لا مرضى ولا معالِجون: قصص "الآخرين" في مستشفيات مصر بزمن كورونا

تأسست في العام 2010 نقابة مستقلة تضم الفنيين الصحيين، وهي أعلنت أن أعدادهم لا تقل عن 8 آلاف شخص، يعمل أغلبهم فترتي عمل أو ثلاث، ما بين المستشفى الحكومي الذي تم توزيعهم عليه إثر تكليف رسمي، براتب لا يزيد في بدء التعيين عن 1200 جنيه، ولا يتجاوز قبل الخروج للمعاش 3000 جنيه، والمستشفيات الخاصة.
2020-06-13

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
فادي فرنسيس - مصر

خارج نطاق الوجع للمرضى، والمعطف الأبيض للأطباء، والزي المميز للتمريض، هناك بالمستشفيات المصرية جيش يواجه هو الآخر وباء كورونا، ويضم الآلاف من العمال والفنيين الصحيين والإداريين.

هي مواجهة تسري على الجميع دون تكافؤ، وعنوانها بذل الجهد وانتظار النصر أو الشهادة، غير أن هذه المواجهة تزيد حدتها حينما يتعلق الأمر بمن صوتهم خافت أو لا يجدون من يسمع لهم.

يعملون دون توقف، وبينهم إصابات ووفيات لم ترتقِ لعدد مثيلاتها من ذوي المعاطف البيضاء والتمريض، لكنها تبقى حيوات لا أرقام، افتقدت- بحسب شهادات رفاقها - كثيراً من الحماية والدعم والتقدير.

أرقام وحيوات

أعلن "المركزي للإحصاء" عن ارتفاع أعداد المستشفيات فى مصر إلى 1694 نهاية عام 2018، 49 في المئة منها فقط هي التابعة لوزارة الصحة والجامعات، بينما يسيطر القطاع الخاص على ما تبقى. جميعها تضم فئات واسعة من الفنيين الصحيين، وهم مراقبو الصحة ومكافحة العدوى، وإداريو الاستقبال والتدوين، والمختصون بالمختبرات ومراكز الأشعة، إضافة إلى قطاع واسع آخر يشمل عمال النظافة والصيانة والأمن وتجهيز الوجبات.

وقد تأسست بالعام 2010 نقابة مستقلة تضم الفنيين الصحيين، وهم خريجو معاهد العلوم الصحية ممن يتم توزيعهم حسب تخصصاتهم على تلك المهام. ووفق رصد أولي، أعلنت النقابة الناشئة قبل عشرة أعوام أن أعدادهم لا تقل عن 8 آلاف شخص، يعمل أغلبهم فترتي عمل أو ثلاث، ما بين المستشفى الحكومي الذي تم توزيعهم عليه إثر تكليف رسمي، براتب لا يزيد في بدء التعيين عن 1200 جنيه، ولا يتجاوز قبل الخروج للمعاش 3000 جنيه والمستشفيات الخاصة. وهناك تتفاوت الرواتب حسب سنوات الخبرة وضغط العمل وطبيعة المؤسسة.

لا يتمتع أغلبهم بمزايا دون باقي موظفي الجهاز الحكومي، فالتأمين الصحي يعاني من كثير من المشكلات، والتأمينات الاجتماعية تُعين بالنذر القليل بعد الخروج على المعاش. وقد حاول القائمون على النقابة تعزيز مواردها لكن إمكاناتها بقيت محدودة، تعتمد بشكل رئيسي على السعي لمخاطبة الجهات الرسمية، وتقديم مطالبات لم يجد أغلبها مجال تفعيل بعد.

أعلن "المركزي للإحصاء" عن ارتفاع أعداد المستشفيات فى مصر إلى 1694 مستشفى نهاية عام 2018، 49 في المئة منها فقط هي التابعة لوزارة الصحة والجامعات، بينما يسيطر القطاع الخاص على ما تبقى.

