حين تخرج من مخيم برج البراجنة جنوب بيروت، تعبّ الهواء عباً. تتنشق هواءً ملوثاً مشبعاً بروائح عوادم السيارات المزدحمة على اوتوستراد طريق المطار المحاذي لمدخل المخيم، ومع ذلك يخيل لك انه أشبه "بالنسيم العليل"! فقد كنت تختنق في الداخل.. تسرع الخطى واحساس الانقباض يلازمك. تقول لنفسك انه الضيق نفسه الذي يبثه ذلك المكان لسكانه المؤقتين الذين استطال وجودهم. أما انت، فلحسن حظك مجرد عابر. مكان يبادلونه كرهه لهم وتوقه للتخلص منهم. قليلة هي الاماكن التي تعبِّر هكذا عن نفسها.
المكان الكاره لناسه
كل شيء في مخيم البرج يبدو طارداً للناس، متبرماً بوجودهم. الكهرباء بالكاد تكفي، الانروا بالكاد تدفع، المياه بالكاد تُشرب، البيوت بالكاد تتسع، الاعمال بالكاد توجد، التعليم بالكاد يفك الحرف، الأمن بالكاد يتوفر. لا شيء هنا يبلغ كفافه. كأن كل ما في المخيم يتمطى بقوة ليصل الى أدنى حدود وظائفه، حتى الأمل بالخروج من المخيم: الى مكان أرحب، أو بلد أقل ضيقاً باللاجئين، أو عودة تكاد تصبح مجرد رمز.
هو كيلومتر واحد ذاك الذي نشأ عليه مخيم برج البراجنة. تماماً كأخيه مخيم شاتيلا. مشهد الفوضى العمرانية نفسه، مع ازدحام أكبر وضجيج تحصره الجدران المتقاربة للزواريب الضيقة، فيعلو حتى يكاد يصيبك بالصمم. وإن كان مصطلح "الضاحية" يعني عادة حزام البؤس، فإن مخيم البرج يمكن تسميته ضاحية الضاحية. ومع ذلك، لا شيء نافر بالتحديد للعين المعتادة على الفوضى العمرانية المكتظة بما يفوق سعتها بإضعاف من البشر. شبكات أسلاك عنكبوتية تسقف فضاء الشوارع والزواريب، لا تعرف ايها للكهرباء وايها للماء وايها للساتلايت وايها لنشر الغسيل، شبكة قتلت بفوضاها في العقدين الاخيرين أكثر من 70 شخصاً دون ان يجد أحد حلاً نهائياً للمشكلة، كما قال لنا ابراهيم ابو رياض عضو اللجنة الشعبية التابعة لتحالف الفصائل.
وبرفقة الأخير، ندخل المخيم من جهة المحامص التي تحاذي حاجزاً امنياً للدولة اللبنانية. حاجز لم يحلْ دون دخول الاسمنت الممنوع من الدخول بقانون، ما ساهم "بازدهار" العمران العشوائي، خاصة بعد النزوح السوري العام 2011 الذي ضاعف ساكني المخيم (من 25 الى 50 الفاً تقريباً) حسب مصادر اللجنتين الشعبيتين. ففي المخيم لجنتان احداهما للتحالف والأخرى لمنظمة التحرير. المخيم مرآة فلسطين.
رائحة الفستق السوداني اللذيذة التي تفوح من المحامص ترافقنا لعشرات الامتار. مقابل مسجد الفرقان، تلفتك صور صدام حسين الملصقة حديثاً على الجدران. لا تفهم! ماذا يفعل الرئيس العراقي الراحل هنا، وبلباسه العسكري بعد مقتله بخمسة عشر عاماً؟
شبكات أسلاك عنكبوتية تسقف فضاء الشوارع والزواريب، لا تعرف أيها للكهرباء وأيها للماء وأيها للساتلايت وأيها لنشر الغسيل، شبكة قتلت بفوضاها في العقدين الاخيرين أكثر من 70 شخصاً..
