هل هذا الصراع المستعر تهويش؟ من يمكنه أن يطمئن الى بقائه كذلك، وأن يتكرر هنا السيناريو الذي طبع تهويشاً آخر، بدا في لحظة مهدِّداً للعالم كله بالدمار، أي ما وقع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وهي قوة نووية.
يمكن الاستفاضة في تعداد الفوارق بين الحالتين. فكوريا الشمالية تنعم بحماية الصين كابن قد يكون مزعجاً أحياناً ولكنه يبقى من الرحم، وهي تنعم ثانيا بجار – كوريا الجنوبية – كان عاقلاً في هذا السياق ودعا للتهدئة، بل وتوسط من أجل تحقيقها، على الرغم من ثارات الماضي وواقع أنهما في نهاية المطاف بلد واحد مشطور الى جزئين، مما يؤجج العداوات.
فإن قارنا لتذكرنا إسرائيل اولاً، وهي المحرّض الرئيسي على إيران كما كانت محرضاً مستميتاً على تدمير العراق. ولتذكرنا أن لإسرائيل مكانتها العليا في الولايات المتحدة ونفوذها وعلاقاتها وتأثيرها. وهو ما كان دوماً، وما أصبح اليوم منفلتاً من كل عقال. ولتذكرنا أيضاً أن الصين ومعها روسيا، انما صارتا غير ملتزمتان إلا بحسابات مصالحهما، وهي اليوم تتضمن بالتأكيد بنداً إيرانياً يخص النفط وتجارات مختلفة، وحسابات نفوذ استراتيجي متحقِّق (سوريا بالنسبة لروسيا)، أو مأمول ("طريق الحرير الجديد" بالنسبة للقوة الاقتصادية العالمية الاولى فعلياً، أي الصين)، لكنه بند قابل للتفاوض، وليس مبدئياً ويمكنه ألاّ يكون حيوياً. ولاستحضرنا جار إيران المجنون، بل جيرانها وخصوصا السعودية والامارات، اللتان تتصرفان كصبي أحمق في هذا المجال (وسواه!)، وتغيب عنهما كل الحقائق، وأولها أنهما – هما تحديداً - على مرمى مدفعية وصواريخ ميليشيا الحوثيين البائسة، فكيف بسلاح إيران..
الحال المرعب للعالم!
16-05-2019
لو وقعت الحرب، فستكون وبالاً على كل المنطقة، بغض النظر عن العواطف تجاه إيران وعن المواقف منها. وهذه جوانب فعلاً لا تهم حيال أمر جلل كهذا. وستكون وبالاً على اسرائيل ومعها، وفي العصف نفسه، على لبنان طبعاً الذي سيعود الى دمار أين منه ما جرى في 2006. وأما سوريا، فهي اصلاً أرض معركة لم تنهض بعد من دمارها.. وسينخرط العراق في المعمعة. فيا للمشهد المهول.
ولو وقعت الحرب فلا أحد يمكنه أن يتحكم بسيناريوهاتها. يخطط ترامب لضربات جوية محدودة؟ فماذا لو ردت ايران بشراسة، كيف ستكون حينها الخطوة التالية؟ ولاسيما أنه، وإن كان قد التزم عشية انتخابه بأنه لن يُدخل الولايات المتحدة في حروب (ميدانية، أي فيها جنود على الارض)، ولكن من المعروف أنه يوجد في إدارته صقور مختلين عقلياً من قبيل بولتون مستشاره للامن القومي، وبومبيو وزير خارجيته، لا يحلمون إلا بذلك. وقد سرّبت صحيفة نيويورك تايمز الاسبوع الماضي أن البنتاغون قدم مشروعاً للبيت الابيض لارسال 120 ألف جندي أمريكي للمنطقة (وليس ألفاً كما أعلن عقب الهجوم على الناقلتين في مضيق هرمز).
فهل تقع الحرب؟ تقول بعض التحليلات اليسارية انها اتجاه حتمي بفعل "مأزق" الطور الراهن من المنظومة الرأسمالية، وان الأمر كان دوماً على هذه الشاكلة ومحكوم بهذا القانون. ولعل المرء لم يتمنَ يوماً كما الآن أن يكون هؤلاء مخطئون. وأن يكون هناك سبيل لإبقاء الصراع تهويشاً، وأن تتمكن أوروبا، الكسولة والبليدة، من اقناع طهران بالصبر وتأجيل خروجها هي الأخرى من الاتفاق النووي الذي خرجت منه واشنطن العام الفائت، وهي اليوم تهدد برفع معدلات تخصيب اليورانيوم لديها ولو بشكل جزئي وبطيء، وقد بدأت بأولى خطوات تنفيذ ذلك، فيما البلدان الاوروبية عاجزة عن تقديم بدائل ولو جزئية عن العقوبات الامريكية القاسية.
... ما لا يفهمه الامريكان والاوروبيون والاسرائيليون ينتمي الى بُعدٍ يخص العقليات وليس المعطيات العقلانية: القيادة الايرانية يمكنها التضحية ليس بـ150 مدني قال ترامب انه خشي من مقتلهم لو نفذ ضربات كان قد قررها الاسبوع الماضي، وتراجع عنها لهذا السبب (كما ادعى).. بل بـ150 الفاً أو أكثر، قسم منهم برضاهم وآخرون لا يُسألون عن موافقتهم. وأن العقوبات والشح الناتج عنها ترهق البلاد ولا شك وتتسبب بالاستياء العام من نظام هو على ذلك بطّاش، لكن عقوبات 12 عاماً على العراق، لم تقضِ على نظام صدام حسين (الذي استمر بالتباهي وبالتحدي)، فاندفع الامريكان للغوص في وحل الحرب المباشِرة، ليحصدوا نتيجة من المؤكد انها مغايرة تماماً لما خططوا له، بعد مقتل 4400 جندي لهم هناك، واصابة مئات الآلاف.. وأن المجنون وحده لا يُقر بأن الحرب المشئومة تلك دعمت نفوذ ايران في المنطقة، وبلورت نشوء "داعش".. وأن هذه أجواء تؤجج العصبيات وتستنفر المشاعر القومية.
.. يومها تعنت بوش على الرغم من عشرات الملايين الذي تظاهروا في العالم كله مناهضين لوقوع تلك الحرب، ومطالبين بتجنبها. تعنّت وكذّب هو ومستشاريه ومسئوليه.. وكان العراق منهكاً أصلاً بسبب حرب عالمية وقعت عليه في 1991 وحصار مديد تلاها، وهو بلد اأصغر من إيران مساحة وبشراً بما لا يقاس، وحلفائه ومريديه كانوا قلائل وبلا حول ولا قوة. وليس هذا حال إيران اليوم..
وآخر الكلام أن التهويش قد يفلت من بين أيدي أصحابه ويتحول الى جدٍ، وساعتها يكون قد فات الاوان..