في كيف أديرت عملية النهب والافتراس في لبنان

كان الناس يعرفون أن أركان السلطة ينهبون المال العام، وسكتوا هم كذلك عن هذا الأمر، مكتفين بالسخرية والتندّر والاحتقار. أما اليوم، فما صعقهم، وأكمل انفكاكهم عنها – وتسبب بالتالي بالاخلال بنظام الطائفية السياسية - هو هندسة السطو على مالهم الخاص!
2019-12-07

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

نبدأ بالقول إن حركة الاحتجاج والانتفاض الواسعة في لبنان، قد كانت رداً مشروعاً وضرورياً على ما انكشف من تخلٍّ تام للسلطة القائمة عن المجتمع، ومن انشغالها فحسب بتنظيم عملية نهب هائلة للمال العام، كان أركانها جميعهم متواطئين عليه.. بعضهم كشريك مباشر وفعّال في الغنيمة، وبعضهم الآخر، قد لا يكون لحصةٍ من السرقة المباشرة – ما لا يمنع الانتفاع لخدمة بيئة بعينها الخ – وإنما لأسباب تخص صون مصالحه في مجالات أخرى، فيسكت إرضاء لحلفاء أو رشوة لخصوم.

وكان الناس يعرفون أن المال العام منهوب، وسكتوا هم كذلك عن هذا الأمر (إلا قلّة، عُدُّوا طوباويين ومزعجين) أو أنهم اعتبروه شأناً ثانوياً يستحق السخرية والاحتقار ليس إلا. كان انحطاط الطبقة الحاكمة يثير الاشمئزاز، فساد التندّر على السلطة بكل رموزها، وصار نوعاً من الانفكاك عنها، وهو قطع شوطاً طويلاً بين اللبنانيين، وتمظهر مثلاً في انخفاض فعالية الاستنفار الطائفي الذي كان حتى قبل سنوات قليلة وسيلة سهلة للاستقطاب ولتأطير المجتمع، وعدم اندفاع الناس للتصويت في الانتخابات العامة، النيابية والبلدية، والاستخفاف بالفراغ الحكومي، إلى آخر العلامات التي اشتدّت في السنوات الأخيرة.

واللبنانيون اعتادوا عدم توقع أي شيء من الدولة، ولذا فهم انصرفوا إلى ترتيب شؤون حياتهم بشكل ظنّوه مستقلاً عنها: في التعليم والصحة والتنقل وسائر الخدمات.. يشتركون بالمولدات الكهربائية الخاصة في الأحياء، ويطلبون حاويات المياه الصالحة للشرب تنقلها لهم شاحنات خاصة فتملأ خزانات البنايات، بينما تدور شركات خاصة على البيوت لتوفير العبوات لساكنيها لو كانوا من المحظوظين.. كانت سمة "تدبر الحال" التي اشتهر بها أبناء هذا البلد قد عوَّدتهم على هذا الواقع. وكان رديف هذه السمة هو التزلف لدى الزعماء – "الواسطة" - حتى لإدخال طفل إلى مدرسة مُكْلِفة (تسألك إدارتها بكل صلف عمن هو واسطتك)، ناهيك بالمدارس الرسمية، بينما يتحول الاستشفاء، لمن لم يتمكن من توفير نظام تأمينه الصحي الخاص، إلى مذلة. وهكذا الحال في الوظائف العامة والخاصة من أصغرها إلى أكبرها. كان اللبنانيون راضين ويعتبرون ذلك "عادياً"، يدْعون بالسر على اليد التي قبّلوها بالكسر.. لكنهم يقبِّلونها وقد "تتمسحت" أحاسيسهم، وقالوا لأنفسهم، وأمام سواهم أن الجميع يفعل ما يفعلون. وكان الزعماء يعرفون أن تزلفهم ليس ولاء، وأنهم مكروهون. فصارت الممارسة تكاذباً متبادَلاً، واستمراراً لتنظيم معين يوفر التأطير التقليدي، الطوائفي -المناطقي للمجتمع، إلا أنه غدا هشاً.

سكت أغلب اللبنانيين عن كل اعوجاجات ونواقص الشأن العام، وتأقلموا مع سوئه، ولم يعتبروا أن الاحتجاج الفعال عليه يستحق العناء... وفي هذا، فهم تمادوا في نوع من الاستهتار ببلدهم، بعضهم لأنه كان يتدبر أمره، ويلعن في الوقت نفسه الواقع ويشمئز منه، وأكثريتهم لأنها كانت مغلوبة على أمرها، وتكتفي بالفتات وتنشغل بالسعي لالتقاطه.. وإن وقعت اجتجاجات فقد كان تبديدها واستيعابها سهلاً.

