في الأول من هذا الشهر، صدر بيان في مدينة هيوستن الأمريكية بإلغاء المؤتمر السنوي لمجموعة كامبيردج لأبحاث الطاقة، الذي كان يفترض أن يبدأ بعد تسعة أيام. المؤتمر الذي يستقطب حوالي خمسة ألاف شخص من أركان صناعة النفط العالمية، من وزراء ومديري شركات، يعتبر منصة أساسية للتداول في شؤون وشجون عالم الطاقة خاصة. ومن مهندسي اللقاء الأساسيين دانيل يرجن مؤلف كتاب "الجائزة" الذي يعتبر واحداً من أفضل الأعمال الأكاديمية التي تؤرخ لصناعة النفط.
عبر المحيط الأطلسي، وبعد ستة أيام من الإعلان الذي صدر في هيوستن، دخل وزير النفط الروسي الاسكندر نوفاك مبنى منظمة أوبك في فيينا لينخرط في مباحثات لخمس ساعات مع وزراء المنظمة، وخاصة وزير النفط السعودي. انتهى الاجتماع إلى ما كانت تتخوف منه الأسواق: عدم الاتفاق على خفض إضافي للإنتاج، الأمر الذي أدى إلى تراجع في أسعار النفط في الأسواق بنحو 10 في المئة عند الإغلاق يوم الجمعة ثم افتتحت الأسواق على تراجع أكبر عند بدء العمل يوم الإثنين بعد عطلة نهاية الأسبوع، وهو أكبر تراجع منذ العام 1991، عندما غزا الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الكويت.
بين ما جرى في هيوستن وفيينا خيط أساسي: فيروس الكورونا الذي بدأ في أكبر دولة مستوردة للنفط وثاني أكبر مستهلك له وهي الصين. ثم راح يتمدد ويهدد بأن يصبح وباءً عالمياً بتأثيراته المختلفة على صناعة السفر بمختلف أشكالها، وسائر الأنشطة الاقتصادية، الأمر الذي يعني إضعافاً للطلب، بداية في الصين التي يتوقع أن يتراجع استهلاكها للنفط بنحو 20 في المئة، وأن يتراجع الطلب خلال الربع الأول من هذا العام بنحو 3.8 مليون برميل يومياً، من أصل 96 مليوناً تمثل حجم الطلب العالمي المقدر على النفط.
تأثير كورونا؟
تحسباً لهذا، كان الموقف السعودي يقوم على ضرورة التصدي لتأثيرات فيروس الكورونا، التي فاقمت في إضعاف السوق، وهي تعاني أصلاً من زيادة في الإمدادات من خارج أوبك، ما أدى إلى تراجع حصة المنظمة إلى أقل من 30 مليون برميل يومياً. بلورت النقاشات اقتراحين: تمديد العمل باتفاق خفض الإنتاج الحالي بعد انقضاء أجله مع نهاية هذا الشهر، إلى آخر العام، وهو الاتفاق القاضي بإزالة 2.1 مليون برميل من السوق، بل وتعميقه بإضافة مليون ونصف مليون برميل يومياً، وذلك لضمان استقرار الأسعار على وضعها الحالي على الأقل.
لكن روسيا كان لها رأي آخر، وهو ليس جديداً، إذ بدأت منذ فترة تتساءل عن جدوى الاستمرار في برنامج لخفض الإنتاج، في الوقت الذي تتمدد فيه صناعة النفط الصخري الأمريكية. وهذه ينعشها وجود من يتحمل عبء الدفاع عن الأسعار، ودون أن تيحمل نصيبه عبر المشاركة في برنامج لخفض الإنتاج. موسكو اتبعت خلال السنوات الثلاث الماضية خط التحالف مع الرياض لتصبح أكبر دولة من خارج أوبك تشارك المنظمة جهودها بخفض الإنتاج لدعم الأسعار.
