كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد كان قيادياً في "كتائب عز الدين القسام" ومسؤولاً عن برنامج تطوير الطائرات والغواصات المسيَرَة. اسم الزواري حضر منذ اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى".
2024-01-04

شارك
غرافيتي على أعمدة جسر في العاصمة تونس

لم أسمع ابدا عاشقين يقولان شكراً، ولكن شكراً لكِ لأنكِ انتِ من أنتِ.
حافظي على نفسك يا تونس.
سنلتقي غداً على أرض اختك: فلسطين.
هل نسينا شيئاً وراءنا؟!
نعم، نسينا القلب وتركنا فيكِ خير ما فينا،
تركنا فيكِ شهداءنا الذين نوصيكِ بهم خيراً

هكذا ودع محمود درويش تونس في ربيع 1994 عندما قررت منظمة التحرير الفلسطينية مغادرة آخر "منافيها" العربية نحو "موطئ القدم الاول في ساحة الوطن الخلفية" (الجملة لمحمود درويش) عقب التوقيع على اتفاقيات أوسلو. غادر الفلسطينيون تونس معززين مكرمين مثلما دخلوها أواخر صيف 1982 قادمين من بيروت/لبنان الاجتياح والحصار. لبثت قيادة "م.ت.ف" 12 عاماً في تونس، وخلال تلك المرحلة اكتوت تونس من الاستهداف الصهيوني المباشر كما حصل في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1985 عندما قصف الجيش الاسرائيلي مقر "م.ت.ف" في "حمام الشط"، ما أسفر عن استشهاد حوالي 68 شخصاً من بينهم 20 تونسيا وتونسية، وكذلك عند اغتيال القيادي الفلسطيني "أبو جهاد" في نيسان/ابريل 1988. ولم يكن شهداء عملية "حمام الشط" أول التونسيين أو آخرهم ممن أراقت إسرائيل دماءهم. سبقهم إلى ذلك المجاهدون الذين انضموا إلى الجيوش والجماعات العربية التي حاربت في فلسطين في 1947 – 1948، وكذلك عشرات المقاوِمين ممن انضموا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية منذ أواخر السبعينيات واستشهدوا خلال الاشتباكات مع الاسرائيليين.

آخر هؤلاء الشهداء المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. ويومها اكتشف التونسيون ان الشهيد كان قيادياً في "كتائب عز الدين القسام" ومسؤولاً عن برنامج تطوير الطائرات والغواصات المسيَرَة. اسم الزواري حضر منذ اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى" التي انطلقت يوم 7 تشرين الأول/ اكتوبر 2023، فالطائرات التي طوّرها وحملت لقبه "طائرات الزواري" لعبت دوراً مهما في تنفيذ مخططات الاختراق والاقتحام التي نفذها مقاتلو حماس، كما ذكّرت مظليات الانزال التونسيين باسم شهيد تونسي آخر وهو "ناجح بن ميلود نومة" الذي كان أحد منفذي عملية الطائرات الشراعية/قبية في 1987.

"عيوننا إليكِ ترحل كل يوم"

صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت انتشى أغلب التونسيون بالهجوم الذي شنته حركة حماس وكانت مظاهر الفرح جليّة في الشوارع والفضاءات العامة ومواقع التواصل الاجتماعي. صحيح لا يُجمِع كل التونسيين على "حب" حماس باعتبارها حركة اخوانية "صديقة" لحركة النهضة التي كانت العمود الأساسي لحكومات ما بعد ثورة 2011، لكن هناك اجماع شعبي واسع على نصرة المقاومة الفلسطينية ومعاداة إسرائيل. حتى الموقف الرسمي جاء متماهياً مع الموقف الشعبي، فبيان رئاسة الجمهورية الصادر في اليوم نفسه كان شديد الوضوح واللهجة: "غلاف غزة هو أرض فلسطينية ترزح تحت الاحتلال الصهيوني منذ عقود، ومن حق الشعب الفلسطيني أن يستعيدها وأن يستعيد كل أرض فلسطين، ومن حقه أيضا أن يقيم دولته المستقلة عليها وعاصمتها القدس الشريف". وبعد يومين، ترأس سعيّد اجتماعاً وزارياً لتدارس امكانيات دعم الشعب الفلسطيني قائلاً ''سنقف إلى جانب الفلسطينيين بكل ما لدينا. فنحن نؤثر على أنفسنا ولو كانت بنا خصاصة". 