يأخذنا مرافقنا بجولة استطلاعية لم تستغرق اكثر من ربع ساعة، جلنا فيها من أول المخيم الى آخره. يشير الى الشارع الذي نخترقه قائلاً "من هنا الى اليمين ننزل الى حيّ البعلبكية"، يقصد اللبنانيين المهاجرين من مدينة بعلبك عاصمة البقاع. يضيف "كمان جيراننا يُعتبروا حزام بؤس". نسأله عن الوضع مع جيرانهم اللبنانيين؟ فيجيب بديبلوماسية الوجهاء "في مصاهرة وفي علاقات قوية وجيدة"». نبتسم للكلام المطمئن الذي نعرف انه غير دقيق، على الأقل من نشرات الأخبار. يبتسم بدوره متواطئاً ويستدرك "هلق بيحصل بين الاخوة وبالعيلة نفسها مشاكل، بس بتنحل بأرضها". اما كيف "تنحل بأرضها؟" فللبحث صلة.
لسبب ما، انتهت جولتنا بمقبرة المخيم. لم افهم لمَ جلبني الرجل الى هنا. مقبرة "جميلة" إن كان ممكناً نعت مقبرة بالجمال. مكتظة كالمخيم، ولكن مرتّبة. القبور متلاصقة لولا سنتيمترات تفصل بينها. تتوسط بلاطاتها أحواض من النباتات الخضراء كتلك التي نراها في المسلسلات التركية. يشير الرجل الى طرف المقبرة حيث وقف رجال انهمكوا بحفر التراب قائلاً انهم، اي اللجنة التي ينتمي اليها، لا ينتظرون وفاة أحدهم ليحفروا، بل يقومون بذلك مسبقاً. لم افهم ما معنى هذا الانجاز ولكني اومأت برأسي أنْ: حسناً.
ضاحية الضاحية
الى أبعد طاولة داخل مقهى نهرب من الضجيج الفظيع للموتوسيكلات التي لا تتوقف، آملين ان نتمكن من سماع بعضنا. يروي لنا ابراهيم ابو رياض (من "جبهة النضال") ان المخيم نشأ عام1951. "يومها، تبرع رجل من برج البراجنة لا اذكر الآن اسمه، بقطعة أرض نصب عليها الفلسطينيون خيمهم، وبالطبع العائلات صارت تتجمع، واهل القرية الواحدة ايضاً". ويتابع "المخيم الأساسي هنا من فلسطينيي 1948، من قرى الجليل كالكويكات وترشيحا والكابري والغابسية والشيخ داوود الخ... بقيت الخيم حتى الستينات السالفة حين سمحوا لنا ببناء جدران من الباطون، لكن مع الحفاظ على السقوف الزينكو (القصدير) لتثبيت واقع الوجود المؤقت. لكن الشتاء كان قاسياً، وكانت خيمنا نتيجة العواصف تطير". يسكت هنيهة ثم يتابع روايته "العام 1975 بدأت الحرب الاهلية اللبنانية وغابت الدولة، فأخذ من توفرت له الامكانية المادية بصب سقوف من الباطون بدل الزينكو. وبمرور الوقت، كبر الاولاد، ولأننا ممنوعون من التملك، اضطر الناس لبناء طابق ثان للأولاد، وهلم جراً حتى حصل هذا الاكتظاظ".
المخيم نشأ عام 1951 "يومها، تبرع رجل من برج البراجنة، لا اذكر الآن اسمه، بقطعة أرض نصب عليها الفلسطينيون خيمهم، وبالطبع العائلات صارت تتجمع، وأهل القرية الواحدة ايضاً. المخيم الأساسي هنا من فلسطينيي 1948". "ايام سقوف الزينكو (القصدير)، كان الدركي اللبناني يعبر من أول المخيم لآخره فيدعس على من يشاء دون ان يجرؤ أحد على التعاطي معه".
على الرغم من العمران العشوائي العامودي، إلا أن علو المباني لم يطل كل الزواريب. لذا، لا تزال الشمس تدخل نسبياً، والازقة تنفرج احياناً لتصبح أقل ضيقاً وأنظف. ربما يكون ذلك بسبب أن التمدد الافقي لجهة الضاحية الجنوبية المحاذية أقل صرامة من جهة العاصمة التي يقع مخيم شاتيلا وسطها. فالفقراء على اختلاف جنسياتهم يتساهلون مع بعضهم، تقول في نفسك.
من شارع "مستشفى حيفا" سيئة الذكر لتدني مستوى الطبابة فيها، تتفرع تقريباً كل الزواريب. على جانبي الشارع دكاكين ومحلات غالبيتها الساحقة للسوريين. تظن نفسك للحظة وبسبب اللهجة والحركة النشطة والعتمة النسبية للشارع المسقوف بشبكة الاسلاك، كأنك في سوق حميدية مصغر.
