لم تعد تلفت الأنظار مظاهرات الناشطين في شارع بنسلفانيا في العاصمة الأميركية واشنطن أمام مقرّ صندوق النقد الدولي ورصيفه البنك الدولي، لأنها تضاءلت بسبب قلة المشاركين فيها من ناحية، والأهم من ذلك لأن ما تثيره من أسئلة وقضايا انتقل من الشارع إلى داخل مبنى المؤسستين اللتين برزتا الى الوجود عقب الحرب العالمية الثانية. وكمثال، فاجتماعات الربيع للهيئتين شهدت تداولاً غير مسبوق لثلاث أوراق أعدّها اقتصاديون وخبراء ماليون في الصندوق يربط بينها أنها تناولت قضية اتساع الفجوة بين «الذين يملكون» و«الذين لا يملكون»، وتأثير ذلك على النشاط الاقتصادي ومدى ما يتسبّب به في إعاقة تحقيق النمو الاقتصادي، وعرقلة الجهود التي تخصها. وهو ما يشير الى الجدية التي أصبح الصندوق يتعامل بها مع هذه القضية رغم انه لم يتم اعتمادها كسياسة رسمية. ولكن مديرة الصندوق، كريستين لاغارد، أوضحت أن هذا التوجه أصبح ضمن «النصائح» التي يقدمها للدول الأعضاء، لتهتم أكثر بقضية عدم المساواة الاقتصادية وذلك في إطار برامج «الإصلاح الهيكلي». وعندما انتقدها البعض على انها تهتم بقضية ليست من صلب سياسات ومجالات الصندوق، ردت قائلة: بالعكس، هذا التوجه يقع في قلب مرجعيات الصندوق لتحقيق الاستقرار الاقتصادي!
نائب لاغارد، المستر مين زهو، توسع في اعتماد هذه النبرة الجديدة وتفسيرها بشكل يحررها من فرضية تقلبات مقاربات الصندوق، فقال إنه خلال مسيرة الصندوق عبر 70 عاما اعتمد استراتيجية للتطور التدريجي في السياسات التي يتبعها، وان التوجه الخاص بالاهتمام بمعالجة قضية عدم المساواة يأتي في هذا الأطار. وأضاف انه خلال عقد التسعينيات مثلا وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي فإن قضية إعادة هيكلة اقتصاديات دول شرق أوروبا أصبحت لها الأولوية، وعقب الأزمة المالية العالمية فإن الترابط بين الاقتصادات أصبحت هي القضية، وبعد عبور تلك الأزمة تقدّم موضوع عدم المساواة ليصبح محور الاهتمام. وضرب مثلا على ذلك ان الكثير من الدول التي تطلب العون الفني من الصندوق تطرح مشكلة التهرب الضريبي، مما يشكل وسيلة لخفض الفوارق في الدخل بين المجموعات المختلفة.
أولويات جديدة
أهمية هذا التوجه وبغض النظر عن كونه سياسة جديدة أو تطوراً «طبيعياً» لممارسات الصندوق، انه يتعارض مع ثقافة راسخة في المؤسستين تركز على تحقيق النمو وخفض الدين العام، لأن الحديث عن عدم المساواة يمكن أن يؤثر سلبياً على فرص النمو الاقتصادي بمعناه المجرد وليس السوسيولوجي. فقد كان تركيز المؤسستين على «النمو» بغض النظر عن الطريقة التي يتم بها. بل ان الثقافة السائدة فيهما كانت أكثر ميلاً الى الجانب المتطرف في الفكر الرأسمالي القائم على إطلاق الحرية أمام المبادرة الفردية بأقل قدر من الضوابط، بما في ذلك تقليل العبء الضريبي على رجال الأعمال، وذلك استناداً إلى مفهوم أن اعتماد سياسات مثل هذه ستوفر حافزاً لهم من خلال تعظيم الأرباح التي يعاد استثمارها في أعمال جديدة توفر فرص عمل ودخول للآخرين، بينما يسهم تدخل الدولة وسعيها لأحداث شيء من التوازن، في إلغاء الدافع أمام الكثيرين ليعملوا ويكسبوا قوت يومهم لأن الدولة، عبر برامجها الاجتماعية، توفر لهم شبكة أمان و«تقتل لديهم الرغبة في العمل».
تلك كانت إيديولوجيتهما السائدة، وهي نتاج للسيطرة الأميركية على البنك الدولي ونتاج التأثير الضخم للسياسات الاقتصادية بنهجها النيوليبرالي التي تم اتباعها أبان عهدي مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، والتي تواصلت بصورة واضحة في عهدي جورج بوش الابن، صاحب الإعفاءات الضريبية الضخمة لمصلحة الأغنياء، وكذلك رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير (المنتمي الى حزب العمال المعارض للمحافظين، والذي يوصف بـ«يسار الوسط»!) الذي شهد عهده تسريع تفكيك دولة الرفاهية... وفي إشارة موحية لهذا الاتجاه، تشير السجلات إلى أن أول شخصية قام بلير بدعوتها لزيارته بعد تولّيه رئاسة الوزارة كانت مارغريت تاتشر!