فيروس الكورونا بدأ في أكبر دولة مستوردة للنفط وثاني أكبر مستهلك له وهي الصين. وهو يتمدد ويهدد بأن يصبح وباءً عالمياً بتأثيراته المختلفة على صناعة السفر بمختلف أشكالها، وسائر الأنشطة الاقتصادية، الأمر الذي يعني إضعافاً للطلب، بداية في الصين التي يتوقع أن يتراجع استهلاكها للنفط بنحو 20 في المئة.
إضافة إلى ذلك فإن لموسكو حساباتها الأخرى، وعلى رأسها أنها تنظر بعين ناقدة إلى الجهود الأمريكية لتعطيل بناء خط الأنابيب الذي ينقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا، كما أن ميزانيتها تقوم على تحقيق سعر لبرميل النفط في حدود 42 دولاراً، الأمر الذي يجعلها في وضع أفضل لمقابلة أي تدهور في الأسعار.
الرياض لم تنتظر كثيراً لتخرج إلى العلن بخطتها البديلة لعدم مواصلة اتفاق خفض الإنتاج. فيوم السبت في 7 آذار/ مارس أعلنت شركة أرامكو عن أسعار جديدة ومخفضة لمختلف الأسواق، ووفق نوعيات أنواع النفط المباعة. فالشحنات المتجهة إلى الأسواق الآسيوية سيتم تخفيض أسعارها ما بين 4 -6 دولار للبرميل، وسيكون التخفيض ما بين 6 -8 دولار للشحنات المتجهة إلى أوروبا، و7 دولار لتلك المتجهة إلى الأسواق الأمريكية. كما سرب المسؤولون السعوديون أنهم يعتزمون رفع إنتاجهم عن معدله اليومي الحالي البالغ 9.7 مليون برميل، ابتداءً من الشهر المقبل، وبصورة متدرجة قد تصل به إلى أعلى قمة إنتاجية ممكنة وهي 12.5 مليون برميل يومياً، وهي الطاقة الإنتاجية القصوى لدى السعودية، وذلك للتعويض عن تراجع الأسعار التي يرى البعض أنها قد تستقر على ما دون 30 دولاراً للبرميل.
ثلاث محاولات
هذه باختصار بدايات حرب أسعار، وهي ليست الأولى من نوعها، وأهم ملمح لها تدفق المزيد من الإمدادات، خاصة بعد التحلل من أي اتفاق لتقييد الإنتاج إثر انهيار التحالف بين الرياض وموسكو، الذي استمر لأكثر من ثلاث سنوات، الأمر الذي سيدفع كل دولة نفطية إلى الإنتاج بأقصى طاقة متاحة لديها.
ومع أن جوهر حرب الأسعار هو العمل على الحفاظ على حصة أوبك في السوق، التي تسير في اتجاه تقلص مستمر، إلا أنها في واقع الحال تعكس رغبة السعودية في أن تتمتع بحصة أكبر، بصفتها صاحبة الاحتياطي الضخم، والقدرة الإنتاجية والتصديرية الهائلة، وكذلك القدرة على الصمود في حرب الأسعار، لسببين أساسيين: تدني كلفة استخراج النفط مقارنة بالمنتجين الآخرين، وتمتعها بإمكانيات مالية أفضل.
يذكر التاريخ القريب ثلاث محاولات من قبل، قادت فيها السعودية حرب الأسعار النفطية:
- الأولى في مطلع ثمانينات القرن الماضي عندما كانت أسعار البترول تتجه إلى أعلى بانتظام، الأمر الذي دفع الرياض ومن باب خوفها من التأثيرات السلبية المتوقعة للأسعار المرتفعة إلى العمل على إحداث تخمة نفطية، وذلك عبر ضخ 10 ملايين برميل يومياً، الأمر الذي فرض على أوبك العودة إلى الموقف السعودي وتوحيد السعر.