وقد شهدت مصر على مدار السنوات إضرابات واسعة بالمستشفيات للمطالبة بالحقوق، لم ينضم لها الفنيون، لكنهم اكتفوا بالنضال من أجل إعلان النقابة رسمياً وضمهم لفئات "الكادر الطبي" مالياً، وهو ما نجحوا بالحصول عليه في 2014. ولكن، وبقرار من جهاز التنظيم الإداري في مصر خلال أزمة كورونا في آذار/ مارس الماضي استبعدوا من الفئات المخصصة، أي من الكادر الذي صدر قرار رئاسي بزيادة مرتباته بداية الأزمة بواقع 75 في المئة من المرتب الأساسي، أما بدل مكافحة العدوى فكان ولم يزل يساوي بين الجميع داخل المستشفيات، ولا يزيد عن 19 جنيهاً. وبعد مناشدات تمّ التراجع عن القرار العجيب.

أما عن العمال، فتتراوح أعدادهم ما بين 20 ـ 22 ألف عامل في مختلف التخصصات. وهنا لا فارق كبير بين نوع المستشفى وجهة التبعية، فأغلبها إن لم تكن جميعها تعتمد منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عاماً سياسة التعاقد مع شركة "توريد عمال"، توفرهم دون الحد الأدنى من ضمانات حقوقية، حيث تتسم جميعها بنهج موحد، وهو التهرب من التأمين على العاملين صحياً او اجتماعياً فيصبحون مجرد "عمال يوميّين" دون أيّة ميزات.

يعملون في ظروف قاسية، فلا تتوفر بالمستشفيات الحكومية، بالأوقات العادية، إجراءات الوقاية عند التعامل مع المخلّفات الطبية الخطرة. ومع بداية أزمة كورونا تمّ شملهم بإجراءات الوقاية ـ نظرياً ـ إلا أنه بطبيعة الحال فهم يكون لهم نصيب الأسد من كل نقصٍ تتعرض له تلك المستلزمات، وما أكثر النقص.

وكذا اعتصاماتهم لم تأت للمطالبة بالتعيين أو بمزايا مهنية، ولكن فقط للمطالبة بصرف الرواتب التي قد تُأخرها بعض الشركات الخاصة 3 أشهر متتالية، وهو ما عاشه 60 عاملاً في شباط/ فبراير الماضي قبل أن يتم توقيف بعضهم أمنياً ثم الإفراج عنهم بعدة عدة أسابيع.

ظروف العمال الصحيين قاسية، فلا تتوفر بالمستشفيات الحكومية، بالأوقات العادية، إجراءات الوقاية عند التعامل مع المخلّفات الطبية الخطرة. ومع بداية أزمة كورونا تمّ شملهم بإجراءات الوقاية ـ نظرياً ـ إلا أنه بطبيعة الحال فهم يكون لهم نصيب الأسد من كل نقصٍ تتعرض له تلك المستلزمات، وما أكثر النقص.

ولا يوجد حصر رسمي لعدد الإصابات والوفيات بين تلك الفئات في ظل الجائحة. تحدثت تقارير نقابية عن إصابة 124 فنيّاً واستشهاد ثلاثة، وتناولت تقارير صحافية استشهاد "عاملة"، ولم تشملهم جميعاً كلمات الرثاء الرسمية.

وعلى الرغم من صدور قرار رئاسي قبل أسابيع باعتبار قتلى كورونا من الطاقم الطبي شهداء يحصلون على نفس المزايا المادية والمعنوية التي تتلقاها أسر شهداء الجيش والشرطة، لكن القرار لم يشمل تفنيداً واضحاً أو تنفيذاً ناجعاً إلى الآن.

