تنتظر السوق النفطية بقلق أواخر الشهر المقبل، عندما يلتقي وزراء الدول الأعضاء في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) في فيينا في اجتماعهم التقليدي. على غير العادة، من المتوقع أن يحظى هذا الاجتماع بمتابعة دقيقة لمعرفة ما إذا كانت الدول الأثنتا عشرة في المنظمة ستعكس استراتيجيتها الحالية بالحفاظ على نصيبها في السوق، وتعود إلى مبدأ الدفاع عن الأسعار عبر خفض الإنتاج، أم سينفتح الباب مجدداً أمام حرب أسعار جديدة مثلما حدث قبل قرابة ثلاثة عقود من الزمان، لكن هذه المرّة بين الدول الأعضاء في المنظمة. ففي المرة السابقة، كانت الحرب موجّهة بصورة رئيسة ضد المنتجين من خارج أوبك، وعلى رأسهم بريطانيا، منتجة النفط من بحر الشمال، في مسعى لاسترجاع حصة المنظمة في السوق التي فقدتها لمصلحة المنتجين من خارجها الذين لا يتقيّدون بسعر رسمي.
وفي واقع الأمر، فإن السعودية أطلقت طلقة البداية في أواخر ايلول/ سبتمبر الفائت، عندما أعلنت عن خفض يتراوح بين 60 سنتاً الى 1,20 دولار للبرميل (حسب نوع النفط) في أسعار نفوطها المتجهة الى الأسواق الآسيوية، وكذلك طال تخفيض آخر نفوطها المتجهة الى الأسواق الأميركية والأوروبية وبلغ 20 الى 40 سنتاً للبرميل. والرسالة واضحة: الرياض مستعدة لخفض الأسعار التي تبيع بها نفطها، في مسعى للحفاظ على حصتها في السوق، وخاصة تلك الآسيوية التي أصبحت ميدان الطلب الرئيسي على الذهب الأسود، ولو أن تلك السوق مرشحة لتباطؤ اقتصادي في العام المقبل، كما يتوقع صندوق النقد الدولي، وهو ما سينعكس كذلك على حجم الطلب على النفط.
تدهور سعر البرميل بدا واضحاً من تحركات سلة أوبك التي تضم نفوطاً تمثل كل الدول الأعضاء في المنظمة، مثل خام "العربي الخفيف" السعودي، و"مربان" الإماراتي، و"السدر" الليبي، و"مزيج صحارى" الجزائري، و"غيراسول" الأنغولي وهكذا.. استعراض حركة سعر سلة أوبك هذه يوضح انها سجلت تراجعاً من القمة التي بلغتها في حزيران/ يونيو 2014، وهي 107,89 دولارات للبرميل، الى 90,83 دولاراً للبرميل وذلك حتى الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.
تغييرات موسمية أم هيكلية؟
خطوة الرياض هذه لا تعكس قلقاً سعودياً فقط، وإنما بعض المتغيّرات التي طالت السوق. فهل هذه المتغيرات ذات طبيعة مؤقتة وموسمية يمكن أن تتغير بعد فترة، أم أنها هيكلية تتعلق بأساسيات العرض والطلب ومن ثمّ يمكن أن تعيد رسم ملامح السوق والقوى الفاعلة فيه، وما يتبع ذلك من تداعيات ونتائج. وأول هذه المتغيرات نمو الإمدادات، مما يعني زيادة العرض، الأمر الذي أثر على معدلات الأسعار ودفع سعر البرميل الى التراجع بنسبة 20 في المئة بالنسبة لخام "برنت" البريطاني الذي يعتبر مؤشراً عالمياً للسوق، وهو أدنى معدل له في غضون أكثر من عامين. وأول ملاحظة على هذا التراجع أنه يتمّ في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط، وهي خزان سوق النفط الرئيسي في العالم، اضطرابات سياسية وأمنية كثيفة. وجرت العادة في السابق أن تؤدي القلاقل في هذه المنطقة إلى ارتفاع في سعر البرميل خوفاً من انقطاع الإمدادات، وفي البال تجربتا الحرب العربية ـ الإسرائيلية في 1973، والثورة الإيرانية بعدها بخمس سنوات، عندما بلغ سعر البرميل 40 دولاراً لأول مرة في التاريخ، وذلك لأن الهمّ الأساسي تركز على تأمين الإمدادات بأي ثمن وبغض النظر عن السعر. لكن هذه المرة، ورغم انتشار الاضطرابات ودخول الدول الخليجية فيها بصورة مباشرة، كما في الحرب مع داعش، إلا أن سعر البرميل بدأ رحلة مستمرة من التدهور. ويعود ذلك الى عاملين أساسيين، أولهما أن السوق التي تتحرك وفق الانطباعات إلى حد كبير، توصّلت إلى حالة من التعايش مع هذه الاضطرابات، وأنها لن تؤدي الى انقطاع في الإمدادات بدليل ما يحدث في ليبيا التي تنهشها حروب المليشيات وتبادل سيطرتها على المؤسسات الحكومية، ورغم ذلك ارتفع الإنتاج النفطي من نحو 450 ألف برميل يومياً في حزيران/ يونيو الفائت الى 800 ألف في الوقت الحالي. والشيء نفسه ينطبق على العراق ومعه كردستان، وبقية الدول الأعضاء في أوبك بدرجات متفاوتة.