إعادة نظر
الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاديات الغربية ابتداء من الولايات المتحدة منذ العام 2008، دفعت إلى إعادة النظر في تلك السياسات، كما أعادت فتح الباب أمام سياسات وبدائل في شكل آراء ومقترحات كانت مطروحة، مثل تلك التي كان يتبناها الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستغليز الذي عمل لفترة ككبير الاقتصاديين في البنك الدولي، وكان من المنادين بضرورة الاهتمام بقضية عدم المساواة لتأثيرها السلبي على الاقتصاد، حيث تدفع جهود النمو الى التقلب ويمكن أن تؤدي الى تراجع اقتصادي مفاجئ.
وتشير إحدى الأوراق الخاصة بهذا التوجه التي أعدّها الاقتصاديان بالصندوق أندرو بيرج وجوناثان أوستري الى أنه من خطل الرأي التركيز فقط على تحقيق النمو وترك قضية عدم المساواة الاقتصادية لتعالج نفسها بنفسها، وذلك لأن النمو الذي يتحقق بهذه الطريقة يكون منخفضاً ولا يمكنه الاستمرار مما يؤثر على الإمكانيات الاقتصادية المستقبلية للبلاد التي تتبنى هذا النهج.
وتضيف ورقة أخرى أنه من بين ستة عوامل تؤثر في مدى استمرارية النمو الاقتصادي وهي: الاستثمارات الأجنبية، الدين الخارجي، تنافسية سعر صرف العملة، والانفتاح التجاري، والمؤسسات السياسية، وتوزيع الدخل، فإن العامل الأخير حاز على النسبة الأكبر في تأثيره على النمو الاقتصادي، بينما جاءت العوامل الخمسة الأخرى في مراتب متدنية لهذه الجهة، وذلك وفقاً للدراسة التي تمّت لأثر هذه العوامل خلال الفترة الممتدة على أكثر من نصف قرن، بين عامي 1950- 2006.
مؤسسة أوكسفام الخيرية المهمومة بقضايا مكافحة الفقر والتنمية وجدت في التوجه الجديد ما يستحق الانتباه، خاصة أنها من الناقدين الرئيسيين لسياسات الصندوق لأنها تتبنى موقفاً يقوم على أن عدم المساواة مضر ليس فقط من الناحية الأخلاقية، وانما كسياسة اقتصادية سيئة.
ويتوقع لهذا التوجه أن يثير بعض العواصف السياسية داخل العواصم الغربية ومراكز اتخاذ القرار فيها. فالحزب الجمهوري في الولايات المتحدة مثلاً ومجموعة «حزب الشاي» فيه تتبنى مواقف معادية أصلاً للمؤسسات الدولية من الناحية الأيديولوجية، ولن تستسيغ أن تتبنى هذه المؤسسات سياسات جديدة تتناقض مع مرتكزاتها الفكرية، وهي أثبتت أكثر من مرة أنها على استعداد لشلّ عمل حكومة بلادها بالصدام مع الإدارات الديموقراطية، كما حدث مع الرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما، وذلك بسبب الخلاف حول كيفية التعامل مع حجم العجز المتنامي في الميزانية، وهل تكون تغطية ذلك العجز عن طريق إلغاء العديد من البرامج الاجتماعية أو عن طريق تقليص حجم الإعفاءات الضريبية التي يتمتع بها الأغنياء.
انعكاسات عربية
لن تقتصر آثار هذا النقاش على المؤسستين الدوليتين والعواصم الغربية المؤثرة، وإنما سيبرز أثره على المنطقة العربية، حيث تشكل الفجوة بين الأثرياء والفقراء أحد أسباب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أسهم في انتفاضات متكررة آخرها ما أطلق عليه «الربيع العربي». فمن الانتقادات التي وجهت إلى نظام الرئيس المصري حسني مبارك، أنه رغم نمو نسب الناتج المحلي الذي سجل في عهده، الا ان ذلك النمو لم يرْشح الى الطبقات الفقيرة التي ظلت على حالها، إنْ لم يزدد سوء ذلك الحال، وذلك في الوقت الذي تمدّدت فيه الطبقة الغنية وازدادت الفجوة بينها وبين الأغلبية الشعبية. وبسبب تداخل طبقة رجال الأعمال مع النظام، فلم يروا الشرارات المنبعثة من أتون تلك الفجوة حتى أطاحت بالنظام كله، وهو ما تكرر بصورة أو أخرى في غير مصر من البلدان العربية.
بل حتى تلك الدول التي لم تشهد انتفاضات شعبية أو تردياً في الوضع الاقتصادي، فإن الأسئلة المتعلقة بالمساواة وتضييق الفجوة بين «الذين يملكون» و«الذين لا يملكون» تفرض نفسها وبتبعات سياسية واجتماعية. ولهذا راجت برامج مكافحة الفقر وانتشار مؤسسات «التمويل الأصغر»، ولو أنها تبدو مثل الجهد المبذول لرفع العتب، أكثر منه عملاً جاداً لتحقيق نقلة نوعية فيما يخص قضية المساواة الاقتصادية وجعلها قضية مجتمع وقواه السياسية أكثر منها مجال لنقاش اقتصادي بحت.