"لازم هني يصدّقونا بالأوّل حتّى نحن نقدر نصدّقهم".
رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون في حديثه عن المنتفضين خلال مقابلة تلفزيونية بُثّت في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، بعد نحو أربعة أسابيع على بدء الاحتجاجات.
"إنّ الصحافة دائماً ما تأخد هيئة ولون الهياكل الاجتماعية والسياسية التي تعمل ضمنها". وبحسب المنظّر في الميديا فريد سيبرت، فإن هذه إحدى أكثر المبادئ أساسية عندما نتكلّم عن علاقة الميديا والمجتمع. وبالعودة إلى لحظة السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في لبنان، فهي كانت مرآة صريحة ترى فيها الإعلام انعكاساً للحياة السياسية والاجتماعية في البلد، ربما أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فلا يمكن النظر إلى محطات التلفزيون اللبنانية مثلاُ على غير أنها "ناطقة باسمِ" – أو "أبواق" بتعبير أكثر شيوعاً ودقة - أحزاب سياسية أو شخصيات ذات طموحات في السياسة وتحصيل النفوذ.
ما سلف لا يُخفى على أحد، وهو ليس حالة يختصّ بها الإعلام في لبنان دون سواه. لكن أسابيع الاحتجاجات الشعبية وشهور الانهيار الاقتصادي المتدحرج أخرجا مشهداً إعلامياً يتّسم بفجاجة زائدة، يربّت على "أكتاف الثوار" حيناً، يراوغ في تغطيته للأحداث على الأرض حيناً، ويتخذ موقفاً هجومياً ضد المحتجين/ دفاعياً تجاه المصارف ورموز السلطة أحياناً كثيرة. خطاب الإعلام ليس واحداً، لكن يبقى بارزاً الخطاب والممارسات الإعلامية في الميديا التقليدية أو الجديدة التي اتخذت مواقف سلبية من "انتفاضة أكتوبر"، تحديداً ما يتعلّق بالـ"مؤامرة" كمفهوم أو تصنيف يفسّر الأحداث، ينتشر ويتكرر ذِكره بإلحاح، وكذلك بما يتعلّق بـ"المخادَعة" (Tricksterism) كوسيلة متكررة الاستخدام. إنّ "المؤامرة" و"المخادعة" كلاهما عناصر يمكن ملاحظتها وملاحظة نموها في السياقات الإعلامية المحلية وتكثّفها في فترة الانتفاضة الشعبية منذ تشرين الاول/ أكتوبر 2019 والأزمة الاقتصادية الجارفة.
كان ملفتاً في كثير من الخطاب الإعلامي السائد التلميح أو الاتهام المباشر بوقائع سرّية أخرى تجري في كواليس الحركة الاحتجاجية. "سرديات مؤامراتية" تنتمي لما يمكن أن يُسمّى بـ"المؤامراتية" (“Conspirasicm”)، بتمايزها عن غيرها من الآراء المطروحة بـ"طبيعتها التي تحرّك السرديات السياسية وتفعّل الاستعدادات الكامنة". يكتب الأنثروبولوجي والتر أرمبروست عن مفهوم "المخادَعة" أو سياسات المخادَعة (“Trickter Politics”) في سياق ثورة يناير 2011 في مصر، مستحضراً شخصيّة مقدّم البرامج توفيق عكاشة. منطلقاً من فكرة الثورة بكونها "أزمة انتقالية"، مرحلة بَيْنية وسط ما كان وما سوف يكون، تختلّ فيها القواعد والبديهيات المجتمعية والسياسية، وتخلق مساحة للاحتمالات والممكنات. يعتبر أرمبروست أنّ الأزمات، بطبيعتها التي توحي بانعدام التوازن والشكّ والقلق من المستقبل تخلق أرضاً خصبة لسياسات المخادعة ولتفشيها في المشهدين السياسي والإعلامي. وعلى الرغم من كون مفهوم "المخادِع/ المحتال" يتصل بالثقافة أساساً، متجلّياً بشخصيات مثل الإله ديونيس لدى الإغريق أو "الجوكر المخرّب" أو حتّى "جحا" صاحب الأحجيات، فإن هذا المفهوم تمدّد ليشمل عوالم السياسة والمجتمع والميديا، وملعبه الأساس يكمن في الروابط بين هذه.