أما العامل الثاني فيرجع إلى أن انطباعات السوق هذه عززتها الأرقام على أرض الواقع في جانب زيادة الإمدادات من داخل وخارج أوبك. فإنتاج المنظمة بلغ الشهر الماضي، وفق مسح قامت به وكالة رويترز، 30,96 مليون برميل يومياً، بينما يُتوقع أن يكون الطلب على نفط أوبك خلال الربع الأول من العام المقبل وفق هذا المسح في حدود 28,8 مليون برميل. بل إن تقديرات المنظمة نفسها تتوقع أن يكون الطلب على نفطها خلال الربع الأول من العام المقبل 28,39 مليون برميل. أي انه إذا استمر معدل الإنتاج الحالي للدول الأعضاء في أوبك، فإنه سيكون هناك فائض في السوق في حدود 2,57 مليون برميل يومياً، لا بد أن ينعكس على سعر البرميل. وكانت السعودية قد استبقتْ الجميع وقامت بخطوة انفرادية بخفض إنتاجها من نحو 10 ملايين برميل يومياً في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي الى 9,7 مليون، وهو حجم إنتاجها حالياً.
العنصر الأميركي
على أن العامل الأكثر إثارة فيما يتعلق بزيادة الإمدادات يخص الولايات المتحدة الأميركية التي نجحت، عبر استخدام تقنية التكسير الهيدرولوجي، في الوصول الى كميات من النفط والغاز الصخري لم تسهم فقط في تقليص وارداتها النفطية بسبب زيادة الإنتاج المحلي، بل جعلتها مصدِّرة لبعض المنتجات، مما انعكس على بعض الدول التي كانت تصدر إلى الولايات المتحدة، وأصبح عليها البحث عن أسواق جديدة لصادراتها النفطية. ففي آب/أغسطس الماضي، بلغ حجم الإنتاج النفطي الأميركي 8,5 مليون برميل يومياً، وهو أعلى معدل أميركي للإنتاج في غضون 28 عاماً.
وتراجعت الواردات النفطية الأميركية وانخفضت بنحو 8,7 مليون برميل منذ العام 2007. ونتيجة لهذا، فإن دولة مثل نيجيريا كانت من ضمن خمس دول تصدر النفط الخام الى السوق الأميركية لم تصدِّر برميلاً واحداً الى تلك السوق منذ تموز/ يوليو المنصرم. ثم أن الزيادة في الإنتاج صحبها اتجاه تصديري، اذ قامت شركة "كونوكو فيليبس" الأميركية بتصدير 400 ألف برميل يومياً الى كوريا الجنوبية. وهذه الخطوة لافتة للنظر، من ناحية أنها رفعت حجم الصادرات الأميركية الى أعلى مستوى لها منذ الخمسينيات، كما من ناحية وجهة الشحنة، أي كوريا الجنوبية، التي تشير إلى أن منطقة النمو الاقتصادي الوحيدة القادرة على استقبال المزيد من الإمدادات تبقى السوق الآسيوية التي تتمتع بنشاط اقتصادي وكثافة سكانية مع ضعف في موارد النفط والغاز. ولهذا يُتوقع أن تصبح السوق الآسيوية هي ميدان التنافس الرئيسي بين المنتجين للحفاظ على المشترين من الزبائن هناك، وهو ما يفسر خطوة الرياض التي خصصت صادراتها الى تلك السوق بأكبر خفض للأسعار تعرضه على الزبائن مقارنة بالحسوم التي عرضتها على المشترين الأوروبيين والأميركان.