ومع انطلاق العدوان الاسرائيلي على غزة وتكشف نواياه الإبادية امتزج الفخر بصمود الغزاويين بالخوف عليهم والغضب من التواطؤ الغربي والتخاذل العربي. صار ما يحدث في غزة - خاصة خلال الشهر الأول من العدوان - هو الشغل الشاغل لجل التونسيين، وكثير منهم أصبحوا يعرفون مدن وأحياء قطاع غزة بشكل مفصّل، ويتابعون باهتمام بالغ منشورات كتائب القسام على تطبيق "تليغرام" ويترقبون ظهور "الملثم" أبو عبيدة، ويحصون عدد الشهداء ويرصدون المواقف العربية والدولية. حتى في منصات التواصل الاجتماعي غابت بشكل واضح المنشورات المتعلقة بالسياسة الداخلية والأوضاع الاقتصادية وكرة القدم.

الاستعصاء في تمرير قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل سببه الأساسي الخوف من التداعيات السياسية والاقتصادية. تونس بلد يحتكر الاتحاد الأوروبي الجزء الأعظم من وارداته وصادراته، ويغرق في ديون صندوق النقد الدولي وبقية المؤسسات المالية التي يسيطر عليها الغرب، ويعتمد كثيراً على قطاع السياحة (أغلب السياح ووكالات الأسفار الكبرى من جنسيات أوروبية) وتحويلات المهاجرين.

ما يروج في السنوات الأخيرة عن "مبادلات تجارية" بملايين الدولارات بين تونس واسرائيل ينبع في أغلب الأحيان من سوء فهم - أو سوء نية - للمعطيات الواردة في قاعدة بيانات comtrade التابعة للأمم المتحدة. قاعدة البيانات هذه تعطي أرقاماً عن حجم السلع القادمة من البلد "أ" (المنشأ) إلى البلد "ب" (الوصول) دون أن توضح إن كانت هذه السلع قد أرسلت ووصلت بشكل مباشر أم أن هناك وسيطاً أو عشرين وسيطا. 

على الأرض، خرجت عدة مسيرات تضامنية دعت إليها النقابات و/أو قوى سياسية و/أو تنسيقيات شبابية، كما نُظِّمت عدة وقفات أمام سفارات الدول التي اعتبرت الأكثر تواطؤاً مع العدوان الاسرائيلي مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، وكذلك أمام مقرات تتبع الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي. حتى المراكز والمنظمات الثقافية لم "تسلم" من غضب التونسيين، اذ تم مثلاً تنظيم "أيام سينما المقاومة" التي عرضت أفلاماً عن القضية الفلسطينية على السور الخارجي للمعهد الفرنسي في تونس ولُطِخت الواجهات البلورية لمنظمة "اميديست" الأمريكية بسوائل حمراء تشبه الدم. لكن هذا لم يشف غليل كثير من التونسيين الذين أرادوا اظهار مواقف دعم أكثر قوة و/أو عملية: الضغط من اجل المصادقة على قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومقاطعة سلع الشركات والدول الداعمة له.

قانون تجريم التطبيع: الولادة المتعسرة

في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقّع 97 عضواً في البرلمان (من جملة 161) عريضة قدموها إلى مكتب المجلس النيابي ورئيسه مطالبين بالتسريع في مناقشة واصدار قانون يجرم التطبيع. بدأ النقاش فعلاً في اللجان البرلمانية المختصة وحدد تاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر لعرض قانون من 7 فصول على الجلسة العامة والتصويت عليه. كان من المتوقع ان يمر القانون بسهولة نظراً للإجماع الشعبي وعدد النواب المدافعين عنه، وخاصة لأن رئيس الجمهورية طالما ردد ان "التطبيع خيانة عظمى"، وكان هذا الموقف من بين النقاط المهمة التي منحته أفضلية كبيرة في الانتخابات الرئاسية 2019. يعني مجرد جلسة نيابية بروتوكولية وينتهي الموضوع، لكن الأمور لم تكن بهذه البساطة.

مع انطلاق العدوان الاسرائيلي على غزة وتكشف نواياه الإبادية، امتزج الفخر بصمود الغزاويين بالخوف عليهم والغضب من التواطؤ الغربي والتخاذل العربي. صار ما يحدث في غزة - خاصة خلال الشهر الأول من العدوان - هو الشغل الشاغل لجل التونسيين، وكثير منهم أصبحوا يعرفون مدن وأحياء القطاع بشكل مفصّل، ويتابعون باهتمام بالغ منشورات كتائب القسام على تطبيق "تليغرام" ويترقبون ظهور "الملثم".