تأثير النزوح السوري
"هاي مش فرص عمل، هاي أعمال حرة!" يقول ابو رياض حين نسأله إن كان النازحون السوريون قد حرموا الفلسطينيين داخل مخيمهم من فرص العمل. ثم يشرح نظريته "انا عندي مثلاً محل. لكن ما معي 100 دولار بجيبتي أفتح فيهم مصلحة، شو بعمل؟ بأجره وبمشّي أموري". مردفاً "يعني ما في تنافس".
لمحمد دبدوب، من اللجنة الشعبية التابعة للمنظمة، والذي قابلناه في بيته نهاية المخيم في حي يحمل اسم عائلته، رأي يصب في باب النقد الذاتي كما يبدو للوهلة الأولى. "السوريون شغيلة واحنا تنابل"، يقول. ثم يضيف "السوري يشتغل بأي شيء. السوري يجمع في الشقة الواحدة 5 عائلات، اما الفلسطيني فلا يقبل ان يسكن الا مع عائلته وحدها. السوري يقسم الايجار على 5، الفلسطيني يدفعه لوحده". ثم يضيف "نحن بهورجية بالأكل، باللبس، لكنهم يقتصدون على حساب أشياء كثيرة، وبما يوفروه يستطيعون فتح محلات". هل كان ذلك مدحاً أم ذماً؟. تسعفه زوجته بشهادتها "المخيم كله لهم. كل المحلات. قليلة محلات الفلسطينيين".
لكن النقد الذاتي يأخذ اتجاهاً آخر: "الفلسطينيون متعلمون لذا يعملون في المؤسسات، غالباً في الوظائف الادارية". وهل هذا يعني ان السوريين غير متعلمين؟ "مش القصد"، ثم يستدرك "طبعاً لدينا حرفيين: كعمال البناء مثلاً، لكنهم بلا شغل بسبب منافسة السوريين. فإنْ تقاضى الفلسطيني 5 دولارات على المتر، يتقاضى السوري دولاراً واحداً". ثم ينفث سيجارته ويقول "كيف بدك تنافسيه هاد؟".
وبعكس الكلام الديبلوماسي لأبو رياض، يشير محمد دبدوب الى "اشتباكات دائمة بجوارنا في حي البعلبكية"، ويستدرك شارحاً "ليس لأسباب ايديولوجية ابداً، بل بسبب تجارة المخدرات. فجوهر المعارك بالمختصر وبدون كلام مزوّق، لمن السيطرة على هذا الشارع أو ذاك الزقاق". هل انتشرت المخدرات لهذه الدرجة؟ يؤكد "مؤخراً، بشكل لافت. وبالطبع مصدرها من خارج المخيم". ويشرح اكثر "في حي البعلبكية هناك منطقة اسمها الجورة، وهناك مخدرات أخطر بكتير من الحشيش. في سيلفيا وهيرويين وكوكايين. حتى الكوكايين الغالي الثمن عندما يدخل المخيم يصبح رخيص الثمن". هل لأن السعر "حسب رأس الزبون؟"، نسأله. يجيب "لا، حسب المخطط. برأيي هناك مخطط لتدمير المجتمع الفلسطيني. لكن بمخيمنا ما بتلاقي هالصورة متل مخيم شاتيلا. شاتيلا واضحة. عنّا ما في علنية. لأنه مخيمنا لا يزال مبنياً على العائلات".
يرن تلفونه فيستأذن ونسمعه يتفاوض مع أحدهم "العوض بسلامتك. أديش بتكلف فتحة القبر عندكم؟ موصي الزلمة يندفن بجانب اخوه. له يا زلمة! خمسة آلاف دولار؟ ايه خلص مندفنه هون بالمخيم». يشرج لنا محمد أن حزب الله اتصلوا بهم كلجنة، واخبروهم بوجود فلسطيني مريض بالضاحية يسكن لوحده وبحاجة للمساعدة، "رحنا نقلناه ع المستشفى الحكومي. حكينا مع الصليب (الاحمر) فقبلوا ان يغطوا تكاليفه. أمس توفى! حكينا رابطة عكا ليهتموا بالعزا. لأنه بالأصل من عكا".
