تستيقظ "العراقويّة" اليوم في بلاد الرافدين، بعد نصف قرن من توالي الكوارث الكبرى على هذا البلد المفتاح في المنطقة العربية. يُعبَّر عنها بكل السبل - بالشعارات والهتافات والمواقف - الشبان والشابات الذين مضى على انتفاضهم في الشوارع والساحات ما يقترب من أن يكون أربعة أشهر، في هذه الجولة الأخيرة التي تشمل "أرض السواد" كلها، من بغدادَ إلى أقصى الجنوب. وأما سائرُ المحافظات، شمال بغداد، فليست معادية لهذا الانتفاض وإنما هي خائفة. خائفة من فرط التنكيل الذي تعرضت له، وخائفة من استخدامها كحجة لضرب الانتفاضة لو هي تحركت ، باعتبارها كانت، حتى الأمس القريب، "أرض داعش"، وإنْ غصباً عنها. ولكنها عبّرت بالأدوات التي بحوزتها عن تأييدها لسائر العراق.
وهكذا ارتسم مشهد في غاية الوضوح. هناك العراق المصطخِب من جهة، بكل تلاوينه واختلاف فئاته ومكوناته، وهناك بالمقابل إيران، الجارة المتنفذة التي تلهج بـ"أولوية المواجهة الجيواستراتيجية"، وتتدبر تنظيمها.
تمتد الحدود المشتركة بين إيران وشرق العراق على مسافة 1458 كيلومتر تبدأ من أقصى الشمال، عند النقطة المشتركة مع تركيا، والتي تضم في جنباتها إقليم كردستان، إلى أقصى جنوبه عند شط العرب. وهذا معطى موضوعي، كانت له على الدوام، وعبر التاريخ تداعياته ثقيلة الوطأة.. وأما اليوم، فإيران تتباهى بتعجرف برمزياتها، مستفزة العراقيين الذين استُضعفوا وغُلبوا على أمرهم بفعل كل تلك الكوارث. وهي توظف فكرة "ولاية الفقيه" التي رُفعت إلى مرتبة الأيديولوجيا الرسمية للدولة، لمدّ سيطرتها، أي أنها تستخدمها في استراتيجيتها السياسية، ولبناء "إمبرطوريتها"، متجاوزة التأويل الديني والسجال الفقهي الذي يخصها، والقائمَ منذ قرون... وبكل الأحوال فالفكرة، كما صيغت اليوم، تلاقي إجمالاً الصدَّ في بلاد النجف وكربلاء.
وتستعرض إيران كذلك حضورها الأمني والعسكري خارج أراضيها، وبالأخص في العراق. وهو حضورٌ فعلي ورمزي في آن، وقد تميز في ممارسته، بالقول وبالصورة، الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته الولايات المتحدة منذ أيام، فحوّل نفسه إلى تجسيد لتلك السطوة العسكرية والأمنية الفجة والمهينة.
كما تدعم إيران في العراق ميليشيات مسلحة تعود إلى "أحزاب" عراقية تدين لها بالولاء، تحكم فعلياً البلاد والعباد، وشكّل بعضها "كتائب موت" تفسّر ظهور هؤلاء "المجهولين" الذين أغاروا مراراً على الاعتصامات الأخيرة، ومارسوا القنص والاغتيالات. ولذا، فأول ما يفعله المنتفضون العراقيون للرد على سقوط ضحايا من بين صفوفهم هو حرق مقرات تلك "الأحزاب"، ومعها القنصليات الإيرانية حيثما وجدوها.
وتمارس إيران على ذلك سطوتها الاقتصادية في بلاد الرافدين، باعتبار المنافذ الحدودية مفتوحة بينهما، وباعتبار السلطة القائمة في بغداد محابية لطهران. وتمارس هذه الأخيرة كل أشكال الإغراق للأسواق بمنتجاتها، بدءاً ب"الطماطه"، وترسل إلى نفسها ما تستحليه، وتعتبر ذلك "التبادل" رئة تتنفس منها في ظل العقوبات الأمريكية عليها، حتى وإن كان هذا التنفس يجري بتغوّل، بلا أي تفاهم أو نظام، اللهُمَّ إلا مع السلطة العراقية ومفاتيحها والمنتفعين العراقيين منها.
قيل أن الوضع الحالي في العراق هو تجسيدٌ نموذجي لتفلّتِ الأفعال السياسية من يد أصحابها بعد إطلاقها. ويصح ذلك عموماً، وإنما بالأخص حين يطغى على تلك الأفعال والقرارات، المتعجلة والجاهلة، الاعتدادُ بالقوة كبديل عن كل شيء. فقرار تدمير العراق الذي اتُخذ من قبل المحافظين الجدد الأمريكان، وبتشجيع ومشاركة إسرائيل، أفضى عملياً إلى تمكين إيران منه! حلّ "المندوب السامي" بول بريمر الجيش العراقي، وسيّدَ شريحة معظم رموزها من شذاذ الآفاق والوصوليين المتملقين له، ودمر الاحتلال الأمريكي كل البنى التحتية للبلاد، وكل مؤسسات الدولة العراقية، وعرّضَ اقتصادها للتخريب والنهب التامّين. وحين غادرت القوات الأمريكية العراق في 2011، كانت قد أحالته فعلاً إلى "العصر الحجري" كما هدد بذلك "رسمياً" وزير الخارجية الأمريكي (حينها) جيمس بيكر، خلال اجتماعه بوزير الخارجية العراقي (حينها، طارق عزيز) في جنيف في كانون الثاني/ يناير 1991، قبل أيامٍ من شن الحرب عليه. وبالمناسبة، فالتعبير جزءٌ من الخطاب الاستعماري الجديد المعهود، وله مرادفاتٌ بما يخص فيتنام.. ووصولاً إلى غزّة! فيما الخطاب الاستعماري القديم كان يدّعي، على العكس من ذلك، السعيَ لنقل "الحضارة" والحداثة إلى الشعوب والمجتمعات التي يستعمرها.
