الحبال نفتلها من أكياس القمح الكبيرة ــ "شوالات" أو "أجولة" ــ الفارغة التي تباع في السجن، ويتم ربط الحبال بين النوافذ لعمل شبكة من المربعات الصغيرة، يفرش عليها عدد من الزملاء كراتين فارغة، ثم بطاطينهم، ويعيشون عليها توفيراً للمساحة، ويكون للطيارة سلّم من الحبال أيضاً). في الظلام رأيت وجهين ينظران من الطيارة، سمعت ضحكة قصيرة من أحدهما، اختفيا بعدها. واضح أن أحدهما ألقى عليّ غطاء القلم لينبهني. لاحظت أن "س" تظاهر بالنوم محوّلاً وجهه عن "ص". يبدو أنه شعر بحركتي أو بحركة الزملاء على الطيارة.
آذاني ما رأيت. في الصباح حكيت الأمر لزميل من لجنة حلّ المشكلات، فأخبرني أن زميلاً آخر أخبره. اكتشفنا أن بعضنا رأى هذه التصرفات ليلاً فسكت عنها حرجاً. سأل بعض الزملاء "ص"، فأقسم أنه كان نائماً ولم يشعر بشيء من ذلك، وأنّ ما كان يفعله "س" من تمشيط شعره وسواه كان يتقبله من باب الأخوة فحسب. كنا نعلم أن لـ "س" تاريخاً من الاكتئاب، فكانت أمه توصي "ص" برعايته ودعمه، وكان يصعب عليه حاله، فلا يحرجه عطفاً وإنسانية. بعضنا ظل يشك في رضا "ص"، فحسم الأمر بالتفريق بينهما. من قرائن كثيرة صدّقت "ص"، وإن خطّأتُه في تسامحه من البداية.
أما "س" فحيرني أمره. كنت قد قرأت قبل سنوات عن أن انتهاج المثلية الجنسية يمكن أن يكون طارئاً وتعبيراً عنيفاً عن الغضب. كنت أعرف أيضاً أن "س" كانت له محاولات لمصادقة بنات قبل سجنه، وأنه كان يشتري مجلات من السجن (كان مسموحاً بتوزيع "الصحف القومية" أي التي تملكها الدولة، ومجلاتها باشتراكات باهظة) ليتأمل صور الممثلات والعارضات، ويستمْني بإلهام منهن. ذلك كله حيّرني فتجاهلت الأمر كله، لكنني اضطررت للتفكير فيه ثانية بعد شهور، لأن "س" جاورني في حركة تنقلات جديدة.
التجربة الشخصية
فبسبب زيادة التكدس في آذار/ مارس 2015، جاورني "س". كان التزاحم أشد والاحتكاك أكثر. الشهران التاليان كانا من أقسى شهور حياتي. عن يميني كان جاري "إف"، وعن يساري كان "س". الحق أنه منذ التفريق ذاك، بدا "س" منكسراً مفضوحاً على نحو يثير الشفقة.
لم يكن لي بد من التخطيط، خاصة مع تقليل المساحة المتاحة لكل منا بحيث يستحيل النوم بدون تلامس مهما كان خفيفاً. فكرت كثيراً وطويلاً. قررت أن الفتى لن يجرؤ على إيذائي لأن أمره انكشف، فصار أكثر الزملاء يتحاشونه، وكان هذا يؤلمه، ولأن "ص" كان ساذجاً، بينما أنا أكبر منه وأكثر حذراً، كما كنت أعلم من شواهد كثيرة أنه يحترمني حقاً. المشكلة أن الحرمان الجنسي في السجون أمر خطير لا يتحدث عنه أحد، وأن المثلية الجنسية في العنبر غير مقبولة أبداً، بغض النظر عن الموقف منها في الحياة العادية الحرة.