يستذكر ابن حركة فتح - الذي كان معتقلاً في سوريا لسنوات خمس بعد حرب المخيمات (1985-1988، بين حركة "أمل" والفصائل الفلسطينية) - حالهم كلاجئين مهيضي الجناح بداية اقامتهم هنا. "ايام سقوف الزينكو، كان الدركي يعبر من أول المخيم لآخره فيدعس على من يشاء دون ان يجرؤ أحد على التعاطي معه". يأخذ نفساً من سيكارته وهو يداعب شعر ابنته الصغيرة الجالسة في حضنه، ويضيف "اذكر أحاديث الأهل عن دركي كان اسمه بهجت كان يضرب الكبير والصغير ولا يحترم احداً. بعد أيلول الاسود (اشتباك السلطة الاردنية مع منظمة التحرير 1970، ونجاحها في إخراج المنظمة من البلاد)، ومجيء الثورة الى لبنان، تغير الوضع. تحديداً بعد استشهاد القادة الثلاثة في شارع فردان (منطقة رأس بيروت)، حصلت مظاهرات كبيرة واستقالت بالنتيجة حكومة صائب سلام. صار للبنان حركة وطنية بقيادة كمال جنبلاط فتحالفنا كثورة معها. صار في قوة مقابل قوة، وهذا رد عنا بعض الظلم. يومها انتهت أيام الزينكو وصارت الناس تعمّر باطون". يحرص على التوضيح "لم يكن الهدف بالطبع الاقامة الدائمة فنحن أصحاب قضية ووجودنا مؤقت، ولكن على الاقل أصبحنا نسكن في بيوت لها مواصفات السكن بالحد الأدنى. طبعا لم يكن تصرفنا قانونياً بل فرضاً لأمر واقع، تماما كجيراننا، إن كان في حي البعلبكية أو منطقة الرسول الأعظم. كل العمران هناك غير شرعي".
ليس سراً ان الفلسطينيين اشتركوا في الحرب الأهلية اللبنانية بفعالية، خصوصاً وان اليمين اللبناني تواطأ مع اسرائيل ضدهم وضد الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت تضم قوى اليسار التقدمي. ليست مجزرة صبرا وشاتيلا إلا فصلاً من تاريخ طويل يحمل أسماء اخرى لمخيمات مُحيت عن بكرة أبيها خلال تلك الحرب، كتل الزعتر وجسر الباشا. اما نصيب مخيم برج البراجنة فكان التدمير بطرق وأيدٍ أخرى.. فبعد خروج المقاومة من لبنان العام 1982 إثر الاجتياح الاسرائيلي، نشبت حرب المخيمات بين الفلسطينيين وحركة امل بين عامي 1985 و1988 و"تدمرت خلالها كل هذه المنطقة" كما يقول محمد دبدوب، حيث استخدمت في تلك "الاشتباكات" المدافع والقنابل اضافة للقنص.
أستذكر مبنى "مؤسسة صامد" خلال الجولة مع أبو رياض، فجدرانها تحتفظ بآثار الرصاص وتبدو كوجه أصابه الجدري. يصحح دبدوب "لا، تلك من آثار الحرب الداخلية بين فتح والمنشقين عنها، خرجت فتح بنتيجتها من مخيمات بيروت الى صيدا". اذاً هو جدري الانقسام الفلسطيني. «يومها - يضيف دبدوب - دُمرت بيوت كثيرة هنا، أما منطقة جورة ترشيحا فقد دمرها بكاملها قصف أبو موسى (زعيم الانشقاق المدعوم من سوريا). بعدها خرجت فتح في آب / أغسطس 1988 وجرى الاستيلاء على كل أملاكها. كان لدينا هنا مؤسسة صامد، كان مركزها يحتوي على منجرة ومعمل حلاوة ومحل حدادة ومحل حجارة ومشغل تراث ومشغل موبيليا. كانت كلها تشغل ابناء المخيم". وماذا حصل لها؟ ألم يشغّلها من استولوا عليها. يبتسم بحزن قائلا "لا والله. حالياً كلها مقرات عسكرية".
