وزير النفط السعودي الجديد وابن ملك البلاد، واجه فجأة تحدياً من خارج معادلات إدارة الإنتاج والسوق العالمية للطاقة التي يتناولها هذا النص، تحدياً يرتبط بالحرب في اليمن وعليها. حيث استهدفت هجمات للحوثيين قلب صناعة النفط السعودية، ووجهت ضربة لأكبر منشأة لمعالجة النفط في العالم. وهكذا اضطرت "أرامكو" عملاق صناعة النفط المملوكة للدولة السعودية، إلى خفض إنتاجها بنسبة 5.7 مليون برميل يومياً. ويتوقع أن يستمر ذلك لأسبوعين على الأقل.
وتقول صحيفة "وول ستريت جورنال" اليوم أن "القصف خفّض إلى النصف، إنتاج الموقع" وتضيف - تهويلاً ربما - "أن هذا الحدث لا يوازي في ضخامته سوى احتلال الكويت من قبل العراق"!
"السفير العربي"
في أواخر العام 1986، نشرت وكالة الأنباء السعودية خبراً مقتضباً عن إعفاء وزير النفط والثروة المعدنية (وقتها) أحمد زكي اليماني من منصبه الذي قضى فيه نحو ربع قرن من الزمن، وأصبح خلاله وجه السعودية، والمتحدث باسم منظمة أوبك في المحافل الدولية. تضمن الخبر تعيين هشام الناظر وزير التخطيط، وزيراً للنفط بالوكالة،. لكن، وبعيداً عن الإعلانات الرسمية، فقد تم تعيين ثلاثة مستشارين في وزارة النفط، أحدهم الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز الذي كان يعمل وقتها أستاذاً بجامعة البترول والمعادن في المنطقة الشرقية، مهد صناعة النفط السعودية.
العام 1986 نفسه شهد مولد الأمير محمد بن سلمان، الذي أصبح ولياً لعهد السعودية والقوة الرئيسية في المملكة اليوم، ويقوم في إطار سعية لما يعتبره تحديث بلاده وتعزيز سلطته، بخطوة تجنبتها العائلة المالكة طوال تاريخها، وهي تسليم وزارة النفط إلى أحد الأمراء من أعضاء الأسرة، على الرغم من السماح بتولي بعض المناصب الوظيفية العليا في الوزارة، كما حدث مع الأمير سعود الفيصل، الذي عمل وكيلاً لوزارة النفط تحت قيادة اليماني وذلك قبل تحويله لتولي وزارة الخارجية عقب اغتيال والده، وفي إطار توزيع بعض مواقع السلطة من ضمن اعتبارات التوازنات الأسرية. وهذه التوازنات كانت هي التي أدت إلى استبعاد وزارة النفط من هذه المحاصصات الملكية، وتجنب حصول أحد أفرع العائلة على سلطة ونفوذ أكثر، بسبب السيطرة على وزارة بأهمية النفط.
على أن الخطوة التي قام بها الملك سلمان بإدخال الجيل الثاني من أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز في خط التنافس على العرش، استكملها ابنه وولي عهده بالعمل على حصر وراثة العرش ومصادر قوة السلطة رأسياً في بيت سلمان، بعد أن كانت تتوزع أفقياً بين أبناء الملك عبد العزيز.
خبرة
يأتي الأمير عبد العزيز إلى موقعه الجديد وزيراً، وخلفه خبرة عملية لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن في دهاليز صناعة النفط محلياً ودولياً. فبعد أن عمل مستشاراً، تم تعيينه وكيلاً للوزارة، ثم نائباً للوزير ووزير دولة، وكان وجهاً حاضراً في كل اجتماعات أوبك، كما تولى رئاسة لجنة الاستراتيجية بعيدة الأمد للمنظمة، وهي إحدى الآليات التي اعتمدتها أوبك لتحقيق قدر من الاستقرار في السوق النفطية من خلال توفير بعض المؤشرات، للمستهلكين أولاً ليعرفوا ما عليهم دفعه للحصول على الإمدادات المطلوبة، وللدول المنتجة لتعرف ما يمكن أن تحصل عليه من دخل تستخدم جزءاً منه في استثمارات لتوفير المزيد من الإمدادات مقابل التوسع في الطلب.
والأمير عبد العزيز عمل مع ثلاثة وزراء هم هشام الناظر وعلي النعيمي وخالد الفالح، كما شهد تحولات رئيسية عاشتها ولا تزال تعيشها السوق النفطية، وتمحورت حول سؤال أساسي وهو: هل تركز أوبك على جانب الأسعار والعمل ما أمكن للحصول على أفضل وأعلى سعر ممكن حتى وإن تطلب ذلك التضحية ببعض الإنتاج؟ أم أنه من الأفضل التركيز على حصة المنظمة في السوق، وترك موضوع الأسعار ليتحدد وفق آلية العرض والطلب؟
شهد عقد السبعينات تصاعد الطلب وهيمنة أوبك على المسرح للدرجة التي اعتقدت فيها أن سعر النفط له اتجاه واحد وهو التصاعد إلى أعلى، وبالتالي تسابقت الدول الأعضاء إلى زيادة أسعار نفطها، الأمر الذي كانت تعارضه السعودية واليماني تحديداً، بسبب تأثيره السلبي مستقبلاً على المنظمة نفسها، حتى وصل الأمر بالسعودية إلى بيع نفطها بسعر يقل دولارين في البرميل الواحد عن السعر الرسمي لأوبك، ثم ذهبت خطوة أخرى عندما خططت لإغراق السوق في مطلع الثمانينات الفائتة عن طريق ضخ عشرة ملايين برميل في اليوم لإضعاف الأسعار وحتى تفرض على أوبك توحيد السعر، وهو ما حدث بعد ذلك. لكن الضرر كان قد وقع ببروز مناطق إنتاج جديدة في بحر الشمال والآسكا لا تتقيد بالأسعار الرسمية لأوبك، الأمر الذي أدى إلى بروز ظاهرة السوق الحرة، حيث بدأ البيع بأسعار تقل عن أسعار أوبك.