أسابيع الاحتجاجات الشعبية في لبنان وشهور الانهيار الاقتصادي المتدحرج أخرجا مشهداً إعلامياً يتّسم بفجاجة زائدة، يربّت على "أكتاف الثوار" حيناً، يراوغ في تغطيته للأحداث على الأرض حيناً، ويتخذ موقفاً هجومياً ضد المحتجين/ دفاعياً تجاه المصارف ورموز السلطة أحياناً كثيرة.
في حالة توفيق عكاشة، فهو لم يأل جهداً في مهاجمة "ثورة يناير" والتحريض ضدها وسرد قصص عن مؤامرات محلية وعالمية هدفها النَيل من مصر. من خلال برنامج "مصر اليوم" على قناة الفراعين التي يملكها ويديرها هو نفسه، تتكشف سرديات عكاشة بكلّ ما يتسم به من المبالغة والضخامة والتهويل، بل بالكاريكاتورية لمنافاته المنطق والعقل. على سبيل المثال، فقد حاول عكاشة إقناع المصريين بأن يوم 13 من الشهر 13 من العام 2013 هو يوم بدء تنفيذ المؤامرة الماسونية العالمية، ليتدارك بعد ذلك أن لا شهراً ثالث عشر في السنة.
وهو نفسه من يدّعي مثلاً أن البرلمانيين الأوروبيين يتحدثون عنه في اجتماعاتهم الخاصة، وأنّ كلّ من روّج لثورة يناير هو بلا شكّ عميل للصهيونية وخائن. وقد وصلت به الأمور لشتم والدة شهيد التعذيب خالد سعيد الذي تحوّل إلى أحد رموز ثورة يناير. مِثال عكاشة المتطرف ببهلوانيته يجعله نموذجاً مثالياً عن المخادِع المحتال بالمعنيين الثقافي والسياسي، وهو رغم كل أساطيره وشطحاته، شخصية إعلامية شديدة الخطورة، فهو في نهاية المطاف شخصية معروفة وذات نفوذ يتابع كثيرون ما يقوله ويصدقه كثر كذلك، وهو الذي حمل المصحف أمام الكاميرا في إحدى حلقاته الخارقة ليحلف بالقرآن بطريقته الدرامية بكونه لا يكذب بكلمة واحدة أمام المشاهدين.
المؤامرة والخديعة والفضيحة
بالعودة إلى لبنان، فيمكن بلا شك رصد مناهج "عكاشية" في المشهد الإعلامي أو "عكاشة صغير" يسكن دواخل بعض الشخصيات النافرة أو التقارير الإخبارية المركّبة. نظرة إلى الخلف لنعيد قراءة ما بدر عن الإعلام اللبناني... أحد الأمثلة الأبرز كان ريبورتاج قناة أو-تي-في (OTV)الذي بُثَّ بتاريخ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعد 10 أيام فقط من بدء المظاهرات الشعبية في مناطق مختلفة في لبنان. يبدأ التقرير باستعراض صيحات بعض المتظاهرين "باسيل برّا برّا! لاجئين جوّا جوّا"، ليليه مباشرة صوت مضاف يقول "بأقل من أسبوع، اتضحت معالم الثورة، وبغطاء المطالب المعيشية المحقّة، بدأ التسويق لمشاريع تهديميّة". بعد ذلك، يبدأ التقرير في ربط خيوط وأخبار وآراء واتهامات في سرد كثيف لا يوضح منطق الربط ولا يقدّم براهين عليه. فبالنسبة للتقرير، الانتفاضة هي مؤامرة لتوطين اللاجئين ومناكفة جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، وتهدف للتهجّم على رئيس الجمهورية دون سواه.
يولّف التقرير صوراً لأعلام تركية في طرابلس وعلم سعودي في بيروت وقنينة مياه طبعت عليها كلمات "من الشعب السوري إلى لبنان"، ويضيف مقطعاً لرئيس الجامعة الأميركية في بيروت يتحدث مع مجموعة من المتظاهرين، ليخلص بأن تدخلاً أميركياً، سعودياً، تركياً، صهيونياً أيضاً.. يدير المتظاهرين خلف الستارات، ثمّ يعدنا التقرير بالبعبع الأكبر: "مصير الشعب السوري" الذي تجرأ على مساءلة واقعه والاعتراض عليه وجنى الخراب.