دور السعودية
كل المؤشرات تشير الى وجود تخمة في السوق تتطلب خفضاً للإنتاج حتى يمكن الحصول على أسعار معقولة. والسؤال أصبح متعلقاً بحجم الخفض المطلوب إنجازه ومن يقوم به. نظرياً، فإن حجم ما تنتجه الدول الأعضاء في أوبك يقوم على أساس حصص تخص كل دولة، مع تمتع السعودية بالحصة الأكبر بسبب احتياطياتها الضخمة وقدرتها التصديرية العالية التي تجعلها تحتفظ بفائض إنتاجي لتتمكن من التدخل والتعويض عن أي نقص في الإمدادات من أي دولة، كما حدث من قبل مرات عدة. لكن، وبسبب تجربتها المريرة في منتصف الثمانينيات، عندما تحملت السعودية عبء "المنتِج المرجِّح" الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه حسب حاجة السوق، وجدت أن إنتاجها يتراجع بصورة مستمرة لأن الأعضاء الآخرين لا يلتزمون بحصصهم المقررة. فتخلت السعودية عن ذلك الدور رسمياً، لكنها تقوم به وفق قراءتها ومصالحها الخاصة، وهو ما اتضح عندما رفعت إنتاجها الى 10 ملايين برميل يومياً قبل عامين ثم خفضته بعد ذلك.
إحدى الإشكاليات الخاصة بقضية الحصص في أوبك أن كلاً من إيران والعراق يتبنيان موقفاً يقوم على أساس ان السعودية استغلت الظروف التي مرا بها وتوسعت في إنتاجها وصادراتها على حسابهما. بل إن العراق يشعر أنه في موقف أقوى لأنه مستثنى من نظام الحصص بقرار من أوبك. ويعتقد البلَدان، وتحديداً العراق، أنه مع تحسن وضع إنتاجه وصادراته فإن على السعودية خفض إنتاجها وصادراتها لتفسح المجال للإنتاج العراقي العائد إلى السوق. لكن الرياض لا تبدو مستعدة للاستجابة للطلب العراقي، خاصة أن في خلفية المشهد السياسي والاستراتيجي يقع التنافس وأحياناً المواجهة بين السعودية وإيران على امتداد المنطقة.
السعودية بقدراتها النفطية، ومرونتها لرفع إنتاجها وخفضه، واحتياطياتها المالية الضخمة من العملات الصعبة التي تقدر بنحو 768 مليار دولار، تبدو قادرة على إشعال حرب أسعار والصمود فيها. لكن الى متى يمكنها تحمل تبعات تلك الحرب؟ فالموازنة السعودية تقوم على أساس أن يكون سعر البرميل في حدود 87,6 دولاراً، وأي تراجع عن ذلك المعدل سيدفعها الى اللجوء الى احتياطياتها لتغطية العجز، لأن العائدات من مبيعات النفط تمثل نحو 90 في المئة من دخل الدولة. على أن هناك جانباً آخر يتمثل في أن الإنتاج النفطي المحلي الاأميركي يقوم حالياً على أساس ألاّ يقل سعر برميل النفط عن 75 دولاراً، حتى يصبح الإنتاج مجزياً اقتصادياً. وتراجع السعر عن ذلك المعدل واستمرار التراجع لفترة طويلة يهددان ذلك الإنجاز ويعودان بالولايات المتحدة الى خانة الدولة المستوردة بكميات كبيرة مرة أخرى، مع كل ما لهذا من تبعات سياسية واقتصادية واستراتيجية.
ويُذكر أنه إبان حرب أسعار النفط في الثمانينيات، عندما تراجع سعر البرميل الى أقل من عشرة دولارات، تدخلت واشنطن وبعثت بنائب الرئيس وقتها، جورج بوش الأب، المعروف بخلفيته النفطية، ليسعى الى إقناع الرياض بوقف حرب الأسعار تلك. ذلك أن هناك ولايات أميركية منتجة للنفط مثل تكساس ولويزيانا تضررت فيها الكثير من الآبار الصغيرة التي تنتج ما بين خمسة آلاف الى عشرة آلاف برميل يومياً، وإذا تم إغلاقها بسبب تدني الأسعار فلن يمكن إعادة فتحها مرة أخرى.