ومع اتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الحرة، وجدت أوبك أنه لا بد لها من التدخل، وبالتالي قامت بتجرّع الدواء المر لأول مرة في تاريخها، وهو تحديد سقف للإنتاج، مع تحديد حصص لكل الدول الأعضاء. وترك للسعودية مهمة "المنتج المرجح" الذي يرتفع بإنتاجه ويخفضه وفق احتياجات السوق، في إطار خمسة ملايين برميل يومياً خُصصت لها.
سوبر أوبك؟
30-06-2018
لكن تلك الاتفاقية لم تضع آلية لضمان تقيد كل دولة بحصتها المقررة، وكان أن بدأ الأعضاء في أوبك بتجاوز حصصهم المقررة للتعويض عن تراجع العائدات، على أساس أن السعودية ستتحمل الفرق من واقع مسؤوليتها منتِجاً مرجحاً، وهو ما كان يحدث باستمرار، حتى تقلص حجم الإنتاج النفطي السعودي إلى أقل من إنتاج بحر الشمال من النفط، وهو ما لم تتحمله الرياض. وعلى الرغم من مناشداتها المستمرة للدول الأعضاء للتقيد بحصصها، وعلى الرغم من تعيين شركة تدقيق، إلا أنه في نهاية الأمر اتضح أنه ليس هناك إمكانية لعمل شيء، لأن الأعضاء هم دول ذات سيادة، ولا يمكن أن يفرض عليهم شيء لا يريدون الالتزام به. وكان أن قررت السعودية قلب الطاولة، وبدء حرب أسعار لاستعادة نصيبها في السوق، وذلك بغض النظر عن المستوى الذي ستنحدر إليه الأسعار. وبالفعل تراجعت الأسعار إلى ما دون عشرة دولارات للبرميل في بعض الأحيان، ووصلت الرسالة إلى دول أوبك التي طلبت من الرياض وقف تلك الحرب. أبرز ذلك، من ناحية أخرى ضرورة التنسيق مع المنتجين الآخرين، إذ لم تعد أوبك هي القوة الوحيدة المهيمنة في السوق.
عبء المنتِج المرجِّح
محاولات التنسيق، ودفع الدول المنتجة من خارج أوبك إلى التعاون لخفض الإنتاج لم تثمر شيئاً يذكر، خاصة من قبل المنتجين الرئيسيين مثل بريطانيا والنرويج والآسكا. فنصيب النفط في تشكيلتها الاقتصادية كان قليلاً، ويحتل نسبة لا تُذكر مقارنة بالنسبة العالية للنفط في اقتصادات دول أوبك، الأمر الذي يجعل من المنتجين خارج أوبك أكثر قدرة على تحمل عبء حرب الأسعار. الأمر الثاني والأهم أن المنتجين الجدد استفادوا من فترة الأسعار العالية لإحداث اختراق بالإنتاج بتكلفة عالية، تتراجع بعد ذلك بسبب التركيز فقط على مجالات التوسع والصيانة والتسيير.
وهذه الحقائق هي التي دفعت هشام الناظر، وبصورة أخص علي النعيمي إلى التركيز على حصة أوبك في السوق، وترك موضوع الأسعار جانباً، لأن أوبك لا يمكنها التأثير عليها إلا بثمن عال يتلخص في تقليص حصتها في السوق. هشام الناظر لم يستبعد عنصر السعر كلية، ودفع في اتجاه تبني المنظمة لنطاق سعري مستهدف، لكن بدون الدخول في ترتيبات لوضعه موضع التنفيذ عبر آلية الإنتاج. أما النعيمي فقد كان محظوظاً كون السوق دخلت في مرحلة من نمو الطلب المستمر، الأمر الذي ساعد أوبك على زيادة حصتها في السوق بمعدل مليون برميل سنوياً لفترة عقد من الزمن.
التحديات اليوم
يواجه الأمير عبد العزيز ثلاثة تحديات أساسية: أولها يتعلق بالمدى الذي ستستمر فيه السعودية في مساندة فكرة خفض الإنتاج لدعم الأسعار، خاصة وأنها عملياً عادت إلى لعب دور لا تريده، أي دور "المنتِج المرجح". وليس في الأفق ما يشير إلى أن الطلب سيتصاعد بالقدر الذي يسمح لأوبك بترك برنامج خفض الإنتاج.
التحدي الثاني أن السوق النفطية تمر بتحولات هيكلية على رأسها بروز صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة التي أصبحت منافساً في الإنتاج والتصدير، وهو ما أضعف من قبضة أوبك، ودفعها إلى التنسيق مع منتجين آخرين بقيادة روسيا، مما يزيد من عبء إدارة السوق بسبب تعدد المنتجين.
وأخيراً فهناك التحدي الأكبر المتمثل في عملية بيع جزء من حصة أرامكو. فالأمير عبد العزيز بحكم صلته الطويلة بصناعة النفط يبدو أقرب إلى مفاهيم المهنيين في صناعة النفط السعودية ممن يعتبرون أرامكو رمزاً من الأصول والكنوز الوطنية التي ينبغي المحافظة عليها، وإبعاد أي تدخل أجنبي في شؤونها. فهل ستمكنه مواجهة أخيه ولي العهد الأمير محمد بتلك المخاوف، مستفيداً من كونه ابن الملك وعلى دراية ومعرفة بخبايا الصناعة النفطية.