أول ما فعلته كان التأكيد على نمط التواصل بيننا: كنت أضع حاجزاً واضحاً بيني وبين الجميع، ثم أرفعه بالتدريج بيني وبين من أرتضي صداقته وأخلاقه، مع احترام والتزام بنظام الزنزانة. حين كنت ألاحظ اكتئاب "س"، كنت أنصحه وأخفف عنه دون خدش لنمط التعامل الرسمي بيننا. حرصت أيضاً على ألا يحدث تلامس بيننا، وكلما لمس مرفقُه مرفقي دون قصد، أَبتَعِدُ فوراً مغيراً وضعي. كانت الرسالة واضحة: سنبقى بعيدين. وصلته الرسالة فأصبح يحرص أيضاً على ذلك. أظن أنه استشعر مخاوفي واحترم أدبي في التعبير عنها.
عند ذلك زاد حرصي على نصحه ودعمه نفسياً. بعد زيارتي كنت أهديه شيئاً من الفاكهة أو الحلوى، وكان يفعل ذلك أحياناً. بدأ يظهر لي مشاعر الأخ الأصغر، مع ميل متكرر للانعزال والصمت والجفاء أحياناً. كنت أتخذ تدبيراً آخر حتى أستطيع النوم بلا هواجس. كانت مواعيد نومه متوافقة غالباً مع مواعيد الزنزانة، فكنت أصحو وهو نائم ولا أنام إلا وهو صاحٍ، هو وأي زميل آخر، حتى تكون ثمة عيون ترى ما يحدث. ثم لاحظتُ أحيانًا أنني أصحو فأجده نائماً. اكتشفتُ أنني لم أعد أخاف منه.
مرةً صحوتُ بينما أدفعه بقدمي. كان واقفًا يصلي، ولا أدري كيف لمستْ قدمي قدمه أو ساقه، فدفعتُه وأنا نائم. أذهلني ذلك. ربما كنت مرعوباً في اللاوعي من مجرد ملامسته.
لم يجاورني إلا شهراً تقريباً. لم يحدث بيننا إلا خلاف واحد، بسبب ضبط المساحة المقررة لفرشتي. زارتْه أسرته نهار ذلك اليوم. أخبرتْه أمه أن أخاه الطفل اعتُقل أو رُحِّل إلى المؤسسة العقابية، لست متأكداً الآن، فظل مكتئباً، وفي الليل افتعل مشكلة الفرشة، فشكوتُه لزميل كان وقتها كأبيه، فكلّمه طويلًا، فبكى "س"، وحكى له خبر أخيه. أخيراً جاءني معتذراً، حاكياً خبر أخيه، الذي بُرّئ بعدها بفترة قصيرة.
بلا عدوانية
لم تكن لـ "س" ميول عدوانية إلا في أيام الاكتئاب، وكان يتناول أدوية مضادة له إذا سُمح لأسرته بإدخالها. في إحدى هذه النوبات تورط في شجار مع زميل، قذفه بزجاجة مياه معدنية سقطتْ على فرشتي وبللتْها (دون أن تصيبني). في جلسة الصلح بعدها بيوم رفض الاعتذار للزميل الذي أساء إليه، فتشاجرا على نحو مأساوي، وأصيب بجرح في ساقه. زميلان من المرضى النفسيين ظلا يشعلان نار الوقيعة، حتى تدخل كبير العنبر، حاسماً الأمر بصلح إجباري، بعد أن أصبح وضع الزنزانة كلها لا يُطاق.
كان "س" يعرف آرائي السياسية دون أن نتحدث عنها. كان يرفضها، وظل يشكو ذلك من حين لآخر إلى كبيره في الزنزانة فيهدّئه ويقنعه بتقبّل اختلافاتنا. كان قد اعتقل من محيط تظاهرة قبل أن تبدأ، وكان ينوي المشاركة فيها. وكان محكوماً لمدة سنتين بقانون التظاهر. الذكرى الطيبة التي أذكرها له كانت يوم عودته من الزيارة سعيداً لأن أمه أخبرتْه أنها شاهدت في شارع مجاور بوستراً يطالب بالحرية لماهينور ورفاقها في قضية وقفة خالد سعيد.