بيان رئاسة الجمهورية الصادر في السابع من تشرين الاول/أكتوبر كان شديد الوضوح واللهجة: "غلاف غزة هو أرض فلسطينية ترزح تحت الاحتلال الصهيوني منذ عقود، ومن حق الشعب الفلسطيني أن يستعيدها وأن يستعيد كل أرض فلسطين، ومن حقه أيضا أن يقيم دولته المستقلة عليها وعاصمتها القدس الشريف". 

في اليومين السابقين لجلسة التصويت ظهرت بوادر غير مبشِّرة: نواب يقولون ان نص القانون يتطلب تجويداً وتدقيقاً، وآخرون يطالبون بعرض مشروع القانون على وزارة الخارجية ورئيس الجمهورية قبل التصويت عليه، وقسم ثالث يرى ان هذه المبادرة التشريعية مناورة يراد بها احراج رئيس الجمهورية وتوتير علاقته بالغرب. اثارت هذه البوادر مخاوف كانت في محلها، ففي يوم التصويت كانت أجواء المجلس مشحونة وتكشفت نوايا التعطيل. توقفت جلسة الخميس 2 تشرين الثاني/نوفمبر عدة مرات قبل ان يعلّقها رئيس المجلس النيابي المقرب من رئيس الجمهورية، ويرجئها إلى اليوم الموالي. وهذا ما كان، لكن بعد ساعات طويلة من الكر والفر جاء الخبر اليقين على لسان رئيس المجلس الذي قال ان رئيس الجمهورية "أعلمه بأن القانون سيمسّ بأمن تونس وأنه محل مزايدات انتخابية، وأنه يوصي النواب بتأجيل الجلسة، نظراً لما يمثّله مقترح القانون من آثار سلبية على أمن تونس الخارجي وعلى مصالحها". مساء اليوم نفسه، توجه قيس سعيّد إلى التونسيين بكلمة متلفزة أكد فيها "أنّنا في حرب تحرير وليس في حرب تجريم. وما يسمّى التطبيع هو مصطلح لا وجود له عندي على الإطلاق لأنّه يعكس فكراً مهزوماً والفكر المهزوم لا يمكن أن يكون هو الفكر المقاوم والفدائي في ساحات الوغى والقتال". وبغض النظر عن العبارات المنمقة والحماسية فإن المقصد كان واضحاً: لا قانون لتجريم التطبيع في الأفق القريب. وهذا ما سيؤكده مجلس نواب الشعب عندما أعلن تأجيل النظر في القانون إلى ما بعد مناقشة قانون المالية لسنة 2024 (الموازنة).

مقالات ذات صلة

تم اعتماد الموازنة يوم 10 كانون الأول/ديسمبر الجاري، ولكن لم يحدد موعد جديد لإعادة النظر في مبادرة تجريم التطبيع. أربعة مشاريع قوانين تخص تجريم التطبيع عُرضت على أربعة مجالس تشريعية منذ 2012، بعضها أجهض في المراحل الأولى وأخرى ماتت في المخاض: مبادرة كتلة "حركة وفاء" التي طرحتها في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ومبادرة كتلة "الجبهة الشعبية" التي عرضتها في 31 كانون الأول/ديسمبر 2015 ، ومبادرة "الكتلة الديمقراطية" التي قدمتها في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2020، ومبادرة كتلة "الخط الوطني السيادي" التي أودعت يوم 12 تموز/يوليو 2023.

هذا الاستعصاء في تمرير القانون سببه الأساسي الخوف من التداعيات السياسية والاقتصادية. تونس بلد يحتكر الاتحاد الأوروبي الجزء الأعظم من وارداته وصادراته، ويغرق في ديون صندوق النقد الدولي وبقية المؤسسات المالية التي يسيطر عليها الغرب، ويعتمد كثيراً على قطاع السياحة (أغلب السياح ووكالات الأسفار الكبرى من جنسيات أوروبية) وتحويلات المهاجرين. يمكن أن نلخص كل ما سبق: تبعية اقتصادية ومالية خانقة تضرب استقلالية القرار الوطني على الرغم من كل "الخطاب السيادي" الحماسي الذي يكرره الرئيس سعيّد في السنوات الأخيرة.