طرابلس.. ساحة بثورات كثيرة
17-01-2020
سرديات مؤامراتية ذات حبكات معقدة ومكثّفة يسلسلها التقرير، لا تقف عند هذا الحد، بل يحاول التلميح لأن القوات اللبنانية – خصم "التيار الوطني الحر" (تلفزيون أو-تي-في مملوكاً من شركاء تابعين له)، هي من تُحرّك الشارع في الواقع، وأن منظمة "أوتبور" الصربية التابعة "للملياردير اليهودي جورج سورس" بحسب كلماتهم، خلف الأحداث أيضاً، بدليل: نصب القبضة المرفوعة في ساحة الشهداء في بيروت والتي تشبه لوغو "أوتبور". كل هذه العناصر والجهات مشتركة في "المؤامرة"، وكل القصة الخفية قالها التقرير بنحو أربع دقائق، وهذا ما يجعل التقرير الشهير هذا - الذي انفجرت مشاركاته على مواقع التواصل- نموذجياً بالحديث عن "المخادعة" في الإعلام، حيث الموسيقى الدراماتيكية مع السرد بأسلوب حاسم وساخر هما عماد الحقيقة بدلاً من الأدلة والبراهين. فـقد "اتضحت معالم الثورة"، كما يدعي بكشفه للمؤامرة التي تفترض اجتماع مجموعة من الناس أصحاب النفوذ سراً للتخطيط ولتنفيذ عمل غير لائق أو غير قانوني، "وبالأخص ذلك العمل الذي بإمكانه تغيير مجريات الأحداث"، كما يعرّفها المختص بنظريات المؤامرة بيتر نايت، بالعموم. يظهر "الوجه الحق للثورة" مخططاً خطيراً لتغيير الدنيا التي اعتدناها.
توفيق عكاشة نموذج مثالي عن المخادِع المحتال بالمعنيين الثقافي والسياسي. وهو على الرغم من كل أساطيره وشطحاته، شخصية إعلامية شديدة الخطورة، وذات نفوذ، ويتابع كثيرون ما يقوله ويصدقه كثر كذلك.. وهو الذي حمل المصحف أمام الكاميرا في إحدى حلقاته الخارقة ليحلف بالقرآن بطريقته الدرامية بكونه لا يكذب بكلمة واحدة أمام المشاهدين.
على أي حال، لم تكن المصداقية يوماً من بين فضائل أهل السياسة، فالكذب لطالما اعتُبر أداة مشروعة في التعاملات السياسية، فكيف الحال بتداخل الميديا مع السياسة، حيث الحاجة إلى الإقناع وتسجيل النقاط واحتواء الجمهور تتجاوز بأشواط "الحقيقة" كهدف نهائي للعمل الصحافي المرتهن للسياسة. هناك اتجاه عالمي تجاوز فكرة الحقيقة، فانفجرت مفاهيم ما– بعد-الحقيقة، متوّجة بحدث انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة ومعانيه. فالرجل الذي يكذب جهاراً، والمولع بنظريات المؤامرة، ما زال قادراً على تحريك السياسة والحصول على النفوذ، وحالته ليست استثناءاً، لكن لعلّها الأكثر فجاجة. فإحدى العلامات الفارقة لما بعد الحقيقة هي ذلك التركيبب الهجين لعناصر متعددة بطرق محددة بشكل يكون قادراً على تحدّي التوقعات وإرباك المتلقّين. مثال تقرير "أو-تي–في" يصلح إسقاطاً لهذه الظاهرة: بناءٌ هزيل لكنه قائم على إثارة الشكوك والمخاوف وتربية البارانويا، المكوّن النفسي الأهم لنظريات المؤامرة.
بحسب السوسيولوجي الفرنسي لوك بولتانسكي، فالمؤامرة والفضيحة صنوان. المؤامرة مستورٌ متوارٍ، والفضيحة كشفٌ للمستور، إن كان موضوعها أهل السياسية والنفوذ على سبيل المثال، فهي تصير قادرة على تحريك الأحداث وافتعال الحركة. كشف سرقة كبرى على سبيل المثال، أو انهيار اقتصادي قادم... مع العلم أنّ مئات "الفضائح" حول سرقات وممارسات غير قانونية وغير أخلاقية نُشرت وعُرفت وكُرست لها البرامج الاستقصائية التي نقلتها للمشاهدين بالصوت والصورة في لبنان، لم تكن قادرة على تجييش الرأي العام بشكل يقلب الموازين، إلى أن أتت لحظة انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر. لعقود طويلة، كان كلّما أشار الناس إلى فضيحة في لبنان، أشار الإعلام أو الساسة إلى "المؤامرة". كلما كُشفت سرقة، حمل أهل السلطة رواية "المتربصين شراً بالبلاد" الذين يسعون من خلال الحراك الشعبي، الذي يصفونه بالسذاجة، إلى المزايدة بقول "نحن نكشف أكثر من المكشوف في الفضيحة، نحن نكشف المؤامرة!"... وتستمر لعبة الأخذ والردّ على هذا المنوال المألوف.