- المرة الثانية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وبسبب تنامي عبء دور المنتج المرجح الذي تحملته السعودية والذي بموجبه تقوم برفع وخفض إنتاجها وفق حاجة السوق. لكن المنتجين الآخرين استمرا في تجاوز الحصص المخصصة لهم، الأمر الذي كان يدفع الرياض باستمرار إلى خفض إنتاجها. وبعد تحذيرات عديدة قامت السعودية بالتخلي عن سعر أوبك الرسمي، واتباع نظام تسعير مرن يسمح لها بالمنافسة في السوق، الأمر الذي أطلق حرب أسعار كان من أبرز نتائجها العودة إلى استراتيجية الحفاظ على حصة المنظمة في السوق بدون الانشغال بمعدل سعري معين.
يفترض أن جوهر حرب الأسعار هو العمل على الحفاظ على حصة أوبك في السوق، التي تسير في اتجاه تقلص مستمر. إلا أنها في واقع الحال تعكس رغبة السعودية في أن تتمتع بحصة أكبر، بصفتها صاحبة الاحتياطي الضخم، والقدرة الإنتاجية والتصديرية الهائلة، وكذلك القدرة على الصمود في هذه الحرب .
استمر العمل بهذه الاستراتيجية مع نمو متصل في حجم الطلب، الأمر الذي أدى الى بروز مناطق إنتاج وإمدادات جديدة من خارج أوبك، خاصة من الولايات المتحدة، مع الاختراق التقني وبروز النفط الصخري، وكذلك النفط المنتج من مناطق في أعماق البحار ونفط الرمال الكندي، وكلها تشير إلى اختراقات تقنية جعلت من الممكن الإنتاج من مناطق غير تقليدية وبأساليب غير معهودة، وأسهمت في النهاية في إحداث تخمة في الأسواق برزت بصورة واضحة في عامي 2014 و2015. وكان ذلك هو ما أعاد إلى ساحة النقاش مرة أخرى فكرة العودة إلى استراتيجية الدفاع عن الأسعار، ولو أن السعودية وقتها أصرت على أن تكون موسكو طرفاً في أي اتفاق، وهو ما حدث بعد عدة أشهر.
- هذه المرة، تبدو العودة إلى حرب الأسعار وكأنها قفزة في المجهول. إذ أن الحرب ستدور بين ثلاثة من كبار المنتجين في العالم وهم السعودية، وروسيا، والولايات المتحدة. ولكل منهم قدراته الإنتاجية العالية التي تتجاوز 12 مليون برميل يومياً، لكن مع تباين في حجم الكميات المصدرة. الأمر الثاني الذي لا بد من أخذه في الاعتبار، هو وجود العنصر التقني، خاصة فيما يتعلق بالإنتاج الأمريكي، واستخدام تقنية الحفر الهيدروليكي لإنتاج النفط الصخري الذي شكل منافساً قوياً لذاك التقليدي. ثم أن المنافسين الرئيسيين للرياض، وهما موسكو وواشنطن، دولتان كبيرتان ومؤثرتان في المشهد السياسي العالمي. هذا بالإضافة إلى تنامي الوعي بالتأثير السلبي للوقود الأحفوري على البيئة والتغير المناخي، وهي قضية خرجت من أروقة الجدل الأكاديمي إلى ساحات مجموعات الضغط، واستهداف الشركات النفطية لخفض استثماراتها وعملياتها في ميدان الصناعة النفطية.
وفوق هذا، فهناك قضية من يقود السوق بعد انهيار التحالف السعودي الروسي ،وعدم قدرة السعودية لوحدها على القيام بذلك حتى وإن اصطفت دول أوبك خلفها.
وكأي حرب، فمن السهل بدؤها، لكن من الصعوبة بمكان التحكم في نهاياتها، ما لم تفرض حقائق السوق أوضاعاً جديدة. لكن ذلك لا يمكن أن يتبلور، بعد وقت قد يزيد أو يقصر، إلا بحسب قدرة اللاعبين الأساسيين على التحمل، أو الوصول إلى اتفاق ما لتقليل الخسائر بين الرياض وموسكو. أما الولايات المتحدة، وهي الطرف الثالث الرئيسي في معادلة السوق النفطية اليوم، فهي تتبنى مواقف ومفاهيم تكاد تكون أقرب إلى "الطهارة"، بعدم التدخل في الأسواق بأي صورة كانت.