مخيّمات ما بعد أوسلو: كفر عقب نموذجاً
29-12-2016
حين سألنا ابراهيم ابو رياض عن المغزى من تحويل "صامد" التي كانت تدر ريعاً على المخيم وتشغل ابناءه الى مقر عسكري، هز بكتفيه قائلاً "هي اليوم مكاتب فقط. تحولت لموقع عسكري". ثم يستدرك "لكن لدينا رياض اطفال ومدارس تقوية للتلاميذ للمتوسط والثانوي". ويضيف بفخر "على الرغم من الظروف الصعبة اجتماعياً وسكنياً إلا ان نسبة التفوق المدرسي كبيرة، ونسبة التسرب قليلة. ذلك اننا نقوم بدعم مدرسي لحوالي 80 في المئة من التلامذة». نسأله ان كانوا يفعلون ذلك مجاناً فينفي قائلاً "بل بأجر".
اتذكر ما قاله لي صديق من المخيم حين سألته ان يصلني بشبان من شلته القديمة، فقال ان "مَن فلحوا في التعليم، صاروا إما بألمانيا أو بالسويد". اسأل الرجل عن مصير المتفوقين، وإن كانوا يبقون هنا أم يهاجرون. يصوغ الجواب بطريقته الديبلوماسية "الشباب يبقون، لكن للأسف لا يجدون اشغالاً". اذا يهاجرون؟ يجيب "الهجرة قليلة بالنسبة لعدد السكان. اذا طلع 300 شاب وهاجروا هدول ولا شي بالنسبة للسكان. هدول بالظروف الطبيعية عم يهاجروا".
حسنا اذاً، فلنذهب الى الشبان شخصياً.
المقهى
في أحد الزواريب نجد دزينة من الشبان جلسوا أمام المقهى كما في صف السينما، أي باتجاه واحد، وليس في حلقة كما يفعل الندماء. بدوا كمن يتفرج على شيء أو ينتظرون شيئاً. اقترب واسأل. يضحك أحدهم لسؤالي ويجيبني بلهجة دير الزور "نحن سوريين مو فلسطينية. ناطرين اذا حدا بدو شغيل". أخ! اخطأت العنوان. لكن مع كل هذا العدد من السوريين هنا كيف تميز؟ اتوغل في الزواريب على غير هدى الى ان وجدت مقهى آخر مكتظاً بالشبان وبالأراكيل.
"مقهى محمد الشبطي". يبش الشبان لنا مستبشرين بيوم مختلف يكسر رتابة أيام البطالة العادية. تفتر ابتسامة محسن فتح الله (22 عاماً) عن أسنان تكسر بعضها باكراً بفعل التسوس وقلة العناية.
باكراً ايضاً تبين أن محسن ترك المدرسة. "واصل للسادس" يقول. فقد اضطر للعمل كنجار موبيليا بعد وفاة والده ووقوع مسؤولية العائلة على عاتقه وهو صغير. لكنه حالياً عاطل عن العمل. "بضرب ضربات صغيرة، ما في شغل. وفوق المخيم صار في مخيمين بسبب النازحين، بدك واسطة تتقطعي الشارع من كترة الخلق، والضجة مش معقولة، انت هلق قاعدة بالقهوة وسكرنا الباب وبعدك عم تقوليلي عليّ صوتك تأسمع".
نسأله ان كان هذا الازدحام يولد توتراً بينهم؟ فيجيب "اجباري. الضغط زي ما بيقولوا يولد انفجار. بيضل الواحد كامش بقلبه، بآخر شي بينفجر". نسأله ان كان قد تزوج فيرد ساخراً وسط ضحكات الآخرين "بهالوقت؟. دوبك الواحد يجيب علبة دخان وفنجان قهوة. منطلع الصبح منقعد بالقهوة ننتظر الرزق. كلنا هيك. عدينا: سبعة ثمانية عشرة دزينة".
يقاطعه حسن "ما إنو تشوفي في أكم من شاب هان. الشباب كلها عم تهاجر بالتهريب". ويضيف "انا بعت بيتي وسافرت. وصلت الى كوبا لكنهم لم يدخلوني الى اسبانيا! خسرت 28 ألف دولار". الى كوبا؟ يجيب: "لانه مسموح لنا الذهاب الى كوبا، على أساس من هناك نحجز بطاقة عودة الى بيروت مروراً بإسبانيا، ثم نهرب في اسبانيا. لكني لم انجح". ثم يضيف وهو يكنس الهواء بظاهر يده "هوهووو. ومثلي متايل".