عندما تذكرنا حملات المقاطعة بالحقائق المُرّة

ما يروج في السنوات الأخيرة عن "مبادلات تجارية" بملايين الدولارات بين تونس واسرائيل ينبع في أغلب الأحيان عن سوء فهم - أو سوء نية - للمعطيات الواردة في قاعدة بيانات comtrade التابعة للأمم المتحدة. قاعدة البيانات هذه تعطي أرقاماً عن حجم السلع القادمة من البلد "أ" (المنشأ) إلى البلد "ب" (الوصول) دون أن توضح إن كانت هذه السلع قد أرسلت ووصلت بشكل مباشر أم أن هناك وسيطاً أو عشرين وسيط. فيما يخص حملات المقاطعة في تونس، فالمشكلة تكمن في المنتجات التابعة لشركات غربية و"متعددة الجنسيات" وشركائها المحليين. قوائم المقاطعة والبدائل المحلية تذكّرنا بثلاثة أمراض يعاني منها الاقتصاد التونسي: هيمنة الصناعات التحويلية الخفيفة، وسطوة الشركات الأجنبية بالحضور المباشر أو عبر الوكلاء، وسيطرة عدد محدود جداً من المجموعات الاقتصادية المحلية على الاقتصاد.

لا توجد قضية توحّد التونسيين مثل فلسطين، لذا لا يجب استغلالها في مزايدات ومناورات سياسوية، كما لا يجب تجيير حزن التونسيين وغضبهم مما يحدث حالياً من جرائم إبادة لخدمة دعاية سلطوية تروِّج لكون الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان مجرد أكاذيب واقنعة غربية سقطت في غزة. 

لن نتحدث هنا عن وسائل النقل ووسائل الاتصال والتكنولوجيات المتطورة والعتاد الطبي والصناعي المتطور والمنتجات المشابهة التي تعتمد تونس على الاستيراد كلياً لتوفيرها، ولا حتى عن التبعية الكبيرة للخارج في السلع الطاقية والأدوية التي تتجاوز نصف الاحتياجات المحلية. وسنكتفي بتقديم بعض المعطيات عن المشتريات الضرورية للاستهلاك المنزلي اليومي.

- قطاع الألبان ومشتقاتها تسيطر عليه في تونس مجموعتان يفترض انهما محليتان. الأولى مجموعة "دليس هولدينغ" Délice Holding المملوكة لرجل الأعمال التونسي حمدي المدب وهي تسيطر على 65 في المئة من انتاج الحليب المعلب في تونس و69 في المئة من انتاج مشتقات الألبان و30 في المئة من انتاج الأجبان (بالإضافة إلى 47 في المئة من انتاج العصائر). وكانت هذه المؤسسة قد ابرمت في 1998 اتفاقية شراكة مع العملاق الفرنسي "دانون Danone" حصل بموجبها هذا الأخير على 50 في المئة من أسهم شركتين تابعتين للمجموعة، ومنح الشريك التونسي امتياز تسويق منتجات تابعة للمجموعة الفرنسية التي تدير استثمارات ضخمة في إسرائيل أيضاً. أما الشركة الثانية فهي "فيتالي Vitalait" التي أسسها رجل الأعمال التونسي علي كلابي سنة 1998 وهي عملياً المنافس الوحيد الجدي للشركة الأولى. فتحت المؤسسة الباب أمام المساهمات الأجنبية في رأسمالها منذ 2011 فباعت 10 في المئة من الأسهم للمجموعة الكويتية-التونسية للتنمية و45 في المئة للشركة الاسبانية Kaiku. هذه الأخيرة اشترت حصة المجموعة الكويتية - التونسية في 2018 فأصبحت تسيطر على 55 في المئة من الأسهم. علماً أن حوالي 73 في المئة من رأسمال الشركة الاسبانية مملوك للشركة السويسرية EMMI GROUP التي عقدت في 1993 شراكة مع TNUVA إحدى أكبر الشركات الإسرائيلية المختصة في الألبان ومشتقاتها.

- شركة صنع المشروبات بتونس (شركة التبريد ومعمل الجعة بتونس سابقاُ) التي تأسست أواخر القرن التاسع عشر على ايدي مستوطنين فرنسيين قبل أن يتم تأميمها إثر استقلال البلاد سنة 1956 ويعاد خصخصتها سنة 1979، تسيطر اليوم على 80 في المئة من الإنتاج المحلي للجعّة و80 في المئة من المشروبات الغازية/ "الصودا" (كوكا كولا وفانتا وشويبيس وأورنجينا وسبرايت والعلامات التونسية الأصل مثل "ابلا" و"بوقا") وما بين 40 و50 في المئة من انتاج المياه المعلبة. وتسيطر مجموعة Castel الفرنسية -المهيمنة على انتاج الجعة في القارة الافريقية- على 63 في المئة من أسهم الشركة.