أما اليوم، فما صعقهم هو هندسة السطو على المال الخاص! فجأة اكتشفوا أن سطو أركان السلطة على المال العام إلى حد إفلاس الدولة وتراكم ديونها التي وصلت إلى مستويات مهولة، ينعكس مباشرة على مالهم الخاص. مُنِعوا من التصرف به، إلا بحدود بالغة الضيق، وتكاد لا تكفي لسد الرمق والوفاء بالحاجات الأساسية. احتجزت البنوك ما لديها من أموال مودعة تخص حوالي 3 ملايين لبناني يتوزعون على "طبقات"، 92 في المئة منهم عاديون، أي أن سقف ودائع أعلاهم ثراء لا يجاوز مئة ألف دولار، (أغلبهم طبعاً يمتلك أقل من ذلك بكثير)، بينما حوالي 8 في المئة هم من أصحاب الملايين و0,02 في المئة من المليارديرية. وهناك ظنون شديدة لا ترقى إلى الدلائل القاطعة (حتى الآن!) بأن أغلب – إن لم يكن كل - أصحاب الملايين والمليارات قد تمكنوا من إخراج أموالهم من لبنان قبل "الأزمة"، بينما تبرر جمعية المصارف تدابيرها الشديدة، من منع السحوبات بالدولار للأموال المودعة في البنوك، ومنع التحويلات إلى الخارج (من دون أن تعلن أنها تطبق ما يقال له Capital control)، تبررها بحجة منع خروج الرساميل من البلد، وهي رساميل كانت قد سلّفتها للبنك المركزي، الذي موّل الدولة التي بددتها أو سرقها أركانها.. أي أنها غير موجودة!

تلك كانت آلية النهب التي تحولت إلى افتراس لمدخرات الشعب اللبناني، وتعطيل لأعمال تجاره وحِرفيِّيه ومِهنيِّيه. الأعمال في البلد تسير ببطء شديد، يتأثر به الأفقر الذين يزدادون فقراً إلى حد الجوع بالمعنى الحرفي للكلمة، وأبناء شرائح الطبقة المتوسطة الذين يرون شروط حياتهم تسوء. وبس!

.. هذا بينما ارتفعت قيمة الدين العام إلى 85 مليار دولار.. وهو يواجه استحقاقات متتالية وقريبة من غير المعلوم كيف سيتم الوفاء بها، لو قررت الجهات المُقرِضة أنها لن تؤجل منها شيئاً.. ولو قرر مخطط "سيدر" أنه لن يفرج عن القروض والاستثمارات التي تقدر بحوالي 11 مليار دولار، لأنه لم يتحقق شيء مما مُوِّل من قبل أسلافه، مؤتمرات باريس 1 و2 و 3: لا كهرباء ولا مياه ولا نقل ولا أي من البنى التحتية. لا شيء بتاتاً! وهنا، فهؤلاء الخواجات متواطئون كذلك مع الفساد في الدولة اللبنانية الذي لمسوه وعاينوه طوال هذه السنين، منذ انطلاق هذه المؤتمرات والتمويلات المصاحبة لها، التي يعرفون تماماً أنها صُرفت في غير ما وُضعت له، وسكتوا مديداً وأجلّوا أية محاسبة، باعتبار "حساسية" وضع لبنان، وكلٌّ يفسر هذه الحساسية على هوى مخاوفه أو أغراضه. أما الدولة اللبنانية فقد اعتمدت في سلوكها على قاعدة أنها "تُنقَذ" دوماً في اللحظة الأخيرة، بفضل رعاية تلك الدول الغربية، وبفضل بعض الودائع التي كانت توفرها دول خليجية للبنان دعماً لنفوذ جماعاتها.

كل هذا يندرج في باب السياسة؟ لا! فالسياسة قد تكون جانباً من الموضوع. قد يكون هناك مخطط أمريكي للضغط على لبنان كوسيلة لتأليب الناس على حزب الله، ولدفع الأطراف السياسية الأخرى إلى كسر معادلة التعايش معه التي تعززت بعد 2006، أي بعد فشل توظيف الخروج السوري من لبنان ضده، وفشل العدوان الإسرائيلي في اجتثاثه، وبعد قراره هو بالتحول إلى طرف من أطراف قوى السلطة. لكن الاكتفاء بهذا الجانب من المسألة، ومَدَّهُ فوق كل مساحة الكارثة التي يعيشها لبنان هو نوع من التبسيط. وهو للمفارقة الغريبة ما يتمسك به حزب الله نفسه، فيقول إن الاحتجاجات مشبوهة ومن صنع الأمريكان! أي أنه لا يرى إلا ما يخصه، ويعتبر أن الأمر يبدأ وينتهي عنده.

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...