إعلام "التنمية البشرية"
هذه الحفلات الإعلامية "عكاشية" في جوهرها... "سياسات المخادعة" والمحتالون والجواكر الذهبية الجاهزة لليّ عنق الحقيقة كلما اقتضى الأمر، الحلقات التي تربط عوالم الإعلام بالسياسة بالرأي العام، في قوالب المؤامرة والحبكات المركّبة. ففي لبنان المحكوم بالهشاشة الأبدية والمكتوب عليه أن يبقى عالقاً في مراحل انتقالية ومنعطفات لا تستوي بعدها الطريق، يحكم منطق "الأزمة" كلّ نواحي الحياة. وفي الأزمات، يتصدّى الإعلام لاحتواء الجمهور وتوجيهه. "حوكمة الهشاشة"، بحسب المنظرة في السياسة إيزابيل لوري، هي حيث العيش مع المجهول ومع الطارئ، ويمكن النظر إليها على أنها حياة معلّقة في المرحلة الانتقالية، يُترك فيها الأفراد ليصارعوا لحماية أنفسهم في وجه انعدام الأمان.
بالنسبة لتقرير بثه تلفزيون لبناني، فالانتفاضة هي مؤامرة لتوطين اللاجئين ومناكفة جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، وتهدف للتهجّم على رئيس الجمهورية دون سواه. يولّف التقرير صوراً لأعلام تركية في طرابلس وعلم سعودي في بيروت وقنينة مياه طُبعت عليها كلمات "من الشعب السوري إلى لبنان".. وكل القصة الخفية قالها التقرير بنحو أربع دقائق.
قد تندرج في هذا السياق حالة زهراء قبيسي، الصبية المتفائلة التي قابلتها محطتا المنار والميادين لتتكلم عن محل "مناقيش الصاج" الذي افتتحته لتستطيع إعالة نفسها حين لم تجد وظيفة في البلد. في عزّ التظاهرات الشعبية، سألت المذيعة زهراء عن رأيها بالوضع الحالي في لبنان لتجيب الأخيرة باندفاعها الإيجابي "دعونا لا نسميها أزمة بل تحدياً اقتصادياً"، وتضيف، "ننهار؟ نحن لا ننهار! فنحن مقاوِمون، كانت معنوياتنا مرتفعة حتى في "حرب تموز"(العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006) عندما كان شهداؤنا يتساقطون...".
سبعة اسئلة ملحة للبنان المنكوب
21-02-2020
تربط قبيسي بين مقاربة الأزمة الاقتصادية والمقاومة كأيديولوجيا حزبية بالمعنى الذي يرتبط بحزب الله (وقناة المنار)، حيث يلفّ "النهج" و"العقيدة" نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية إلى أبعد الحدود، الأمر الذي يحدّ طرق التعامل مع الأوضاع الاستثنائية بما يتسق اتساقاً كاملاً مع الأيديولوجيا الحزبية. تدعو الصبية إلى الثقة بالله والتأسّي بالشهداء ونهجهم، وتجمع – بتشجيع المذيعة – بين الحرب مع إسرائيل وبين مقارعة الإحباط لدى الشباب في لبنان، في خطاب يتوجّه لجمهور الحزب والقناة الذي ألف هذه اللغة المؤثرة. علماً هنا أن جمهور القناة في مراحل الانتفاضة الأولى كان مشاركاً في الاحتجاج بقوة، ليعود فيشكك بها، لينتهي به الأمر خارجها كلياً بتعليمات حزبية.
استخدمت المحطات التلفزيونية قصة زهراء في حينها للإيحاء بأن الخطأ يكمن في ردود فعل الناس على الأزمة، لا في الأزمة ذاتها، وفق منطق تبسيطي مسطح غير مسّيس، مبني على موضة التدريب الاجتماعي والنصائح الحياتية وبثّ الوحي الإيجابي في النفوس وريادة الأعمال، وصفات أخرى من كتب التنمية البشرية سريعة التحضير في الإعلام المخاتل.