وهذا غيض من فيض... فمن بين 279 فضاء تجاريا كبيرا في تونس نجد أن 197 منها تتبع مجموعات فرنسية: 106 مغازة لسلسة "كارفور" Carrefour التي تديرها في تونس مجمع "الشايبي" / UTIC، و91 مغازة تتبع سلسلة Casino "كازينو" (Monoprix ، Géant) التي يديرها في تونس "مجمع المبروك". وحتى بقية المغازات الكبيرة التابعة لسلسة "المغازة العامة" التونسية فإن لها شريك فرنسي في رأس المال: سلسلة مغازات "اوشان" Auchan.

"من الرْدَيِف حتى غزة القضية لا تتجزا"

هذا الشعار رفع في مظاهرات التضامن الشعبي مع غزة خلال الحرب التي شنتها اسرائيل على القطاع المحاصر أواخر 2008 /بداية 2009. في تلك الفترة كان نظام بن علي يُنكِّل بسكان مدينة "الرديف" ومناطق أخرى من "الحوض المنجمي" (محافظة قفصة، جنوب غرب تونس) التي انتفضت في كانون الثاني/يناير 2008 احتجاجاً على الفساد وغياب التنمية ودفاعاً عن الحق في التشغيل والكرامة. في تضامنهم مع غزة كان المتظاهرون يعون أن المنطقة العربية تعاني بتفاوت من الأوبئة نفسها: النهب والإفقار، والاستبداد والاستعمار بكل أشكاله الجديدة والقديمة. 

تكمن المشكلة في ما يخص حملات المقاطعة في تونس، في المنتجات التابعة لشركات غربية و"متعددة الجنسيات" وشركائها المحليين. قوائم المقاطعة والبدائل المحلية تذكّرنا بثلاثة أمراض يعاني منها الاقتصاد التونسي: هيمنة الصناعات التحويلية الخفيفة، وسطوة الشركات الأجنبية بالحضور المباشر أو عبر الوكلاء، وسيطرة عدد محدود جداً من المجموعات الاقتصادية المحلية على الاقتصاد.

في 2005 عندما استدعى الرئيس بن علي رئيس الحكومة الاسرائيلية اريال شارون لحضور قمة أممية في تونس شهدت البلاد حراكاً سياسياً وطلابياً كبيراً بعد سنوات من الركود، وانبثق عنه تحالف تاريخي لقوى معارضة يسارية واسلامية. وقبلها في بداية الثمانينيات لعب الوعي بالقضية الفلسطينية دوراً مهما في تجذير اليسار في بيئته التونسية والعربية بعد ان كان أكثر "كونية". هزيمة 1967 وما تلاها، كانت من الأسباب العميقة لظهور الاتجاه الاسلامي في تونس مطلع سبعينيات القرن العشرين. والأمثلة عديدة عن مدى تأثر الفعل السياسي -المعارض خاصة - في تونس بما يحدث في فلسطين حتى أصبحت بوصلة ومحراراً.

لا توجد قضية توحّد التونسيين مثل فلسطين، لذا لا يجب استغلالها في مزايدات ومناورات سياسوية، كما لا يجب تجيير حزن التونسيين وغضبهم مما يحدث حالياً من جرائم إبادة لخدمة دعاية سلطوية تروِّج لكون الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان مجرد أكاذيب واقنعة غربية سقطت في غزة. هذا الخطاب بدأ يروج خلال الأسابيع الفائتة في تونس التي تشهد انتكاسة ديمقراطية منذ أكثر من سنتين وتآكلاً مستمراً للحريات السياسية والمدنية والصحافية. "الغرب المنافق" لم يخترع الحرية والكرامة ولا يمتلك الوصفة السحرية للديمقراطية، وسقوطه السياسي والأخلاقي المقزز - وهو ليس بالأمر العارض أو الطارئ- لا يعني أن الاستبداد السياسي وقضم الحريات هما الكفيلان بتحقيق السيادة والتحرر من الاستعمار.

مقالات من تونس

الاعتداءات على أفارقة جنوب الصحراء في تونس: ضغط فغليان فانفجار..

يتوقع انفجار آثام وجرائم أربعة قرون من السياسات الغربية في أفريقيا (تجارة الرقيق، استعمار مباشر، نهب الثروات والموارد الطبيعية، استعمار جديد، دعم الديكتاتوريات والميلشيات الدموية، تكريس الهيمنة والتبعية) في وجه...

للكاتب نفسه

الاعتداءات على أفارقة جنوب الصحراء في تونس: ضغط فغليان فانفجار..

يتوقع انفجار آثام وجرائم أربعة قرون من السياسات الغربية في أفريقيا (تجارة الرقيق، استعمار مباشر، نهب الثروات والموارد الطبيعية، استعمار جديد، دعم الديكتاتوريات والميلشيات الدموية، تكريس الهيمنة والتبعية) في وجه...