العمال.. روايات

"هنا المكان الأكثر أمناً لي صحياً ومادياً"، هذا كان التعليق الأول لـ"عبد الرحمن" عامل النظافة الشاب ـ 23 عاماً ـ بإحدى مستشفيات الحجر الصحي، ذهب إلى هناك قبل ثمانية أشهر، بعد أن حصل على فرصة التحاق من إحدى شركات توريد العمالة. لم يوقع عقداً يحفظ حقوقه التي ينص عليها قانون العمل ولكنه يرضى بحاله، فلا فرص عمل لمن مثله يحمل ثانوية فنية زراعية. وإذا كان هذا هو الحال بالأيام الخالية من الفيروس، فما بالك بالوضع تحت ضغط الجائحة.

يقول "مع بداية الأزمة، قامت بعثة من وزارة الصحة بتدريبنا على إجراءات الوقاية وارتداء ثياب العزل، اختاروني وزميلاً آخر فقط للتعامل مع غرف المرضى، لم يزد راتبنا على الرغم من وعود مسؤولي الصحة بالمكافآت لجميع القائمين بالمستشفى. حصلت على 2400 جنيه ولم أطلب أجازات، يبدأ عملي في السادسة صباحاً وحتى الثانية عشر ظهراً، أنظف وأحمل مخلفات 20 غرفة، أخلع بعدها البدلة الواقية وأطهر نفسي ثم أرتديها مرة أخرى في حال تم استدعائي". يكمل: "قررت الاستمرار حتى انتهاء الجائحة، إذا كتب الله لي عمراً، وأرى نفسي أشارك في عمل إنساني سأتذكره طوال حياتي، وسعيد أن مدير المستشفى بعد مرور أربعة أشهر، وكنوع من الامتنان لم يأت من الوزارة أو من الشركة، صرف لي من ميزانية خاصة مكافأة 4 آلاف جنيه.

"عبد الرحمن" عامل النظافة الشاب ـ 23 عاماً ـ التحق بإحدى مستشفيات الحجر الصحي، قبل ثمانية أشهر بعد أن حصل على فرصة عمل من إحدى شركات توريد العمالة. لم يوقع عقداً يحفظ حقوقه التي ينص عليها قانون العمل ولكنه يرضى بحاله، فلا فرص عمل لمن كان مثله، يحمل ثانوية فنية زراعية.

ليست هكذا مستويات الرضا لدى "عم أحمد" 47 عاماً. يعمل في إحدى المستشفيات الحكومية العامة في مدينة صغيرة بالدلتا، قال: "لم تتوفر لنا أدوات الوقاية إلا قبل شهر ونصف فقط، ويصرف لي يومياً كمامة وزوجا "قفازات طبية" لكنها خفيفة وتتمزق سريعاً أثناء جمع المخلفات من العنابر والطرقات والحديقة المحيطة بالمستشفى، فلا أطلب غيرها، فأنا رسمياً أتبع الشركة لا الوزارة، ولهذا أترك حملي على الله وأجمعها دون واقي، وأبعد يديَّ عن وجهي حتى أقوم بتطهيرها عند نهاية الوردية بالماء والصابون".

يتلقى الرجل راتباً أقل، ويخاف كثيراً أن تنتقل له العدوى وينقلها لبيته وبشكل خاص لأمه، ولا يملك رفاهية العيش في مكانٍ منفرد أو التوقف عن العمل، يقول: "طلبت منهم أن أبيت في مخزن قديم داخل المستشفى، حتى تنتهي الأزمة لكن لم أحصل على موافقة".

