منذ ايام، وإثر اغتيال الأمريكان للجنرال قاسم سليماني، بدا أن حرباً عاتية توشك على الاندلاع، حرباً سنكون نحن، أبناء هذه المنطقة، وقودها وضحاياها.. بل وخشي الكثيرون من أن تكون – أو تصبح -تلك هي الحرب العالمية الثالثة التي تهجس بها الضمائر، باعتبار الحربين العالميتين الفظيعتين اللتين شهدهما القرن العشرين.. وأنها "هذه المرة" لن تُبقي ولن تُذر.
بالمقابل، جرت مقاربة خارج الصدد لحدث الاغتيال هذا. انصرفت التقارير، كما التعليقات الفردية، الى تناول خصائص وميزات سليماني، مديحاً وتعظيماً أو شتماً وشيطنة. وكلاهما كان يقوم بأسطرة الرجل. مؤيدو إيران رووا كيف أنه استراتيجي لم يوجد له مثيل، وأضاف بعضهم أنه على ذلك، خلوق وذو تواضع جم. واعداؤها حمّلوه كل آثام العالم حتى وصل الأمر الى تأكيد دوره في تقوية طالبان، بل وأنه وراء جريمة "11 سبتمبر".. ما يذكِّر بالرواية عن أسلحة الدمار الشامل التي كانت بحوزة صدام حسين، وب"كولن باول، الجنرال الامريكي "المحترم"،وهو يهز بيده كيساً أبيضاً خلال مداخلة له في جلسة للأمم المتحدة، مدّعياً أنه يحوي أسلحة بيولوجية كفيلة بقتل البشرية.. كيساً صغيراً من الطحين.
وأما اليوم، فبفضل شخصية دونالد ترامب،صار الابتذال أكبر.
وكِلا الروايتان جعلتا من سليماني سر قوة بلاده وتوسع نفوذها الاقليمي!
وقد عادت الخنادق الى استقبال روادها، وهم كثر، ونُسيت المواضيع الفعلية: مِن أن الفعلة الامريكية ليست فحسب خطيرة بسبب تداعياتها البشعة المحتملة، بل لأنها أيضاً تعزز انهيار القواعد التي توصلت البشرية الى تحديدها بعد مأسٍ جمة، ومنها تلك الحربان العالميتان في القرن الماضي. وهي قواعد متوافق عليها، تسعى الى قدر، ولو منخفض، من الضوابط على مستوى تعريف الحقوق والأصول والعلاقات. وللمفارقة، فقد ساعدت الحرب الباردة بين القطبين العالميين في صون تلك الضوابط، أو على الأقل في فرض الحاجة لتطبيقها. وبما أن العالم اليوم يعيش في ظل تعددية قطبية رجراجة، باعتبار تفاوت قوة مكوناتها على كل المستويات، وأيضاً بفعل تشابك تحالفاتها، حيث أن هذه التحالفات لا تعرف الاستقرار ويمكن أن تضم متناقضات كما يمكن أن تتغير في كل حين، لأن معيارها الأوحد صار المصلحة الذاتية لكل مكوّن فيها، بشكل عارٍ وفج، ومتخلص من أي أبعاد قيمية أو ايديولوجية، حتى ولو شكلية أو مدّعاة. وصار يمكن الكذب بشكل صريح وكذلك محاكمة النوايا واستباقها بافعال. وهو كله ما تضمنه بشكل مكثف الاغتيال الأمريكي لسليماني.
الحال المرعب للعالم!
16-05-2019
وهكذا، فيمكن لروسيا مثلاً أن تكون سنَد نظام بشار الأسد الأساسي – بشكل يتجاوز إيران، أو فلنقل أن موسكو هي الأكثر نفوذاً وهيمنة على مفاصل السلطة في دمشق، وعلى البلاد نفسها - وأن تكون في الوقت نفسه حليفاً لتركيا أردوغان، العضو في حلف شمال الاطلسي (والتي تستلم على الرغم من ذلك صواريخ متطورة من روسيا!)، والداعمة لتنظيم الاخوان المسلمين في العالم، وللعديد من المنظمات الإسلامية المسلحة في سوريا والمصطدمة بقوة مع سلطة دمشق.. وأن تكون لروسيا أيضاً أفضل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل. وهذا تناول لأحد مستويات التعقيد القائم، الذي يحوي في داخله تشابكات أخرى لا تقل غرابة..
وعلاوة على التشوش الذي تتسبب به، تُولِّد هذه الحالة "السائلة" للعالم المغريات الخاصة بها، وأولها تعزيز الافكار التآمرية حول الأحداث، لأن كل شيء أصبح ممكناً ومعقولاً، طالما لا ضوابط من أي نوع. يمكن مثلاً أن تكون الولايات المتحدة قد بلّغت روسيا بنيّتها اغتيال سليماني، ويمكن ألاّ تكون قد فعلت. ليس الأمر مستنكراً أو مستغرباً في الخيار الاول، وهو -في الخيار الثاني - لا يهدد استقرار التوازن، كما كان الأمر عليه خلال الحرب الباردة...
