حملة "هدم" التجاوزات في العراق.. الشرارة التي لسعت الملايين

يرى العراقيون تجاوزات على أملاك الدولة، يقف خلفها ساسة وتنفيذيون كبار، يهيمنون على قصور قادة النظام السابق، وعلى مؤسسات تتبع الدولة، ومساحات أخرى واسعة يصعب حصرها. ذهاب الحكومة إلى هدم وتفكيك تجاوزات الفقراء دون المساس بالأقوياء، كان المحرك الأبرز لموجة الغضب الهائل الذي تسرب لاحقاً إلى احتجاجات الأول من تشرين الأول / أكتوبر.
2019-12-16

زاهر موسى

شاعر وإعلامي عراقي


شارك
| en
رائد شرف - لبنان

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

في التاسع عشر من شهر آب/أغسطس عام 2017، أقامت وزارة التخطيط العراقية "احتفالاً"، حضره في وقتها وزير التخطيط السابق سلمان الجميلي، بالإضافة إلى الأمين العام لمجلس الوزراء السابق مهدي العلاق، وكذلك ممثل مكتب شؤون اللاجئين في السفارة الأميركية، ومنسق الشؤون الإنسانية الأممي في العراق. هذا الاحتفال (كما وصفته الوزارة في بيانها الرسمي) لم يكن للإعلان عن تقليل نسبة الفقر في العراق، ولم يتمحور حول إنهاء بغداد لمديونيتها الخارجية. وفي الحقيقة، لم يكن هناك أي سبب للفرح والاحتفال. فالمناسبة كانت لإعلان أنّ 13 في المئة من سكان العراق يعيشون في العشوائيات! صحيح أن طبيعة الاحتفال غريبة، لكن هذا يعكس بوضوح طريقة تعامل الطبقة السياسية العراقية مع إحدى أكبر أزماتها، وهي مشكلة السكن. فهم يحتفلون فقط لأنهم باتوا يعرفون حجم الكارثة التي يعيشها الإنسان العراقي، على الرغم من أن معرفتهم تلك لن تغيّر الكثير.

تقترب سنة 2019 من نهايتها، ومعها يوشك ملف النازحين العراقيين جراء العمليات العسكرية إبان الحرب ضد داعش على الانتهاء، إذ اقترب عدد من غادروا منازلهم خلال السنوات الماضية من الخمسة ملايين مواطن، عادت غالبيتهم العظمى وبقي ما يقارب المليون منهم في مخيمات ينبغي غلقها بحلول نهاية هذا العام وفق تصورات الحكومة. لكن حركة نزوح جديدة ربما تبدأ قريباً، وهذه المرة لأسباب أخرى لا علاقة للحرب على الإرهاب بها.

توصيف العشوائيات بحسب التعريف الحكومي العراقي، يُقصد به المنازل أو الغرف المشيدة من الطين والصفائح أو حتى من الإسمنت على أراضٍ تابعة للدولة أو لأفراد بدون ترخيص، كما يشمل التعريف سكان مقرات الشركات والمصانع القديمة ومقرات سابقة للجيش العراقي وحزب البعث وأجهزة أمنية أخرى تم حلها عقب الغزو الأميركي للعراق.

ما الجديد في ملف العشوائيات؟

مطلع أيلول/ سبتمبر الحالي، وبسبب ضغط الكتل السياسية المطالبة عبد المهدي وحكومته بتنفيذ إجراءات "حقيقية" لمعالجة موضوع السكن العشوائي، أصدر رئيس الوزراء العراقي أمراً بإزالة التجاوزات على عقارات الدولة، استناداً إلى الدستور العراقي وإلى ثلاثة قوانين وأوامر مشابهة صدرت في أعوام 2001 و2008 و2017، ولم تنفذ.

يعتبر موضوع تجاوز المواطنين على عقارات الدولة لإنشاء مساكن ومصالح تجارية وصناعية وزراعية ومقار حزبية وأمنية (تتبع "الحشد الشعبي") أمراً خطيراً لجهة مساسه بمصالح وحقوق ما يقارب الأربعة ملايين عراقي يسكنون أو يعيشون على مواردها. وفي حال تنفيذ هذا الأمر بالطريقة القانونية المتعارف عليها (الهدم بالجرافات)، فيمكن أن ينشب عنف عاصف يصعب التنبؤ بنهايته.

بحسب التعريف الحكومي العراقي، يشير توصيف العشوائيات إلى المنازل أو الغرف المشيدة بدون ترخيص، من الطين والصفائح أو حتى من الإسمنت، على أراضٍ تابعة للدولة أو لأفراد، كما يشمل التعريف سكان مقرات الشركات والمصانع القديمة ومقرات سابقة للجيش العراقي وحزب البعث وأجهزة أمنية أخرى تمّ حلها عقب الغزو الأميركي للعراق.

