تُعربد (*) السلطات الحاكمة في بلداننا. لم تعد تلك السلطات دولاً ولا حتى أنظمة. بل هي في معظمها مافيات تَشكّلت حول الاستحواذ على السلطة. وهذه واحدة من السمات الجديدة للدولة اليوم... وهكذا فلم يعد الأمر مقتصراً على ما كان يسمى "جمهوريات الموز".
الجريمة الموصوفة المتمثلة بنهب خزينة الدولة في لبنان، ومعها إيداعات المدَّخِرين الموضوعة في البنوك، بعدما استلفها البنك المركزي منها لقاء إغراء المواطنين بالفوائد العالية، ثم سلّفها للـ"دولة"، فنهبها رجالاتها بأشكال مختلفة، "مشروعة" (عبر مشاريع لا ترى النور، أو عبر مصروفات تكلف عشرات أضعاف كلفتها الحقيقية، أو عبر قرارات تبذيرية مفضوحة، وكلها يرافقها "المعلوم")، وغير مشروعة تكاد تكون بلا تغطيات أو مبررات ولو شكلية: هو الافتراس!
يجد اللبنانيون، من أبناء الطبقة الوسطى بكل درجاتها، أنفسهم في العراء. يسْتجْدون البنوك أن تعطيهم بعضاً من أموالهم هم لتوفير مستلزمات الحياة. يكتبون العرائض لإداراتها الخفية ويشرحون حاجاتهم، ويرفقون بها الوثائق المثبتة. تقرر جمعية المصارف المسموحَ لهم بتحصيله من أموالهم المودعة في صناديقها. ولو تعرضت البنوك لضغط من الناس الهلعين، تقفل أبوابها. وهي أفرغت آلات السحب الأوتوماتيكي من الدولار بينما يلمح الموظفون – الهلعون هم أنفسهم – بأن البطاقات نفسها قد توقفت عن العمل. ثم يصرفون الدولار الذي قاموا بكل شيء لجعله العملة المتداولة في البلد، حتى في التحصيل الرسمي للرسوم، يصرفونه بالسعر "القديم" الأخفض من السعر المتداول بالسوق بنسبة الثلث (وغداً سيكون بنسبة النصف"، ثم فالله أعلم). تحكى روايات عن الفخ – الأفخاخ – التي ينصبها المصرف المركزي للبنوك أو للصيارفة، وبالعكس، وعن ترتيبات معقدة يخرج منها قلائل رابحين فيما يتعرض الآخرون للدمار.
وأما الفئات الدنيا فمصيبتها كالعادة أكبر، حيث درجت موضة الـ"نصف معاش"، بل وحتى الصرف من العمل لعجز أربابه عن سداد الأجور، ولأنهم هم أصلاً متعطلون. فكيف يستورد التجار بضائعهم، كيف ينجز المتعهدون أشغالهم طالما الدولار مقنّن، وطالما فتحُ اعتمادات وإجراء تحويلات إلى الخارج ملغيان؟ يقولون: لمنع هروب الأموال.. والمقصود أموال الناس العاديين. فالسادة هرّبوا أموالهم من زمان. والشائعات عن أن عملية التهريب مازالت مستمرة تطالهم جميعهم من دون استثناء.
ثم تطالعك في البنوك شاشات عملاقة تبشّر بـ"الزراعة ليأكل اللبناني من أرضه"، وتبشر بـ"التقشف واستهلاك الضروري" فحسب! يا لشطارة الموظفين المكلفين بالخطاب، الحاصلين على شهادات MBA وقد سدد أهاليهم أقساطاً باهظة لتأمين "الاختصاص" وبعده وظيفة لائقة.. أقساط تتجاوز كلفة الدراسة في كليات الطب والهندسة. يعلّمونهم في تلك الماسترز "الحجة": ليس المنطق ولا الاقتصاد ولا السوسيولوجيا، بل كيف ينتِج واحدهم حجة مقنعة ثم نقيضها.. بحسب الحاجة.
وأصحاب السلطة، أين هم؟ هذا استقال وذاك غائب عن الوعي وثالث يهدد ويتوعد ورابع يتنزه بين المؤتمرات في الخارج وكأن البلد بألف خير (وقد أُطلقت عليه مؤخراً من قبل بعض المسؤولين الدوليين صفة المهرج: قيل clownish).. وهكذا.
لبنان: اللعنة عليكم!
19-09-2019
الحركة الاحتجاجية العارمة تدينهم جميعاً. انفكّت عنهم، وراحت تسخر منهم: "كلُن يعني كلُن". بعضهم عالي الأدلجة لا يرضى بهذه "الفوضى"، وطالب مراراً بإلغاء شعار "كلن" (كلهم). بعضهم لا يقبل أن يتعرض للشتم، أو حتى للنقد، فيُنزِل ميليشياته لتضرب المتظاهرين والمعتصمين بالعصي، وتمزق خيامهم وتحرقها. هذا سلوك كررته ميليشيات حركة أمل وحزب الله. وأما الجهة الأولى فلم تفاجِئ الناس، وأما الثانية فقد أصابت بالصميم من كان لايزال يُكِنُّ لها بعض الاحترام لاعتبارات كثيرة. حزن عميق وانكسار نفوس، وقرف. خسارات مجانية.. ثم ما معنى هتاف "شيعة، شيعة" في أي مكان أصلاً. ماذا يقول؟ وما معناه في صور أو النبطية تحديداً، المدينتان اللتان قاسيتا من العدوانات الإسرائيلية الأمرّين، ومنحتا المقاومة، بكل فصائلها، مقاتليها وشهدائها منذ ما قبل ولادة حزب الله وحتى اليوم؟ يا للعيب. أن يكون حزب الله ضد هذا الاحتجاج مصيبة بذاتها، تُنهي بشكل جلي فصلاً من تاريخه وسيرته والرهانات التي قد تكون أحاطت به، فكيف أن يقمعه عملياً حين لا تروق له أشكاله وشعاراته وأماكن انفجاره...
ولأن هذا الانتفاض المهول قد ولّد جواً من الحضور الحرّ في الشارع، فقد بدأت تنظيمات وقوى وأجهزة تحاول استغلاله لأغراضها. وهذه عربدة أخرى ولكنها مفضوحة، ولا تبرر الدعوة إلى الانكفاء عن الساحات لتجفيف الزعران أو المتآمرين. بل هو صراع يجب أن يُخاض بسلمية، مع الحزم لجهة فضح هؤلاء المتلاعبين أو الساعين لاستغلال اللحظة، لأغراض صغيرة أحياناً. وللعلم، فهؤلاء أيضاً خاسرون، لأن العبث مكشوف ويؤدي إلى نتائج عكسية.
يا لبنان!
25-10-2019
وهذه كلها علامات على الحاجة لتحويل الانتفاضة إلى قوة مادية تعلن عن أهدافها المشتركة وإن بالحدود الدنيا، المستخلصة من عملية التوافق عليها، والملموسة. يعني: التي تمثل تصوراً بديلاً وقابلاً للتنفيذ للخروج من الوضع الراهن البائس. وهذا كله لا يُولد تلقائياً ولا بإلهام عبقري ولا بمعجزة تهبط من السماء. وكل تأخر في إنجازه إجرامٌ فعلاً لأنه يهدر فرصة الحصول على تغييرات أساسية أو يبدد القدرة على منع وقوع مزيد من الكوارث. وكل عوائق تُعطِّل ذلك لانتمائها إلى عالم الذاتيات المتضخمة، إجرامٌ هو الآخر: لا يوجد مُنقذ واحد، ولا منقذٌ أكثر من سواه، ولا بد من الاشتغال وبسرعة على ذلك التوافق. ومن لا يفعل، فهو من طينة الطبقة البائدة، لأن المعيار الرئيسي اليوم هو الانتماء إلى المصلحة العامة.. وحسب.
***
والعربدة لا تقتصر بالطبع على لبنان. فتوأم انتفاضة الشعب اللبناني اليوم موجود في العراق، كما في الجزائر، وربما يكون غداً في سواهما، فشعوب منطقتنا حية وولاّدة. وأما الجزائر فتنتظر ما سيأول إليه الموقف بعد يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر المعيّن لإجراء انتخابات رئاسية قد تلاقي مقاطعة هائلة تنسف شرعيتها.
وأما العراق فكربلاء حقيقية. وقد استشرس عادل عبد المهدي بعدما كان على وشك الاستقالة إذ جاء إلى النجف قاسم سليماني، الجنرال الإيراني و"قائد فيلق القدس" الموكل بالمنطقة العربية.. حضر منذ ما يقرب من الشهر، وفي عز الانتفاضة، ليهدئ مقتدى الصدر ويصحبه معه إلى إيران. بعد ذلك انفلت القتل أكثر في العراق، وانفلتت الميليشيات المقربة من إيران تقنص وتقتل وتخطف، ولعلها تظن أنها بذا تخمد الانتفاضة وتردع أبناءها.. أو تطلق شرارة اقتتال أهلي دموي في هذا البلد المدجج بالسلاح وبالعشائر، فتضيع مسائل النهب والفساد والتسلطوسط أجواء لا ضابط لها.
ولكن العربدة الأخرى التي تخص العراق تتعلق بالموقف الذي يقال له "دولي". فهناك تعتيم على المجزرة الجارية هناك منذ شهرين. حتى الصحف العالمية لا تكتب، وإن كتبتْ فببرود. ويقول العراقيون العارفون أن سبب ذلك ليس سياسياً كما افترض الآخرون، أي أن يكون محاباة لإيران وسلوكها الإجرامي في العراق مقابل أهداف أخرى مطلوبة منها أو مأمولة.. وإنما هو طمع بالاستثمارات التي تملكها الدول الغربية في أرض الرافدين (وحتى اليابان، على أساس أنه لا يتوقع لا من الصين ولا من روسيا- وهما موجودتان أيضاً- الغضبَ لانتهاك حقوق الإنسان في أي مكان). تلك الدول "المحترمة" شريكة في نهب العراق، البلد بالغ الثراء الذي يتضور أهله من الجوع. وهي لا تريد لشروط ممارستها لهذا النهب أن تتغير، و"مرتاحة" في تعاملها مع عادل عبد المهدي. ولذا فلا يهمها أن يُقتل المئات ويُجرح الألوف ويموت من البؤس والنكد من لم يمت بالرصاص.
ألم نقل لكم أن المافيات تحكم العالم؟ ليس من وراء الستار، وليس بتقاسم العمل مع السلطة السياسية. إنما المافيات صارت هي تلك السلطة!
(*) ومن العربدة أن يصادف اليوم، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، انقضاء العام الرابع على اعتقال زميلنا الصحافي والباحث إسماعيل الاسكندراني في مصر، لا لشيء إلا لملامته على القيام بعمله البحثي والإعلامي.