صحيون: من الرقابة للاختبار

"عملنا ممتد يشمل استقبال المرضى وتسجيل بياناتهم، المشاركة في تتبع المخالطين بالمنازل، عمل التحاليل والأشعة المقطعية. نحن في مواجهة دائمة مع الفيروس، وطالما كنا عرضة لأمراض كثيرة"، تقول أخصائية المختبر التي حصلت بعد طول انتظار على إجازة رعاية طفل. قبل هذا بوقت قليل، شاركت السيدة على مدار شهرين في مواجهة "كورونا" بالمستشفى الحكومي الذي تتبعه، ومارست أيضاً دورها النقابي، فهي "أمين عام" بإحدى المحافظات، فحكت عن تجربتها الأولى لمساعدة زميلها الذي شعر بالأعراض، فلم يفكر بالعودة لمنزله، وعلى مدار يومين قضاها نوماً وصحواً داخل سيارته، كان يتابع مجهودات زملائه ونقابته لتوفير"مسحة"، وقبل أن تظهر النتيجة تلقى اتصالاً هاتفياً بأن والدته تعاني من ضيق تنفس، زادت محاولات السعي، تم نقلها وهو معها لإحدى مستشفيات الحجر، ثبتت إيجابية تحاليلهما، ودعها بعد 24 ساعة، واحتسبها شهيدة، وانتظر مصيره.

"رضا" شاب صعيدي صغير، حصل على فرصة تعيين داخل معهد طبي تابع لوزارة الصحة، اختار له القدر أن يكون ضمن فريق "سحب المسحات". يتعامل يومياً مع ما لا يقل عن 20 مشتبهاً بإصابته، يرتدي الكمامة والواقي البلاستيكي إذا توافر، قبيل عيد الأضحى خضع للفحص استعداداً لحصوله على إجازة يستطيع خلالها العودة إلى أهله، فاجأته النتيجة، عاد من طريقه وذهب لمقر عمله وشعر بالصدمة حين رفضوا دخوله، كما لم يقدم له مرؤوسوه الدعم الكافي المعنوي أو اللوجيستي. أجرى اتصالات على مدار يومين حتى استطاعت النقابة توفير سرير للحجز. يشعر بتحسن، لكنه كما يقول: "أشعر بخوف من العودة مرة أخرى لهذا العمل رغم اعتيادي طوال سنوات على التعامل مع هاجس الإصابة بكل أنواع الفيروسات، افتقاد الدعم والأمان هو أمر أصعب من الإصابة ذاتها".

"عملنا ممتد يشمل استقبال المرضى وتسجيل بياناتهم، المشاركة في تتبع المخالطين بالمنازل، عمل التحاليل والأشعة المقطعية. نحن في مواجهة دائمة مع الفيروس، وطالما كنا عرضة لأمراض كثيرة"، تقول أخصائية المختبر التي حصلت بعد طول انتظار على إجازة رعاية طفل. قبل هذا بوقت قليل، شاركت السيدة على مدار شهرين في مواجهة "كورونا" بالمستشفى الحكومي الذي تتبعه.

نجحت النقابة الناشئة بالفعل في دعم أعضائها حتى الآن، لكن وكما يقول نقيبها: "لا توجد سياسة واضحة لتوفير أماكن عزل لنا، ولا نعرف إن كان يشملنا قرار توفير 20 سريرَ عزلٍ للأطباء بالمستشفيات، ونخشى مع تزايد الأعداد أن نفقد القدرة على تأمين حقهم بالعلاج"، أما العمال فلا ضمانة مهنية أو نقابية تشملهم إلى الآن.

..

دخلت مصر المرحلة الثالثة لانتشار الوباء، ويتوقع مسؤولون رسميون وصول عدد الإصابات خلالها إلى 100 ألف. هذا بينما تتزايد الوتيرة اليومية لشكاوى مواطنين ممن لا يملكون رفاهية العلاج بالقطاع الخاص، ويعانون من أجل الحصول على فرصة للحجز الطبي عند التعرض لضيق التنفس، وذلك يعني اقتراب بلوغ طاقة المستشفيات الحكومية الحد الأقصى للاستيعاب.

أما هؤلاء من مصابي وشهداء الواجب، ممن لم يشملهم قرار التكريم المعنوي والمادي فينطق لسان حالهم بقول: "نحن لا نعمل دون مقابل مادي لكننا لا نعمل فقط من أجله، فلا تتناسوا حقوقنا أو تغفلوا عن تقديرنا".

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...