خلال التجارب الانتخابية لاختيار السلطة التشريعية والحكومات المحلية في العراق، أعوام 2005 و2009 و2010 و2013 و2018، تلقّى المتجاوزون على عقارات الدولة وعوداً انتخابية كثيرة من قبل الساسة والأحزاب، تقضي بتمليكهم ما تجاوزوا عليه وتحويل وضعهم إلى شرعي، لكن هذه الوعود لم تدخل حيز التنفيذ يوماً بسبب المناكفات السياسية، بالإضافة إلى أنّ هناك من يربط الأمر بالتوازنات الطائفية والسياسية التي لا تقبل التغيير بالنسبة ل"الطائفة الحاكمة" (مصطلح صحافي متداول يشير إلى توافق ساسة السنة والشيعة والكرد من أجل مصالحهم).

تنفيذ بالتدريج

حملة إزالة التجاوزات على أراضي الدولة التي شرعت بها حكومة عبد المهدي بدأت مطلع العام الحالي، وباشرت أمانة بغداد أولاً وقبل الجميع بها، وقد كانت خطة إدارة العاصمة تقضي بتفكيك 10 تجاوزات أسبوعياً من أجل عدم تأجيج الأوضاع. ولطالما عوّلت السلطة في العراق على نسيان المواطن بسرعة للأحداث، وهذا ما جعلها دائماً تقوم بإجراءاتها ببطء وبتوقيتات متباعدة.

استهدفت الحملة أولاً محلات الفقراء التجارية وبدأت تتوسع لتهدم في شهر تموز /يوليو الماضي وحده 3968 تجاوزاً، تضمنت دوراً سكنية مسكونة وأخرى في طور البناء، بالإضافة إلى الأكشاك والمسقفات غير القانونية والتي يعتاش المواطنون على الواردات اليومية للبيع من خلالها، كما تضمنت حظائر لبيع الحيوانات، ومواقع لغسل السيارات.

لاحقاً، ذهبت الحملة إلى المحافظات الجنوبية، بدءاً من البصرة وكربلاء. ولإتمام الأمر، شكلت الحكومة فريق عمل أسمته "قوة الصدمة"، كما أنها فعّلت جهازاً إدارياً اسمه "خلية المتابعة"، لغرض إسناد الحكومات المحلية في رفع التجاوزات. لكن الاحتقان كان يتصاعد بصمت مؤقت من جانب الناس.

في البصرة، يعيش سكان المدينة "الأصلاء" (كما يصفون أنفسهم في مواقع التواصل) نوستالجيا تستذكر مدينتهم قبل فورة العشوائيات والكثافة السكانية المطردة بعد 2003. وهؤلاء كانوا أكثر المؤيدين لحملة رفع التجاوزات التي تطال ضمناً الوافدين من محافظات أخرى. يعتقد "الأصلاء" أنّ الوافدين يزاحمونهم على بحبوحة السكن وفرص العمل والموازنة الاتحادية، وحتى الماء والغذاء. هذه المزاحمة دعتهم إلى تأييد الحملة إلى حد التغني بالجرافة التي تهدم مساكن "الوافدين" ومصالحهم، لون الجرافة الأصفر أصبح محل تغزل بها وباتت تسمية "الأصفر مَلِك الساحة"، مساحة للتفاؤل في مواقع التواصل الاجتماعي.

استهدفت الحملة التي بدأت في بغداد محلات الفقراء التجارية، وبدأت تتوسع لتهدم في شهر تموز/ يوليو الماضي لوحده 3968 تجاوزاً، تضمنت دوراً سكنية مسكونة وأخرى في طور البناء، بالإضافة إلى الأكشاك والمسقفات غير القانونية التي يعتاش المواطنون على الواردات اليومية للبيع من خلالها، كما تضمنت حظائر لبيع الحيوانات، ومواقع لغسل السيارات.

في كربلاء، لم يكن الأمر يختلف كثيراً، فهناك "أصلاء" وهناك "وافدون"! قام الفريق الثاني بتخريب مظهر المدينة المقدسة التي لا ينتمي لها تاريخياً بحسب الفريق الأول. هذه المشاعر الحانقة والغاضبة مثلّت بداية لموجة عنصرية وتنمّر واسعة في جنوب العراق، لكن الشرارة في كربلاء كانت أسرعَ في إيقاد الحريق، لتندلع احتجاجات مسائية عاصفة من قبل سكان العشوائيات، لم يوقفها غير قرار الحكومة المحلية تأجيل إكمال الحملة حتى إشعار آخر.

بدأ الساسة متأخرين (كالعادة) في تلمّس حجم الامتعاض والغضب الشعبي من حملة رفع التجاوزات. العراقيون وبمسح بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، يؤمنون بالقانون، وليست لدى غالبيتهم الرغبة في السكن والعمل بشكل غير شرعي. لكنهم في الوقت نفسه يرون تجاوزاتٍ على أموال وأملاك الدولة بعيداً عن مسار الجرافات. وتلك التجاوزات، يقف خلفها ساسة وتنفيذيون كبار، وهي تهيمن على قصور قادة النظام السابق، وعلى مؤسسات تتبع الدولة، ومساحات أخرى واسعة يصعب حصرها. ذهاب الحكومة نحو هدم وتفكيك تجاوزات الفقراء على أراضي وأملاك الدولة دون المساس بالأقوياء، كان المحرك الأبرز لموجة الانتقادات الواسعة والغضب الهائل الذي تسرب لاحقاً إلى احتجاجات الأول من تشرين الأول/ أكتوبر.

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه