انتخابات تونس 2019: "صندوق العجب"..

لم يقدم قيس سعيّد، الفائز بالرئاسة في تونس، وعوداً انتخابية أو برامج مفصلة تستند إلى صلاحياته كرئيس جمهورية، وإنما طرح بدلاً عن هذا تصوراً مغايراً للنظام السياسي الحالي. فهو يؤمن بالديمقراطية اللامركزية والمباشِرة التي تبدأ من المحلي وصولاً إلى المستوى الوطني.
2019-11-04

شارك
الشعيبية طلال - المغرب

ما كان في صناديق الاقتراع، هو حصيلة ماراثون انتخابي استمر لمدة شهر، توجه فيه التونسيون إلى مراكز التصويت ثلاث مرات حسب ما أملته روزنامة انتخابية بهلوانية. فلقد كان المفترض أن يتم تنظيم التشريعيات يوم 6 تشرين الأول / أكتوبر، والرئاسيات يوم 10 تشرين الثاني/ نوفمبر، كما أعلنت عن ذلك "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في آذار/ مارس الفائت. لكن موافاة الأجل المحتوم للرئيس السابق، الباجي قائد السبسي، حتّم على الهيئة تعديل الآجال. تمّ تقديم الانتخابات الرئاسية على التشريعيات التي بقي موعدها على حاله. وخلق هذا التغيير إشكالات سياسية وقانونية وتقنية. فالقوى السياسية الكبيرة والمعنية بالحكم، خاصة حركة النهضة، كانت تفضل أن تزن نفسها في البرلمان أولاً، وبعد ظهور النتائج، وما تفرزه من قوى وملامح، تختار من ستراهن عليه في الرئاسية. حصل العكس، فنتائج الدور الأول من الرئاسيات كان لها تأثير جلي على التشريعيات، فحاولت بعض هذه القوى تخفيف الأضرار بترحيل الدور الثاني للرئاسيات إلى ما بعد التشريعيات، وذلك عبر اللجوء إلى آلية الطعن في النتائج. أغلبية الطعون كانت خالية من المعنى، لكن هذه "الحيلة" نجحت وتم تحديد موعد الدور الثاني يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر أي بعد أسبوع من التشريعيات.

انتهى الماراثون، وظهرت النتائج حاملة معها مفاجآت من العيار الثقيل. انتخابات مختلفة تماماً عن 2014 عندما كانت النتائج شبه معلومة ومحسومة سلفاً. هذه المرة كانت الأجواء أكثر "تشويقاً" و"حركية" وكأن صندوق الاقتراع أصبح "صندوق العجب"، علبة "السينما المتجولة" التي كانت تبهر الصغار والكبار المتعطشين للصور والمفاجآت والفرجة.

الدور الأول من الرئاسيات: "اللطخة"..

أبرز توصيف أبدعه التونسيون عقب إعلان نتائج الدور الأول هو "اللطخة"، أو الضربة الصادمة بالعامية التونسية. أولى "الصدمات" كانت نسبة المشاركة في التصويت، والتي وصلت بالكاد إلى 45 في المئة. هذا العزوف (أو المقاطعة كما يراها البعض) لم يكن مفاجئاً إلى هذا الحد، فنسب التصويت في الانتخابات البلدية 2018 كانت متدنية، وحالة الإحباط التي يعيشها التونسيون بسبب ضعف أداء الطبقة السياسية لا تخفى على أحد. بعد كل هذه التفاصيل، فالصدمة الكبرى تمثلت في هوية المرشحين الذين احتلوا المراتب الأولى.

الحاصل على المرتبة الأولى، قيس سعيِّد، أكاديمي متقاعد مختص بالقانون الدستوري، لا ينتمي إلى أي حزب ولم يسبق له أن تولى أي منصب سياسي. لم يكن أحد يعرفه قبل الثورة. وبعدها، ظهر في عدة مناسبات على شاشات التلفزيون وفي الإذاعات لتقديم رأيه واستشاراته كخبير في القانون الدستوري. لم يقم قيس سعيّد بحملة انتخابية تقليدية، وبالكاد ظهر في الإعلام، ولم تسانده أية جهة حزبية أو من المجتمع المدني. واكتُشف فيما بعد أن هناك آلاف المتطوعين من الشباب تكفلوا بالترويج للرجل بموارد مادية ذاتية محدودة للغاية، مستخدمين بشكل مبهر إمكانات التواصل، والتأثير التي تتيحها صفحات ومجموعات الفيسبوك. ولم يقدم سعيّد وعوداً انتخابية أو برامج مفصلة لها علاقة بصلاحياته كرئيس جمهورية، وإنما طرح بدلاً عن هذا تصوراً مغايراً للنظام السياسي الحالي. فهو يؤمن بالديمقراطية اللامركزية والمباشرة التي تبدأ من المحلي وصولاً إلى المستوى الوطني. أي أن القرار ينطلق من مجالس محلية ينتخبها الناس في أحيائهم وقراهم، ثم يقوم الفائزون باختيار أعضاء المجالس الجهوية، الذين سيختارون بدورهم أعضاء المجلس التشريعي الوطني، ويبقى للمواطنين حق سحب التوكيل من الممثلين إذا ما أخفقوا في مهامهم، أو تورطوا في الفساد وسوء استعمال السلطة. ويدعو سعيد إلى إلغاء الانتخابات النيابية، أساس الديمقراطية التمثيلية التقليدية، ويعتبر أن عصر الأحزاب قد ولّى، لكنه لا يدعو إلى حلّها أو منعها من العمل. وقد يرى البعض أن هذا الطرح ثوري لأنه يغير طبيعة النظام السياسي، لكنه، وعلى الرغم من كل شيء، لا يمس كثيراً مسائل نمط الإنتاج الاقتصادي وتوزيع الثروات. على المستوى الاجتماعي، يبدو سعيّد شبيهاً بالمواطن التونسي "العادي": محافظاً ومنفتحاً في آن واحد. فهو مثلاً يعتبر أن المساواة في الإرث تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وأن المثلية الجنسية تتناقض مع قيم وأخلاقيات المجتمع، لكنه يتعهد بالحفاظ على القوانين والحقوق التي اكتسبتها المرأة التونسية، بل وبتفعيلها.

هناك آلاف المتطوعين من الشباب تكفلوا بالترويج لقيس سعيّد بموارد مادية ذاتية محدودة للغاية، مستخدمين بشكل مبهر إمكانات التواصل والتأثير التي تتيحها صفحات ومجموعات الفيسبوك.

أما الحاصل على المرتبة الثانية، نبيل القروي، فهو ملياردير جمع ثروته من مؤسسات الإعلام والاتصال والإعلان. هو أيضاً لم يظهر مباشرة خلال فترة الحملة الانتخابية، ليس تعففاً، بل لأنه أُوقِف وأُودع السجن قبل أيام من انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية، على خلفية قضايا تهرب ضريبي وتبييض أموال. لكن هذا لا يعني أنه لم يقم بحملته الانتخابية، بل هو بدأها منذ سنوات. فالرجل مساهم رئيسي في قناة "نسمة" الخاصة، ويظهر فيها بشكل شبه يومي للتعريف بأنشطة جمعيته "الخيرية" التي تجمع المساعدات وتقدمها للفقراء. ونبيل القروي ليس غريباً عن عالم السياسة، فقد كان من المساندين لنظام بن علي، ثم سوق نفسه كحداثي وتقدمي معاد للظلامية بعد وصول حركة النهضة إلى الحكم في 2011، ثم كان عنصراً أساسياً في "اتفاق الشيخين"، راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، أواخر سنة 2013 الذي أدى إلى تهدئة الأوضاع في تونس بعد موجة من العنف والاغتيالات السياسية. كما أنه كان أحد صناع فوز الباجي قائد السبسي وحزبه "نداء تونس" في رئاسيات وتشريعيات 2014. وعندما قرر الترشح إلى انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والنيابي فإنه لم يجد صعوبة في تكوين حزب "قلب تونس" في ظرف أيام قليلة، وكأنه ينشئ مؤسسة أو يفتتح محلاً تجارياً! وهو لم يطرح برنامجاً انتخابياً واضحاً ومتلائماً مع صلاحيات رئيس الجمهورية كما يوضحها الدستور، ولم يقدم تصوراً جديداً للنظام السياسي. قدم فقط وعوداً ضبابية أغلبها موجه للطبقات الأكثر فقراً، وقليل منها لفئة الشباب ورجال الأعمال.

المراتب الثالثة والرابعة والخامسة كانت من نصيب شخصيات وأحزاب كان يفترض أن لديها الامكانيات والقوة اللازمة للحصول على المرتبة الأولى أو الثانية. فمرشح الإسلاميين، رئيس مجلس النواب المنتهية عهدته، عبد الفتاح مورو حل ثالثاً. في حين حصل وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، الذي كان مقرباً من الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي واعتبره المراقبون مرشح "النظام"، على المرتبة الرابعة. أما يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الحالي ومرشح حزب "تحيا تونس"، فحلَّ خامساً.

بقية قائمة العشر الأوائل كانت غنية بالمفاجآت أيضاً، وسجلت حضور شخصيات "إشكالية" حادة الخطاب والطباع، وبعضها لا يعرفه الجمهور العريض كثيراً. فلقد حل الكاتب والصحافي صافي سعيد، المحسوب على العروبيين، والمعروف بطرافة خطابه ولكنته الخليط بين العامية التونسية واللهجات المشرقية، في المرتبة السادسة. في حين حل لطفي المرايحي، وهو طبيب وكاتب عرف بمواقفه المحافظة والتقليدية (وأحياناً الغريبة) في مسائل حقوق المرأة والطفل، في المرتبة السابعة. أما عبير موسي، المحامية المعروفة بتمجيدها لعهد بن علي وعدائها الشديد للإسلاميين ومهاجمتها المستمرة لانتفاضة 2011، فلقد حصلت على المرتبة الثامنة. وجاء بعدها في المرتبة التاسعة سيف الدين مخلوف، المحامي الشاب المعروف بدفاعه عن المتورطين في قضايا الإرهاب وعن المدارس القرآنية المتشددة، والذي خاض هذه الحملة كتحضير لحملات رئاسية قادمة وكمنصة لكسب شعبية بخطاب هو مزيج من الأدبيات الإسلاموية واليسارية، مصوراً نفسه كمدافع عن الإسلام والسيادة الوطنية والموارد الطبيعية. وربما كان محمد عبو مرشح حزب "التيار الديمقراطي" الذي حل عاشراً هو أحد المظلومين في الدور الأول، فاستطلاعات الرأي كانت تضعه في المراتب الخمس الأولى بنوايا تصويت في حدود 8 أو 9 في المئة، لكن الصناديق لم تمنحه إلا 4 في المئة من الأصوات، وقد يكون السبب هو مواقفه التقدمية في مسائل الحريات والمساواة بين الجنسين.

بقية المرشحين، ومن بينهم وزراء سابقون وقياديون نقابيون ومعارضون معروفون، حصلوا على نتائج هزيلة لم يتجاوز أفضلها 2 في المئة من الأصوات. ولعل أبرز الخاسرين هو اليسار الذي تقدم بثلاثة مرشحين حصل كل واحد منهم على صفر وكسور، بعد أن حل مرشح اليسار الموحد ثالثاً في رئاسيات 2014 مسجلاً وقتها 7.5 في المئة من الأصوات.

كان المرشح الثاني، نبيل القروي، عنصراً أساسياً في "اتفاق الشيخين"، راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، أواخر سنة 2013 الذي أدى إلى تهدئة الأوضاع في تونس بعد موجة من العنف والاغتيالات السياسية. كما أنه كان أحد صناع فوز الباجي قائد السبسي وحزبه، "نداء تونس"، في رئاسيات وتشريعيات 2014.

نتائج هذا الدور الأول حيّرت جزءاً كبيراً من النخب التونسية - السياسية والثقافية والاقتصادية - التي لم تخفِ امتعاضها وحتى غضبها من المنحى الذي أخذه التصويت. وربما هي لا تريد أن تفهم أو تعترف بكونها تتحمل جزءاً من المسؤولية في هذه النتائج، فهي التي تسيطر على وسائل الإعلام وتحدد محاور النقاش العام وتفرض أولوياتها كقضايا رئيسية حتى وإن لم تكن تعني عموم الشعب. وهي تستعمل – على الرغم من اختلاف مشاربها ومنطلقاتها - الخطاب نفسه المعقد والمتعالي وكأنها في "مونولوج" لا ينتهي. وهي التي لم تستطع - وربما لم تسعَ لذلك أصلاً- أن تمنح التونسي "العادي" مؤشرات إيجابية وأمل في مستقبل أفضل، وهو ما جعله يؤمن بأن كل الأحزاب تتشابه، وأن كل السياسيين فاشلون و/ أو فاسدون. وكانت مواضيع المساواة في الإرث والحريات الفردية وحرية الضمير وتعدد الميول الجنسية، قد فرضت كأسئلة رئيسية ملحة طيلة الحملة الانتخابية. فعاقب الناخبون من أولاها هذه المكانة، كما عاقبوا كل من شارك في الحكم منذ 2011 إلى اليوم. وهذا المنحى العقابي كان متوقعاً نظراً لتدهور الوضع المادي لقسم كبير جداً من التونسيين. ويمكن أيضاً اعتبار نتائج الانتخابات دليلاً على سأم التونسيين من خطاب و"ملامح" السياسي التقليدي، الذي يستعمل كلاماً هادئاً و"تقنياً"، ويتحدث عن الواقعية والعقلانية والإصلاح الخ الخ. جزء كبير من الناخبين اختار مرشحين ليس لهم تاريخ سياسي، ولا يأتون من أطر تنظيمية تقليدية، ولا يتوانَون عن اللجوء إلى خطاب حاد اللهجة وقطعي "دون حسابات". وهذا ما جعل الكثيرين يتحدثون عن انتصار "الشعبوية" في انتخابات 2019، وعن التأثيرات الخطيرة المحتملة لهذا الصعود. بعض هذا الكلام معقول، ولكن بعضه الآخر تهويل ووصم بدون تنسيب للأمور. فالشعبوية أصبحت في تونس (وفي العالم عموماً) لفظاً يُستعمل في كثير من الأحيان من قبل أصحاب الامتيازات، لتشويه كل من تسول له نفسه مساءلة النظام القائم ومحاولة تغييره.

التشريعيات : "لطخات" صغيرة وقليل من النور..

لم تستوعب الطبقة السياسية جيداً صدمة الدور الأول من الرئاسيات، وأغلبها واصل حملة الانتخابات النيابية وكأن شيئاً لم يكن. الفائز الأول في الرئاسيات لم يكن معنياً بمجلس النواب، نظراً لأنه ترشح بصفة مستقلة وليس وراءه حزب. أما الفائز الثاني، نبيل القروي، فلقد حقق انتصاراً إضافياً - عبر حزبه "قلب تونس"- وأصبحت كتلته (38 مقعداً) القوة الثانية في البرلمان بعد حركة النهضة. هذه الأخيرة استطاعت تجنب الأسوأ، فقد كانت استطلاعات الرأي تعطيها ما بين 30 و 40 مقعداً، وتضعها في المرتبة الثانية بعد "قلب تونس". وحركة النهضة تعي جيداً أنها لو خرجت من السلطة فمن شبه المستحيل أن تعود إليها، كما أن قياداتها مهددة جدياً بالملاحقة القضائية في ملفات الاغتيالات السياسية، وتسفير المقاتلين التونسيين إلى ليبيا وسوريا، وتكوين "جهاز أمني سري". لذا أعلنت "حالة طوارئ" حزبية واستنفرت قواعدها، حتى أن زعيمها راشد الغنوشي الذي كان يتصرف كمرشد أعلى للجماعة، اضطر إلى الترشح لنيل عضوية البرلمان، والنزول إلى الشوارع والمقاهي في إطار الحملة الانتخابية. لجأت الحركة إلى تكتيكات ذكية، فمن جهة أعلنت أنها ستدعم قيس سعيّد في الدور الثاني من الرئاسيات لاستمالة أنصاره ولإبراز معارضتها للمرشح المتهم بالفساد، ومن جهة أخرى حاولت تسويق نفسها كحامية للثورة والإسلام. فجأة تذكر قادتها التدخل الأجنبي، والفساد، وسوء التصرف بالموارد الطبيعية بعد أن طبعوا مع هذا الوضع وساهموا فيه طيلة ثماني سنوات. ووجدوا كذلك الحل السحري لمشاكل تونس الاقتصادية: صندوق زكاة يجمع المال من الأغنياء ويعطيه للفقراء. وهكذا تصبح الحياة وردية، ويتحول المجتمع إلى واحة سلام وحب وتعايش. تفاعل حركة النهضة السريع والفعال مع المعطيات الجديدة مكّنها من الحصول على المركز الأول في البرلمان إذ نالت 52 مقعداً. لكن هذا الفوز، الذي تحقق بفضل حصولها على قرابة نصف مليون صوت، هو بعيد عن التسعين مقعداً، التي أحرزتها في 2011 (مليون ونصف صوت)، و69 مقعداً في انتخابات 2014 (قرابة المليون صوت).

النخب التونسية - السياسية والثقافية والاقتصادية – امتعضت من نتائج التصويت، مع أنها تتحمل جزءاً من المسؤولية عن هذه النتائج، فهي لم تستطع منح التونسي "العادي" مؤشرات إيجابية وأمل في مستقبل أفضل، ما جعله يؤمن بأن كل الأحزاب تتشابه، وأن كل السياسيين فاشلون و/ أو فاسدون.

فُرضت مواضيع المساواة في الإرث والحريات الفردية وحرية الضمير وتعدد الميول الجنسية، كأسئلة رئيسية ملحة طيلة الحملة الانتخابية. فعاقب الناخبون من أولاها هذه المكانة، كما عاقبوا كل من شارك في الحكم منذ 2011 إلى اليوم. وهذا المنحى العقابي كان متوقعاً نظراً لتدهور الوضع المادي لقسم كبير جداً من التونسيين بعد 2011.

المرشحون الذين حققوا نتائج "جيدة" في الدور الأول من الرئاسيات منحوا، بصفة عامة، أحزابهم جرعة أوكسجين إضافية في الانتخابات النيابية. فمثلاً أصبح "ائتلاف الكرامة" الذي يتزعمه سيف الدين مخلوف القوة الرابعة في البرلمان ب21 مقعداً، في حين تحصل "الحزب الدستوري" بقيادة عبير موسي على المرتبة الخامسة ب16 مقعداً، وحلت "حركة الشعب" (عروبية ناصرية) التي دعمت المرشح صافي سعيد في المرتبة السادسة ب15 مقعداً. وحقق حزب "التيار الديمقراطي"، الذي جعل من مكافحة الفساد وبناء الدولة "القوية والعادلة" برنامجاً وهوية سياسية، ما اعتبره الكثير من التونسيين مفاجأة سارة بحلوله في المرتبة الثالثة ب22 مقعداً، على الرغم من حداثة تأسيسه وضعف إمكانياته المادية وانتشاره الشعبي.

وبالطبع كانت هناك هزائم مرة. أبرز الخاسرين هو بلا شك حزب "نداء تونس" ومن ورائه "عائلة سياسية" بأكملها. هذا الحزب، الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، حصل في تشريعيات 2014 على المرتبة الأولى ب85 مقعداً، فضلاً عن فوزه برئاسة الجمهورية وتعيينه لرئيسي البرلمان والحكومة. في انتخابات 2019 لم يحصل الحزب إلا على 3 مقاعد وجاء مرشحه للرئاسة، عبد الكريم الزبيدي، رابعاً. طبعاً كان لتشظي الحزب، وانشقاق الكثير من قياداته ووفاة مؤسسه دوراً كبيراً في هزيمته. كما أن تحالفه مع الإسلاميين - وهو الذي كان نجاحه مبنياً على معاداتهم، - بعد انتخابات 2014 ساهم في نفور جزء كبير من "قواعده" منه. ولعل الأهم هو فشله في إدارة شؤون البلاد على الرغم من الأغلبية البرلمانية والسيطرة على الرئاسات الثلاث. فشل حزب "نداء تونس" هو أيضاً فشل لعائلة سياسية صنعت على عجل كقوة مضادة للإسلاميين إثر توليهم السلطة في 2011: "العائلة الوطنية الحداثية الوسطية التقدمية.." (ولكم أن تضيفوا ما شئتم من الصفات المشابهة). عائلة كان عمادها رجالات النظام القديم، الذين سعَوا لاستغلال خوف جزء كبير من التونسيين من تغوّل حركة النهضة، خاصة بعد أن أصبح الصدام العنيف يلوح في الأفق. استطاعت هذه "النواة الصلبة" أن تستقطب مثقفين وفنانين ونقابيين ورجال أعمال وحتى يساريين حول مشروع هلامي بلا هوية سياسية واضحة... فقط شعارات "الحفاظ على منجزات الدولة الوطنية" و"حماية مدنية الدولة" و"مكاسب المرأة التونسية" و"النمط المجتمعي" التونسي. وبما أن أجواء انتخابات 2019 لم تقم على الاستقطاب الحاد بين الحداثيين والإسلاميين، الذي سئم منه المواطن العادي، فإن حركة "نداء تونس" وجدت نفسها - ومعها بقية الأحزاب المشابهة مثل "مشروع تونس" و"تحيا تونس"- في الزاوية.

لم تستوعب الطبقة السياسية جيداً صدمة الدور الأول من الرئاسيات، وأغلبها واصل حملة الانتخابات النيابية وكأن شيئاً لم يكن.

الخاسر الأكبر الآخر هو اليسار التونسي، وتحديداً "الجبهة الشعبية" التي انقسمت قبل الانتخابات بأسابيع قليلة، وترشح كل شق منها بقوائم خاصة به فحقق نتائج هزيلة للغاية: نائب واحد فقط بعد أن كان للجبهة 15 مقعداً في البرلمان المنتهية عهدته. نتائج اليسار كانت متوقعة، وحدهم المرشحون والأنصار الذين يعيشون حالة إنكار منذ سنوات لم يستطيعوا رؤيتها من بعيد. ويعتبر البعض أن هذه النتائج على مرارتها قد تكون "إيجابية" بمعنى أنها صفعة مؤلمة، لكنها ستوقظ الأحزاب اليسارية وتجعلها تعدل مسارها. في حين يرى البعض الآخر أن ما يحدث لليسار هو قبل كل شيء أزمة هوية مستمرة ومتفاقمة، فهو يركز على الحريات الفردية ويهمل المعارك ذات الطابع الاقتصادي، مما يجعله أقرب لخصومه البرجوازيين وأبعد عن جمهوره (المفترض) الفقير.

مبدأ "النسبية": ما له وما عليه

نحن أمام برلمان "فسيفسائي" سيكون من الصعب أن يفرز حكومات تسندها أغلبية مريحة. فالنظام الانتخابي التونسي الذي تم إقراره سنة 2011 كان هدفه الأول ضمان مشاركة أكبر قدر ممكن من القوى السياسية (سواء أكانت حزبية أم لا) في البرلمان، وذلك بهدف فرض التوافق وعدم السماح بسيطرة قوة سياسية واحدة على السلطة، خاصة في المرحلة التأسيسية. ولكن الهدف غير المعلن كان منع تغوّل الإسلاميين (حركة النهضة) تحديداً. لم يتم تحديد عتبة / حد أدنى للدخول للمجلس، واُعتمد مبدأ "النسبية" واحتساب "أكبر البقايا" لتمكين عدة قوائم من دخول البرلمان، وعدم السماح لقائمة واحدة (الحائزة على أكبر عدد من الأصوات) بالحصول على كل مقاعد الدائرة. صحيح أن هذا النظام جنّب البلاد استيلاء حزب واحد على السلطة التشريعية والتنفيذية، لكنه خلق أيضاً حالة من التشظي. فمن المستحيل أن يحصل أي حزب على 50 في المئة +1 من المقاعد، مما يعني أن تشكيل الحكومة يمر حتماً عبر التحالف بين حزبين أو أكثر. وهذا ما حصل في 2011 إثر تحالف حركة النهضة مع حزبي "التكتل" و"المؤتمر" (حكومة الترويكا)، وفي 2014 مع تحالف متصدري ترتيب الفائزين: حركة نداء تونس وحركة النهضة. هذه التحالفات تتيح للأحزاب الحاكمة أن تتمتع بامتيازات الحكم دون أن تتحمل مسؤولياته، فكل حزب يحمِّل مسؤولية الفشل لحلفائه، ويقول إنه لم يحصل على عدد مقاعد كاف لتشكيل حكومة من لون واحد تمثِّله وتمكِّنه من تطبيق برامجه. بل إن الوصول إلى التحالف بين قوتين أو أكثر غير مضمون وقد يكون غير كاف، ونتائج تشريعيات 2019 خير دليل على ذلك. فالنهضة التي فازت بالمرتبة الأولى لم تحصل إلا على 52 مقعداً من جملة 217، أما "قلب تونس" القوة الثانية فحصل على 38 مقعداً، ثم نجد خمس قوى "متوسطة" يتراوح عدد مقاعدها ما بين 22 و15 مقعداَ، ثم أحزاب صغيرة أو مستقلين.

أغلب الأحزاب عبّرت عن رفضها التحالف مع حركة النهضة لتشكيل الحكومة، إما بسبب خلافات إيديولوجية عميقة، أو خوفاً من الانفجار وحتى "الانقراض" كما حصل مع كل الأحزاب التي تحالفت مع الإسلاميين. حتى تلك الكتل التي وافقت مبدئياً على الحوار، قدمت شروطاً وطلبات من شبه المستحيل أن تقبلها الحركة: وزارات سيادة، وزارات حساسة، رئيس حكومة من خارج حركة النهضة، الخ. كما أن أغلب القوى ترفض التحالف مع "قلب تونس" ومؤسسه نبيل القروي نظراً لشبهات الفساد و"المافيوزية" التي تحوم حوله.

تحاول النهضة الضغط على عدة أطراف، أو بالأحرى توريطها، أبرزها "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب"، وإحراجها أمام الرأي العام باعتبارها متهربة من مسؤولية الحكم، وجبانة تفضل "رفاهية" المعارضة على تقاسم مسؤولية إصلاح أحوال البلاد. وفي انتظار أن يكلف رئيس الجمهورية الجديد، الذي تم تنصيبه رسمياً في أواخر الشهر الفائت، الحزب الفائز بتشكيل حكومة في غضون شهر، فإن المفاوضات والمناورات والمزادات والمزايدات تجري في نسق متسارع. تحتاج حركة النهضة إلى 109 أصوات لنيل الثقة، وهذا سيتطلب منها آجلاً أم عاجلاً تنازلات وتوافقات قد تجعل قاعدتها الشعبية تتآكل أكثر فأكثر، حتى تصبح حزباً متوسط الحجم، بدور محدود في الحياة السياسية. ولو فشلت في ضمان منح الثقة لحكومتها المقترحة فسيُسحب منها التكليف ويُمنح لقوة أخرى. وإذا ما تواصل التعطيل، فسيجد رئيس الجمهورية نفسه مجبراً على حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وتجدر الإشارة إلى كون تشكيل الحكومة لا يتم فقط بين القوى صاحبة الكتل الأكبر في البرلمان، فهناك قوى من خارجه لها حساباتها وتأثيرها في الموضوع.

... هذا دون أن ننسى أن رئيس الجمهورية الجديد، وإن لم تكن لديه كتلة برلمانية فإنه يتمتع بدعم "كتلة" شعبية عدادها ملايين التونسيين، وبالطبع سيكون له رأيه وتأثيره، خاصة وأن الدستور يمنحه حق اقتراح أسماء كل من وزير الدفاع ووزير الخارجية. بل إن هناك من يعتبر أن تشكيل "حكومة الرئيس" - أي بإشراف من رئيس الجمهورية بدلاً من إشراف حركة النهضة - قد يمثل حلاً للأزمة الحالية والمتمثلة في عجز أية كتلة برلمانية عن تشكيل حكومة بمفردها، أو ضمان التحالفات الضرورية. ويبدو أن الرئيس الجديد لا يتردد في أخذ قرارات قوية ولا يريد إضاعة الوقت. فلقد وافق على جملة من الإعفاءات اقترحها رئيس الحكومة، طالت وزير الدفاع وقيادات عسكرية ووزير الخارجية وكتّاب دولة ودبلوماسيين، وطلب من رئيس الحكومة الإذن بفتح تحقيقات في قضايا فساد وسوء تصرف تمس عدة إدارات ووزارات ومؤسسات عمومية، كما انه أقال عدداً من المستشارين الذين عملوا مع الرئيس السابق. وهذا رئيسٌ لا يمكن أن يتم تجاهله من قبل أي حزب أو حكومة.

الدور الثاني من الرئاسيات: "النهايات السعيدة"؟

نتائج الدور الأول وضعت التونسيين أمام دور ثانٍ يجمع بين قيس سعيّد المرشح الذي لا يعرفون عنه شيئاً ونبيل القروي المرشح الذي يعرفونه جيداً ويعرفون عنه أشياءً لا تطمئن. كما أنها وضعت البلاد في مأزق قانوني: ماذا لو كان فاز القروي بالرئاسة وهو في السجن؟ جزءٌ كبير من "النخب" التونسية صُدم بوصول قيس سعيّد، وشن عليه حملة رهيبة في وسائل الإعلام الخاصة ووسائل التواصل الاجتماعي. ففي البداية اعتبروا أنه مرشح الإسلاميين غير المعلن، وهناك حتى من اعتبره متطرفاً داعشياً، والدليل على ذلك مواقفه "الرجعية" وصوره مع إسلاميين. ولما لم يجد هذا الكلام صدى كبيراً لدى عموم الشعب تغيرت التهم، فأصبح سعيد أناركياً فوضوياً و"مجالسياً" و"قذافياً" يريد أن يشكل "لجان شعبية" تقوض الدولة وتدمر الوحدة الجغرافية - السياسية للبلاد، والدليل على ذلك أن أبرز "مستشاريه" ومنظمي "حملته" كانوا يوماً ما يساريين راديكاليين. ربما كان ما أزعج هذه النخب هو عدم قدرتها على فهم وتحليل هذا "البروفايل" غير النمطي. كما أنها لم تستسغ أن يأخذ منها "غريبٌ" سلطة التأثير على الرأي العام، حتى من دون أن يظهر في وسائل الإعلام. من هم أنصار هذا الرجل؟ من أدار حملته غير المرئية؟ ستكتشف "النخب تدريجياً أن حملته قادها شباب متطوعون بلا تمويل ولا هياكل ولا دعم حزبي، ما سيزيد من حيرتها وينمي مخاوفها. فهذا الشكل الجديد للعمل والتأثير السياسي يتجاوزها، وهي غير قادرة على التصدي له عبر وسائل الإعلام التقليدية. لكن كل هذا لا يعني أن تصور قيس سعيّد لتغيير النظام السياسي يخلو من مناطق الظل، وقد يكون تطبيقه حرفياً مغامرة خطيرة. كما أن الأيام الأولى التي تلت إعلان نتائج الدور الأول سجلت انفلات أنصار سعيّد في الفضاء الافتراضي ومهاجمتهم لكل من ينتقده أو يدعوه للظهور في الإعلام وتوضيح تصوراته للعموم، وعدم التعويل على الضبابية والغموض كاستراتيجيات لاستمالة الناخبين. وأمام هذا الوضع اضطر قيس سعيّد للتفاعل وإعطاء تصريحات وإجراء حوارات تلفزية زادت شعبيته. بل إنه كلما احتدت لهجة خطاب المتخوفين منه والرافضين أصلاً لمرشح لم يخرج من رحم "النظام"، كلما التف حوله التونسيون. في المقابل، استغلت حملة نبيل القروي نجاحه في الوصول إلى الدور الثاني لتكثيف الضغط من أجل إطلاق سراحه بدعوى ضرورة "تكافؤ الفرص" بين المرشحين. وتم بالفعل إطلاق سراح الرجل نتيجة لضغوط محلية ودولية كبيرة. فهناك من اعتبر أنه وعلى الرغم من سوء سمعته، فهو شر لا بد منه نظراً لأنه الأقرب لما يسمى "السيستام" أي مجموعة أصحاب المصالح من محليين وأجانب، والذين يريدون رئيساً طيّعاً يعرفونه ويعرفونه، ويا حبذا لو كان ماهراً في "البيزنس".

صورتان متناقضتان

ذهب التونسيون إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى للاختيار بين رجلين وصورتين تختلف وتتناقض كل تفاصيلها تقريبا. قيس سعيّد الموظف المتقاعد ابن الطبقة الوسطى المتزوج من قاضية، صاحب الوجه "الجامد" الذي يتحدث في وسائل الإعلام بالعربية الفصحى بصوت قوي وبنبرة فريدة كأنه يلقي درساً في الكلية، مستشهدا بالشعر والتاريخ العربي القديمين، مستلهماً خطابه من تكوينه الحقوقي وطارحاً ما يعتبره "حلولاً جذرية" لتغيير واقع التونسيين عبر تغيير نظامهم السياسي. المرشح الذي جال في البلاد، خاصة المناطق التي نادراً ما يذهب اليها السياسيون، ليلتقي البسطاء والمهمشين، يستمع اليهم ويحاول ان يشرح لهم رؤيته للأمور، كأنه يبشر برسالة جديدة وطريق للخلاص.

وفي الجهة الأخرى، نبيل القروي، الثري المتزوج من مديرة إقليمية لشركة مايكروسوفت - والتي يتهمها ناشطون تونسيون بالتواطؤ مع نظام بن علي وسياساته في الرقابة والحجب الإلكتروني - والذي يجيد تطويع استراتيجيات الاتصال ووسائل الإعلام لخدمة مخططاته التسويقية، سواء تعلق الأمر بالسياسة أو بالتجارة. صاحب العلاقات الخارجية القوية والمؤثرة والمثيرة للريبة، والمتهم بجرائم اقتصادية، وكذلك بمحاولة تشويه سمعة ناشطين من المجتمع المدني والتنصت عليهم ومراقبتهم.

موقف سعيّد الرافض بشدة للتطبيع، والذي يعتبره خيانة عظمى، مقابل تردد القروي في إدانته خلال المناظرة التلفزيونية بينهما كان له تأثير كبير على التونسيين.

حتى صورة "الخزّانات الانتخابية" التي صوتت لكلي الرجلين في الدور الأول مختلفة جذرياً فيما بينها. ففي حين صوت الشباب المديني من أصحاب الشهادات الجامعية بكثافة لقيس سعيّد، فإن نبيل القروي سجل حضوراً لافتاً لدى الطبقات الأكثر فقراً والأقل تعليماً والأكبر سناً، وبصفة خاصة في المناطق الريفية المهمشة.

لكن، وعلى الرغم من الاختلافات، فإن هناك نقطة مشتركة بين المترشحين الاثنين: كلاهما يمثل الأمل "الساذج" بالنسبة لشرائح من التونسيين. فهناك تونسيون يعتقدون أن إصلاح حال البلاد يتم عبر منح رئاسة الجمهورية لشخصية محترمة و"نظيفة" ومثقفة، تعيش وسط الشعب وتعرف مشاكله، لم تتورط سابقاً في الحكم وليس عليها شبهات فساد، حتى وإن لم يفهموا تصوراتها، ولم يعَوا بمدى محدودية صلاحياتها الدستورية. بل يبدو أن عدم فهمهم لما يقوله الرجل يعتبرونه نقطة قوة في صالحه، فهذا يظهره كشخص متعمق واثق من نفسه. وربما كان سعيّد شخصية تذكِّرهم بالآباء المؤسسين للدولة التونسية الحديثة كما يتخيلونهم أو يسمعون عنهم، و تشبه كذلك بعض المسؤولين الغربيين الذين يركبون سيارات رخيصة ويرتدون ملابس بسيطة ويعيشون في منازل عادية دون بهرج. أما الفقراء من أنصار نبيل القروي، الذين سخر منهم الكثيرون واتهموهم بالجهل والتذلل، فلقد رأوا فيه رجلاً كريماً يأتي اليهم بالكساء والغذاء والدواء، ويجالسهم ويستمع إليهم في حين تهمشهم الدولة وتتجاهلهم الأحزاب وتحتقرهم طبقات ومناطق أخرى. باختصار هو يمنحهم الاعتراف والرعاية، وهذا ما حُرموا منه طيلة حياتهم. قد يكون نبيل القروي استثمر في فقر هؤلاء واستغل "ضعف وعيهم" لكنه لم يفعل غير ملء الفراغ.

تصويت يشبه المبايعة

خلال فترة ما بين "الدورين" تعززت حظوظ المرشح قيس سعيّد بالتفاف عدد كبير من التونسيين حوله، معتبرين أنه فرصتهم لتغيير واقع البلاد. ولم تزدهم الانتقادات الموجهة إليه - وبعضها تشويه صرف - إلا تمسكاً به. حتى أن الكثيرين ممن لم يكونوا يهتمون بالسياسة والشأن العام، ويترددون في الذهاب إلى مراكز التصويت، حسموا أمرهم وقرروا انتخابه. وقد يكون هذا المناخ من التأييد الشعبي هو الذي دفع عدة أحزاب، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، إلى إعلان دعمها لقيس سعيّد في الدور الثاني. وهناك عدد كبير من التونسيين قرروا أيضاً التصويت لسعيّد رغم عدم اقتناعهم بشخصه وبما يطرحه، وذلك لقطع الطريق أمام المرشح الآخر، إذ اعتبروا أن انتصاره سيمثل خطراً على البلاد وانتصاراً للفساد وقيم "البيزنس".

في المقابل لم يعبِّر أي حزب، باستثناء "قلب تونس" عن دعمه لنبيل القروي - على الأقل علناً وصراحة. فالشبهات التي تحوم حوله محرجة والدعم سيكون مكلفاً. وهذا خاصة بعد نشر موقع رسمي أمريكي لعقد وقّعه القروي مع شركة كندية، يرأسها ضابط إسرائيلي متقاعد، بهدف الترويج له لدى مراكز صنع القرار الأمريكية والأوروبية (مع العلم أن حركة النهضة أيضاً وقعت عقداً مشابهاً).

"الخزّانات الانتخابية" التي صوتت لكلي الرجلين في الدور الأول مختلفة جذرياً فيما بينها. ففي حين صوت الشباب المديني من أصحاب الشهادات الجامعية بكثافة لقيس سعيّد، فإن نبيل القروي سجل حضوراً لافتاً لدى الطبقات الأكثر فقراً والأقل تعليماً والأكبر سناً، وبصفة خاصة في المناطق الريفية المهمشة.

حتى المناظرة التلفزية بين المرشحيَن والتي اعتقد الكثيرون أنها ستخدم نبيل القروي باعتبار خبرته في مجالات الإعلام والاتصال، صبت في مصلحة قيس سعيّد. فلقد ظهر القروي مهزوزاً ومتردداً يكرر العبارات نفسها. وعندما حاول السخرية من منافسه معتبراً أنه "رومنسي" يعيش في عالم "ديزني" أجابه سعيّد بمرجعية سينمائية أخرى وتحدث عن فيلم "العصفور" ليوسف شاهين. كما أن موقف سعيّد الرافض بشدة للتطبيع الذي يعتبره خيانة عظمى مقابل تردد القروي في إدانته خلال المناظرة كان له تأثيراً كبيراً على عدد من التونسيين.

مقالات ذات صلة

وقبل يومين من الدور الثاني كانت النتائج شبه محسومة وانتصار سعيّد شبه مؤكد. وربما تمثلت المفاجأة في الإقبال الكبير على التصويت وفي الفرق الهائل في عدد الأصوات بين المرشحين. فلقد ذهب قرابة أربعة مليون تونسي إلى مراكز الاقتراع ومنحوا قيس سعيّد 72 في المئة من الأصوات ليتوجونه "ملكاً". هذه الهبة الشعبية تبدو كصرخة ضد الفساد، ورأى فيها آخرون "عودة الروح" إلى التونسيين بعد سنوات من الإحباط. بل إن هناك من اعتبرها استعادة للمسار الثوري بعد أن اختطفه مسار "الانتقال الديمقراطي". اختلفت منطلقات الذين صوتوا لقيس سعيّد كما يختلف انتظارهم من المستقبل، لكن جميعهم يحسون أن البلاد تعيش حالة فريدة.

هذه الشعبية الكبيرة لقيس سعيّد وحجم الآمال التي يعلقها عليه ناخبوه قد تطرح مشاكل في المستقبل. فصلاحيات رئيس الجمهورية محدودة، وهو، مهما كانت قوة تأثيره، لا يضع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى للبلاد. وحتى مشاريع القوانين التي سيقدمها للبرلمان قد تسقط ولا تتم المصادقة عليها. باختصار، قد يصطدم قيس سعيّد بعدة عقبات تجعله عاجزاً عن تنفيذ مشروعه وعاجزاً عن تغيير واقع التونسيين. وعندها قد يُحبط مناصروه وينقلبون عليه، أو يغضبون من خصومه ويعتبرونهم متآمرين عليه، و"خونة". وهذا السيناريو قد يجعل البلاد تعيش حالة كبيرة من الاحتقان وربما تصل الأمور إلى حد الانقسام الحاد والعنف.

"حالة وعي".. مخيفة؟

لم تنته أجواء الانتخابات بإعلان النتائج. فهناك من اعتبرها خطوة أولى فقط وإن الوضع يستلزم هبة شعبية شاملة ومستمرة لتغيير الأوضاع. دعوات من هنا وهناك لحملات تنظيف وتزويق للأحياء والشوارع، لاستهلاك المنتجات التونسية ومقاطعة السلع الأجنبية، لمقاومة الاحتكار والمحتكرين، لمحاسبة الفاسدين ومراقبة الموظفين العموميين، وتحسين المرافق العمومية. نتحدث هنا عن آلاف الدعوات والأفكار، بعضها مبدع ومعقول وبعضها الآخر مفرط في السذاجة، لكنه في كل الأحوال يُعبِّر عن "حالة وعي" مواطنية مشبعة بـ"الإيوفوريا". و"حالة وعي" هي العبارة الأكثر حضوراً في "بوستات" التونسيين على فيسبوك، سواء من قبل المؤمنين بها أو من الساخرين منها.

المشكلة أن "حالة الوعي" التي اكتسحت "فيسبوك" بعد نتائج الدور الثاني لا تتوقف عند هذا الحد، بل تشمل دعوات لتشكيل حزام سياسي وشعبي ساند للرئيس في مواجهة معارضيه المحتملين، وكذلك دعوات للتهجم على الإعلام والإعلاميين ممن "يعادونه" والتصدي لاتحاد الشغل الذي سيحاول تعطيل مشروع قيس سعيّد بالاحتجاجات والاضرابات. لا تحسب هذه الدعوات على قيس سعيّد الذي اضطر للتعبير عن رفضها ومساندته لحرية الإعلام وللعمل النقابي، ولا يمكن أيضاً أن نعتبرها ممثلة لجميع من يساهمون في صنع "حالة وعي". لكن التخوف يكمن في أن تستغل أحزاب معادية للحريات هذا "الخزّان" الجديد أو أن يحاول بعض أصحاب المصالح - من الداخل أو من الخارج –التلاعب به وتوجيهه لخلق حالة احتقان تعيد التونسيين إلى سنوات 2012 و2013، عندما تعطل مسار الثورة وغابت المطالب الاقتصادية - الاجتماعية لتحل مكانها استقطابات حادة وعنيفة حول "الهوية" و"طبيعة المجتمع"..

... مهما كانت أهمية الصناديق، ومهما كانت تصنع "العجب"، فهي ليست العامل المحدِّد الوحيد في صنع المشهد السياسي. هناك قوى سياسية غير ممثلة في البرلمان، كأحزاب اليسار، التي وعلى الرغم من ضعفها، فإن لها تاريخ طويل مع المعارضة والحركات الاحتجاجية. وهناك أيضاً قوى سياسية غير حزبية (رجال الأعمال، المهربون الخ...) أو ممنوعة من العمل السياسي العلني (الحركات السلفية والجهادية). وهناك النقابات العمالية، والمجتمع المدني. وهناك المحاور الإقليمية وأموالها وحيلها ومؤامراتها. وهناك الأوروبيون والأمريكيون ونفوذهم وسيطرتهم على المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية. وهناك المديونية وعجز الميزانية والفقر والبطالة والهجرة غير النظامية والاتفاقيات الاقتصادية والأمنية مع الخارج. وبالطبع، هناك الملايين من التونسيين الذين يعيشون حالة أمل وينتظرون إشارات تغيير، وإحباطهم ستكون له عواقب وخيمة تتجاوز الصناديق حتماً وتفيض منها إلى الشارع أو إلى أزقة ملتوية ومظلمة..

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...