يتحمس شاب آخر للكلام "يا اختي العالم رح تنتف بعضها. كلنا بضيقة. الواحد ما عم يتحمل حاله. ليكي ملا مناظر قاعدين فيها. ليكي الزواريب. ليكي الموتورات. ليكي شرايط الماي والكهربا كيف مخلوطين مع بعض". يكمل محسن كلامه "كل يوم والتاني واحد بتلطشه الكهربا أو بتقتله. وكل واحد عنده كلاشن بالبيت بيجي بيصير يقوص"، يرفع يده باتجاه السماء ويقلد صوت الرصاص "ببببب".
"الشباب كلها عم تهاجر بالتهريب. انا بعت بيتي وسافرت. وصلت الى كوبا لكنهم لم يدخلوني الى اسبانيا! خسرت 28 ألف دولار". الى كوبا؟ يجيب: "لانه مسموح لنا الذهاب الى كوبا، وعلى أساس من هناك نحجز بطاقة عودة الى بيروت مروراً باسبانيا، ثم نهرب في اسبانيا. لكني لم انجح". ثم يضيف وهو يكنس الهواء بظاهر يده "هوهووو. ومثلي متايل".
وماذا عن وضع المخدرات في المخيم؟ يجيب حسن "قد ما بدك مخدرات. كتير متضاعفة لدرجة مش طبيعية. كل يوم بتزيد عن يوم. العالم ما عم تشتغل، لذلك ما ماشي الا المخدرات. مصدر رزق. التاجر صار عنده عشر مروجين، العشر مروجين صار بينهم في خمس تجار. كله عم يزيد".
لكن من أين النقود لشراء المخدرات والعاطلون عن العمل لا مدخول لهم؟ يتبرع محسن للشرح "سأشرح لك: المتعاطي تحول الي بائع ليستطيع أن يربح نقوداً من اجل ان يشتري مخدراته! هل فهمت لِما تفاقم الامر؟ يعني اللي بيطلعه بيتعاطى فيه". يزيدنا صاحب المقهى شرحاً "بعدين الديلر (التاجر) بيعطيه ع الامانة!". ع الأمانة؟ يضحك وهو يقول "اقصد لا يتقاضى الثمن فوراً بل يمهله الى أن يبيع. لما تتيسر معه. كتير مسهّلة". ويضيف هذه القفلة "ايه واللي بيعملوا مصاري، بيصير معهم ما يكفي ليفلّوا من هذا البلد".
"انسان"
"المخيم بكامله لازم يتسكر عليه ويخضع لعلاج نفسي"، يقول نمر نمر الذي التقيناه في مركز "انسان لعلاج مدمني المخدرات" في المخيم. ويضيف الشاب الثلاثيني الذي أسس المركز العام 2013، ويموله واصدقاء له من جيوبهم كما قال لنا "انا من أعالج المدمنين، بحاجة كل فترة ان أزور طبيبا نفسياً. المخيم أصبح مكاناً مخيفاً: كيلومتر مربع يقطنه 47 الف نسمة! ثلاثة شعوب تتزاحم هنا. لبناني وسوري وفلسطيني، لكلٍ تقاليده وافكاره. تصادم تزاحم توترات لها علاقة بفرص العمل والسياسة والايديولوجيا والأمن والمكان".
فيما مضى كان نمر مقاتلاً "مع فلسطين"، كما يجيب حين نسأله مع أي جهة كان ملتزماً حينها. ثم يضيف "المجتمع الفاسد هو اليوم معركتي الاساسية، اليوم انا مناضل اجتماعي".
استطاع نمر ورفاقه بمرور الوقت أن يعمموا وعياً في المخيم مفاده أن "المدمن ليس مجرماً بل مريضاً يلزمه علاج. كانت تلك خطوة كبيرة في مجتمع تقليدي كمجتمع عشائر وعائلات المخيم".
"بداية كنا نؤوي المدمن لفترة أسبوعين فقط من اجل فطامه ("ديتوكس") قبل تحويله لمصحات خارجية. كنا بذلك نوفر على أهل المريض حوالي 3 ملايين ليرة (ألفي دولار)، لكننا وجدنا ان تكاليف العلاج الكامل لا زالت كبيرة على الأهل، فقررنا توسعة المركز ليصبح مركزا للعلاج".