وهكذا في كل شيء، وهلم جرا.
ولا يستولد هذا الوضع ازدهار نظريات المؤامرة والحبكات الأكثر جنوناً فحسب، بل هو يقوم بتفويت وقائع هامة للعجز عن تأويلها. فقبل يوم من اغتيال سليماني، أجرت روسيا والصين وإيران مناورات عسكرية في بحر العرب والمحيط الهادئ.. لم تستدع اهتمام أحد. ثم نُسيت تماماً بعد الاغتيال. فهل كان لتلك المناورات معنى؟ الله أعلم.
وهكذا في كل شيء، وهلم جرا.
ثم يبدو أن الإدارة الامريكية اتصلت قبل يوم بعادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي المستقيل، وأبلغته بنيتها توجيه صواريخها الى القواعد العائدة لكتائب حزب الله العراقي تحديداً، وأنه اتصل بالمعنيين وأبلغهم.. فلم يتخذوا أية احتياطات، مما أوقع ذلك العدد من الضحايا جراء القصف، الأمر الذي تسبب بالغضب العارم وبحصار السفارة الامريكية في بغداد وحرق بعص أقسامها الخارجية، وتلاه القصاص الذي أُنزل بسليماني والمهندس إلخ الخ..
وهذا هو السياق رقم 1، الذي يوضح تتابع الانحدار الى الحرب، والذي حمل العالم على حبس انفاسه. ليبدأ بعدها السياق رقم 2، حيث أبلغت إيران السفارة السويسرية في طهران - التي تقوم بمهام السفارة الامريكية – بنيتها الرد على اغتيال سليماني بضرب قواعد بعينها توجد فيها قوات أمريكية، ومنها "عين أسد".. التي يبدو انها أخليت من الأمريكان والعراقيين معاً، فلم تقع اي أصابات، وصار ترامب في حِلٍّ من الرد باعتبار أنه هدد بعظائم الامور إذا ما سال دم أمريكي.
العالم يتنفس الصعداء.
كانت واشنطن تتكلم باستعراضية عن ضرب 52 موقعاً داخل إيران (ومنها مراكز ثقافية "اضطر" ترامب لشملها في تهديداته، لأنه كا يريد التوصل الى عدد من الأهداف مطابق لعدد الرهائن الامريكيين الذين احتجزوا في سفارة بلدهم بطهران مع بدء الثورة الاسلامية في 1979 (!). وكانت طهران تتكلم عن محو إسرائيل من الوجود، وعن ضرب حيفا (بالله عليكم، فليخبرهم أحد أن حيفا مدينة عربية بالأساس، وحتى اليوم. ثم لماذا حيفا وليس تل أبيب؟). فإذا بالجهتين تكتفيان بهذا القدر. الايرانيين يقولون للامريكان إن لم تردوا على هذا الغارة نعتبر الامر ينتهي عند هذا الحد، وترامب يعلن أنه "لا بأس"!وقد لا يكون هذا الوضع الأخير حقيقياً، أو يكون مجرد مناورة وخبث متشارك. وقد يقع ما يعيد الامور الى المربع السابق، وقد لا.
وقد بدا اغتيال سليماني نفسه والصخب الذي أحاط بالحدث لأيام، والتشييع المليوني الذي تسبب بموت أكثر من خمسين شخصاً بسبب التدافع، بد كل ذلك بعيداً وكأنه جرى من زمن أو على المريخ! وحتى الأسطرة التي أحاطت بالجنرال بهتت بسرعة أكبر بكثير مما استغرقه وقت صناعة الرواية حوله، بما فيها اللقطات الفوتوغرافية له أسفل قلعة حلب أو في شوارع بغداد والنجف. هو ليس الموضوع إذاً، بل إعقال المصالح والصراعات والتسويات التي تخصها، والعقليات التي تسيّرها والروايات التي تغلفها، والتي تبدو كلها بالغة الضبابية والتشوش بمقدار ما هي بدائية فجة... ومنها ما يخص كل منطقتنا، وبالأخص البقاع الملتهبة فيها (في الوقت الحالي، والله أعلم بالغد!)، ليبيا واليمن وسوريا ولبنان.. وخصوصاً خصوصاً العراق، البلد المفتاح الذي يبدو بشكل جلي أن هناك توافق أمريكي- إيراني على التعامل معه كأرض خلاء، حلبة للمصارعة، بلا اعتبار لمصائره..
يتبع!