أما في ردود الفعل، ففيما أثنى كثر على نشر زهراء للإيجابية ونصيحتها للشباب بالبدء بمشاريعهم الخاصة بدل الانهيار على أنفسهم، تحول كلامها أيضاً إلى محط تندّر من كثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك الحين، لكونه يرفض الاعتراف بالأزمة البنيوية الكاملة في لبنان. لكن، وفي كل السيناريوهات والتفسيرات لكلامها (مع التأكيد على كونها مواطنة عادية وليست اقتصادية أو سياسية)، فهل يمكن رؤيته سوى ضمن دائرة إدارة الهشاشة؟ حالة زهراء مثال على الهشاشة/ البينية المعلّقة إلى أجل غير قريب التي تعيش فيها البلاد، وهي مكوّن من مكونات كثيرة في المجتمع اللبناني بقيت تحت عتبة الانتفاض بقليل وفوق عتبة الفقر بقليل. هذه المجموعة هي الأكثر عرضة للدخول في محاولة إدارة ذاتية (لهشاشتها) والإيمان بالقدرة على تحسين الأوضاع الاجتماعية والمادية عبر "تحسين الذات" – الهجرة الواسعة للشابات والشبان مثالاً- وهذه لا يختص بها جمهور المقاومة، بل تطال كل اللبنانيين. في حالة زهراء، يتخذ الأمر شكلاً مباشراً جداً، فهي تكتب حِكماً ومقولات إيجابية على حيطان محلها وتتكلم باستمرار عن أهمية المشاعر الإيجابية والتحدي، وهي أمور حسنة لولا أنّ معظم اللبنانيين اليوم لا يملكون بالتأكيد قدرة "التحدي" ببدء مصالحهم الخاصة الصغيرة في اقتصاد مندثر لم يبقَ منه شيء بالمعنى الحرفي. الأمر الغريب أن هذه المحطات التلفزيونية استخدمت قصة زهراء في حينها للإيحاء بأن الخطأ يكمن في ردود فعل الناس على الأزمة، لا في الأزمة ذاتها، مستخدِمة منطقاً تبسيطياً مسطحاً غير مسّيس...بناء على موضة التدريب الاجتماعي والنصائح الحياتية وبثّ الوحي الإيجابي في النفوس وريادة الأعمال، وصفات أخرى من كتب التنمية البشرية سريعة التحضير في الإعلام المخاتل.
عكاشة الصغير الذي يسكن مارسيل غانم
على مقلب آخر، هناك مارسيل غانم. سيقول كثر أنه المحاوِر الأفضل أو الأهم في لبنان، وأنه الشخصية الإعلامية الجادة المحترمة التي يشاهدها الجميع من كل الأطياف السياسية. في الواقع، إن ما يجعل غانم خطيراً ومريباً هو كونه واسع الجمهور، عتيق في المصلحة، شديد الثقة على الشاشة. الرجل صديق معظم الطبقة السياسية (والمصرفية) في لبنان، اختار في عزّ الأزمة وسط غضب الناس أن يستضيف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في برنامجه "صار الوقت" في كانون الثاني/ يناير الفائت (2020) ليعطيه منصة مفتوحة لتبييض صورته. غانم الذي يستقبل عادة في برنامجه أسئلة الحضور في الاستوديو استغنى عن آرائهم وأبقى على التصفيق المبرمج لمن يناديه "سعادة" الحاكم الذي أدار السياسات المصرفية في البلاد منذ ما يزيد عن ربع قرن. الحاكم في حلقة غانم وعدٌ بأن أموال المودعين "مأمّن عليها". اليوم، بعد شهور ثلاثة من بثّ تلك الحلقة، يرى اللبنانيون عياناً تبخّر ودائعهم وانقطاع الدولار بالكامل ولجوء المصرف إلى "طباعة ليرات" خسرت إلى الأن نحو نصف قيمتها. آخر النفق لا يُرى.
لكن مارسيل غانم يستضيف أخاه الإعلامي المخضرم جورج غانم مرة بعد مرة، ومنذ أيام قليلة، جهد الاثنان في بناء حيطان التدعيم للمصارف، فحذّر جورج من إنهاء "النموذج الاقتصادي اللبناني" باستهداف كبار الموعدين وتدفيعهم الثمن، مكرراً خطاب المصارف وأصحابها، بكثير من الرزانة والجدية، ومعللاً أقواله بأنه "يقول ضميره".
لم تكن المصداقية يوماً من بين فضائل أهل السياسة، فالكذب لطالما اعتُبر أداة مشروعة في التعاملات السياسية، فكيف الحال بتداخل الميديا مع السياسة، حيث الحاجة إلى الإقناع وتسجيل النقاط واحتواء الجمهور تتجاوز بأشواط "الحقيقة" كهدف نهائي للعمل الصحافي المرتهن للسياسة.