"المخيم بكامله لازم يتسكر عليه ويخضع لعلاج نفسي"، يقول نمر نمر الذي التقيناه في مركز "انسان لعلاج مدمني المخدرات" في المخيم. ويضيف "المخيم أصبح مكاناً مخيفاً: كيلومتر مربع واحد يقطنه 47 الف نسمة! ثلاثة شعوب تتزاحم هنا. لبناني وسوري وفلسطيني، لكلٍ تقاليده وافكاره. تصادم، تزاحم، توترات لها علاقة بفرص العمل والسياسة والايديولوجيا والأمن والمكان".
نسأله ان كان سبب مبادرته تفاقم عدد المدمنين في المخيم؟ فيصحح "بل لأن نوعية المخدرات أصبحت أكثر خطورة. هناك مواد جديدة لا نعرف حتى على ماذا تحتوي! أحيانا مجرد نصف حبة ممكن ان تودي بالمتعاطي الى الجنون. خاصة المواد المصنعة محلياً كالفراولة والسيلفيا والكبتاغون. يجري "ضربها" ببودرة الهيرويين فيصاب المتعاطي فورا ب (اوفر دوز)".
يقسم نمر مرضاه الى ثلاث فئات، "فئة نستلمها من القوى الامنية الفلسطينية التي قد تكون قد القت القبض عليهم، وفئة يستنجد أهلهم بنا كونهم صاروا خارج السيطرة، فنتقرب منهم لإقناعهم بأنهم بحاجة للعلاج. وفئة من المرضى يقصدوننا من أنفسهم". بلغ عدد نزلاء المركز يوم زيارتنا 13 شخصاً.
يتقدمنا نمر ويفتح باباً خشبياً بالمفتاح. ندخل الى فسحة لم نكن نظن انها قد تكون موجودة هنا. مكان جميل يشبه شاليهات مراكز التزلج الخشبية. يبدو يدوي الصنع. يبتسم النزلاء لنا. كلهم شبان. الجميع مشغول بشيء ما: إما في ورشة النجارة أو غرفة الموسيقى أو ورشة مجسمات الجفصين. يضحك أحدهم وهو يشير الى مجسمات على شكل أرزة خضراء قائلا "عم نروج للسياحة اللبنانية".
نسأل نمر بعد خروجنا إن كان مرضاه يعانون من انتكاسات متكررة فيجيب "اكيد، لان البيئة الحاضنة هي نفسها والمجتمع هو نفسه".
هو ذلك. أقول في نفسي. انتكاسات وانتكاسات. حين يطيل الفقر المكوث يصبح جهلاً. حين يطيل الجهل المكوث يصبح كارثة. اين فلسطين من كل تلك الهموم؟
أغادر المخيم ولا زالت تلك المحادثة مع شبان المقهى ترن في اذني. سألتهم: ماذا تعني فلسطين اليوم لكم؟ لم يترددوا بالإجابة: ""أي فلسطين؟"، قال أحدهم. "نَسّونا اياها" قال آخر. "بعدنا منفكر بفلسطين؟ عم فكر كيف بدي أهاجر"، قال ثالث.
ثم سكتوا فجأة كمن تذكر أمراً شخصياً محزناً. يطول الصمت فأهم بالكلام، واذ بمحسن يقول ببعض غضب "عم ينسونا إياها شويه شوية". اسأل كمن يتمنى جواباً آخر: وهل نجحوا؟. فيجيب بلهجة الدفاع عن النفس: "نجحوا. عندي كوم لحم بدي طعميهم. فاضي أفكر بفلسطين؟".
بهدوء، يتكلم بلال الذي كان لا زال صامتاً منذ بداية اللقاء "لو سأل أحدهم: مَن مِن الدول لا زال يحكي باسم قضية فلسطين؟ لقلنا: لبنان. لكن ما يحز بالنفس أن لبنان الذي يحكي باسم فلسطين، يحرم الفلسطيني من اقل حقوقه الانسانية، ويجعله يلتهي عن قضيته بلقمة عيشه. هذا اللبنان يصبح، من حيث لا يدري، شريكاً للصهيوني». ثم يسكت لهنيهة ويستل سيجارة من علبته مضيفاً "انا شو قادر أعمل لفلسطين؟". ثم ينظر في عينّي ويضيف "مِشي الحال؟".