اختنق العراقيون. تعطلت الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والصحة والكهرباء والطرقات، ولم يبقَ شيء. وعرفت مؤسسات "الدولة" تضخماً آخرَ مختلفاً عما مارسه صدام حسين الذي وظف عائدات النفط لتأطير المجتمع، والسيطرة عليه بالتوظيف في الجهازين السلطويين المدني والعسكري، شالاً تماماً ديناميات المجتمع نفسه. اليوم يحدث التوظيف الواسع نفسه وإنما بآلياتٍ مختلفة ولأغراض أخرى، جزئية أو فئوية، واستنسابية، لا تشمل كل المجتمع العراقي. هي منافذ لإرضاء الأزلام، ولتمكينهم من النهب الدائر. من لا يذكر فضيحة "الفضائيين" في الجيش العراقي زمن نوري المالكي قريب العهد، والتي تكشّفت حين سيطر "داعش" ببضع مئاتٍ من مقاتليه على ربع العراق. كان "الفضائيون" - مئات الألوف من الأسماء الوهمية - يتقاضون رواتباً يستلمها بدلاً عنهم ضباطٌ وسياسيون محظوظون... حتى بلغ الفساد بالعراق أن احتل المرتبة 169 من أصل 180 اقتصاداً. وكمثال "متواضع"، وليس الأشد (فهو عائد إلى بيانات قديمة للبنك الدولي)، فقد تلقى العراق، أكثر من 32 مليار دولار أمريكي من المساعدات الثنائية من دول "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OCDE) بين عامي 2003 و2012، إلا أن الأموال لم يظهر لها أثرٌ على الخدمات. ومذاك، ما زال البلد الذي يصدّر 6.5 مليون برميل نفط كل يوم إلى العالم محروماً من الكهرباء، ومن الماء الصالح للاستهلاك البشري. وهو الذي في 2018، بلغ إجمالي ناتجه المحلي 197.7 مليار دولار، وعدد سكانه 38.8 مليون نسمة، سجل أن 8 ملايين منهم يعيشون تحت خط الفقر، أي أكثر من 20 في المئة من السكان. وفيما تقول الأرقام الرسمية أن عدد العاطلين عن العمل في الفئة العمرية الشابة، وبالأخص من حملة الشهادات العليا، يصل إلى 20 في المئة منهم، تفيد الدراسات العديدة إلى أنه يبلغ فعلياً ضعف هذه النسبة...
اختنق العراقيون! وهم يعرفون أن بلادهم خيّرةٌ غنية. وشعروا بالتحقير والاستباحة. بالإهانة. وهم أبناء حضارة إنسانية عظيمة. فكيف يُطلب منهم "التسامي" فوق كل ما عاشوه، واختيار الانضمام إلى معسكر أحد المتصارعيَن، إيران والولايات المتحدة الأمريكية، المتقاتلين فوق أرضه وفي سمائه؟ الحرُّ وحده يختار! هذا أولاً. والعراقيون يشعرون أنهم مدعوون كما يقول المثل إلى "الاختيار بين الطاعون والكوليرا"، فلماذا يفعلون؟
____________
من دفاتر السفير العربي
العراق ينتفض: أريد حقي، أريد وطناً!
____________
وفي مقام آخر (أول كذلك!)، ففرض هذه الثنائية الحصرية هو، دائماً وأينما كان، واحدٌ من أدوات ممارسة الابتزاز والتسلط. وقد سبق لها أن طُرحت في مناسبات شتى وبلدان عديدة. وهي ثنائية عقيمة، تقوم على تبسيط افتراضي وذهني للواقع. هل على السوريين مثلاً الاختيارُ فحسب بين نظام بشار الأسد وداعش، وارتضاء العيش في ظل أحدهما؟ وماذا لو أعطوا لأنفسهم الحق بالحلم بنظام آخر لا يمثله أيٌّ منهما، ولاسيما حين يتنافسان في السوء؟ يُلغي الطرح الدائم لهكذا ثنائيات الحقَ في صوغ خيارات هي بالضرورة معقدة وكثيفة ومتشابكة، كما هي المجتمعات ومشكلاتها وطموحاتها.
ليس تفصيلاً أبداً أن المنتفضين في العراق هم حصراً من أبناء البيئة الشيعية – سواء أكانوا مؤمنين بها أو غير مكترثين لها. وقد اختصروا بذلك على أنفسهم تهمة الانتماء إلى داعش مثلاً. وأما مواقفهم المعلنة، الدائمة والمتكررة، فتؤكد أن استخدام وصم أو تهمة العمالة لأمريكا (التي أعادتهم إلى العصر الحجري!) لا يستقيم. وأما القمع الشديد فليس وسيلة للإقناع، ولا هو وسيلة للإخضاع، بل لمزيد من الغضب والتمرد.
فقد اختار العراقيون – بوضوح لا يحتمل اللبس – رفض الانصياع لهذا الابتزاز، وإعلان حقهم في بلد مزدهر، لا يُختصر إلى أرضٍ خلاء، أو حلبة مصارعة بين متنافسيَن لا يقيمان أيَّ اعتبار إلا لمصالحهما. وهو موقف يطرح بالتأكيد التساؤل عن الخطوة التي تليه، أي كيفية تحقيق ذلك الحق / الحلم الذي يستشعرونه. ولكن غياب الإجابات أو ضبابيتها الحالية لا يلغي ما فَرض نفسه: العراق يولد من جديد بدءاً من ذلك الفيض المدهش للعراقويّة.