لبنان محكوم بالهشاشة الأبدية، ومكتوب عليه أن يبقى عالقاً في مراحل انتقالية ومنعطفات لا تستوي بعدها الطريق. وفي الأزمات، يتصدّى الإعلام لاحتواء الجمهور وتوجيهه. "حوكمة الهشاشة" هي العيش مع المجهول ومع الطارئ، ويمكن النظر إليها على أنها حياة معلّقة في المرحلة الانتقالية، يُترك فيها الأفراد ليصارعوا حماية لأنفسهم في وجه انعدام الأمان.
قد يبدو أن غانم لا يشبه عكاشة"البهلوان" الإعلامي الفجّ الذي استمات في التبييض للرئيس المخلوع مبارك. لكن حقاً، هل هو مختلف عنه؟ أليس ينتهج نفس أساليب الأول لكن بواجهة أكثر ترتيباً وتلميعاً؟ لا يجد حرجاً في التعبير عن صداقته مع فلان السياسي وعلان المصرفي الذين يستضيفهم ويتعشى في بيوتهم ويُدعى إلى مناسباتهم ويعبّر صراحة عن إعجابه بهم. "الأخوان غانم لا بد يحتقران نموذج توفيق عكاشةـ الإعلامي الذي يرعد ويزبد ويخبر قصصاً من نسج خياله ليقنع أو يرهب، لكنهما يلعبان لعبته ذاتها، يدحرجان الطابة بينهما، يؤديان دوراً.
مارسيل يقول للضيف السياسي "حبيب القلب" أو "ألله يخلّيك، تسلم".. يسأل الحاكم "هل سنراك بعد عام معنا في البرنامج حاكماً للمصرف المركزي؟"، ليجيب سلامة "ان شاء الله، لو أردتَ استضافتي". يضحك غانم، "أكيد!". هو يمدح ويحب المديح، يعطي رأيه ويقرّع الضيف إذا أعطى رأياً لم يعجبه، كما فعل عندما غضب من الطلب بفندق قريب من المشفى يحمي الممرضين من التنقل المنهك أيام الكورونا، "معليش يسمحولنا، يناموا بالمستشفى". وأخوه الأكبر يحب الرصانة والعقلانية والضمير الذي دائماً يسأل عن أصحاب الرساميل الكبيرة المتضررة، بمنطق صاحب المصرف، مبرراً "هذه قرارات خطيرة تنهي لبنان الذي نعرفه"، وكأنّ لبنان الذي عرفناه كان نموذجاً ناجحاً، وكأنه لم يكن هو ما أدى بنا إلى هذه اللحظة المصيبة. يُذكر أن اقتصاديين لبنانيين في شركة لازار لا تعجبهم السياسات المصرفية في لبنان، فيعترض مارسيل حديثه بالقول "بل أن أسماءهم توحي بأنهم يهود!"، في تعليق غريب يودّ به أن يوحي أن رأي هؤلاء الذي لا يتفق مع رأي مصرف لبنان صادر عن "يهود" (معاداة سامية؟) لا يُعتدّ برأيهم في لبنان. الأخوان غانم في الأسابيع القليلة الماضية هما لاعبا رمي الكُرات الدجالين الذين في السيرك.. Jugglers يحملان نصف دزينة من الكرات ويظهران مهارات رميها وتلقيها بينهما بخفة.
***
لبنان في مواجهة كوفيد-19: كارثة إضافية؟
13-04-2020
"عليهم فقط أن يصدقونا"، يقول رئيس الجمهورية ميشال عون عن سؤال حول رسالته إلى المحتجين في أولى أسابيع الانتفاضة الشعبية في 2019. وهو يعلم أن "التصديق" شرط في استمرار العلاقة مهما اهتزت ومهما اعتراها من إحباط. في الأزمات مثل هذه، تحدّق الهاوية بنا كما نحدٌق بها، وتفعّل الخيال الذي يروح ينسج إمكانات الغد الممكن تحت وطأة الحضور الطاغي والجارف للريبة والشك وانعدام الشعور بالأمان. تخرج كل السيناريوهات مخيفة، وربما يوشك أن يتأكد الجميع بأن لا صدق ولا تصديق ولا ثقة، إلى أن يتدخّل "إعلام الأزمات" ويحاول بيع الخديعة من جديد.