"اللحظة" في لبنان

ما حدث في الشارع ثمين. وهو يبقى ذخراً للناس بغض النظر عما سيؤول اليه الموقف. والمهمة الاولى من الآن فصاعداً هي حمايته من التشكيك به، ومن تسخيفه. والسؤال بعد ذلك هو كيفية حفظه وكيفية البناء عليه، وهو الأصعب..
2019-11-01

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
(كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) خط: منير الشعراني - سوريا

"لحظة صمت العقل لا تعني موت الحقيقة" (ابن خلدون)!

-1-

تبدو الاجواء السائدة اليوم في لبنان، بعد استقالة الحريري وحكومته، مألوفة . يتسلل التخندق المعهود الى ردود أفعال الناس، فيُسأل: "لماذا الحريري دون سواه؟"، ويستنفر "الشارع" الذي يرى أن في ذلك ظلماً للرجل و"ما يمثّل"، فتبدأ أصوات التأييد له بالارتفاع، بعدما كانت "الارض مُسحت به" خلال الاسبوعين الماضيين داخل ما يقال له أيضاً معاقل "السنّة". ويُحجم سائر "زعماء" السنّة أو الشخصيات التي تُعرّف نفسها، أو يُعرِّفها الآخرون على أنها كذلك، يُحجمون عن الايحاء بأنهم قد يقبلون بالحلول محله، إذ يبدو ذلك كخيانة. ها قد أصبح الحريري، واعادة تكليفه، وشروطه لقبول المهمة وشروط الاخرين بوجهه أو غضبهم منه، تطغى على كل الاجواء. أصبحت هي العنوان! جبران باسيل يقول إن وجوده في الوزارة المقبلة شرط لاعادة التكليف. ما زال طامعاً برئاسة الجمهورية! لم تهتز عجرفته الكريهة، وامتلاؤه بنفسه، لم تمسه كل الشتائم التي خصته بتركيز ندر أن يشبهه إجماع آخر في لبنان، ولا كل الفضائح التي لفته، سواء منها ما هو صحيح أو ما ينتمي الى عالم الاشاعات (ولكن من يعرف؟). انكشف عيبٌ في وضع التيار العوني: حديثو نعمة وحديثو جاه. وهذا لا يرحم، وإن كان لبنان تغيّر كثيراً واضطربت فيه مرتكزات تلك "القيم" السائدة، وبهتتْ. وأما "المحور" الشيعي فمطمئن الى قوة ومنعة سطوته. وقد عادت كذلك الى السطح تلك التحليلات (البائسة) التي تقول أن إيران - ولاية الفقيه تحكم البلد، وأن المشكلة الاساس تكمن في سلاح حزب الله الخ.. وهي معزوفة نعرفها جيداً، تحرف النقاش الذي انطلق للاحتجاج على سوء ادارة الوضع المالي للبنان وعلى انفلات الفساد بشكل لا نظير له. صحيح أن هذا الحرف للموضوع قد نجم عن دخول حركة أمل وحزب الله الى ميدان هذه الاحتجاجات كمناهضين لها حالما بدا انها تضع كل القوى الحاكمة في سلة واحدة، ولكن وبالاخص، حالما بدا أنها يمكن أن تعطل التوليفة التي تحكم البلاد، وهم جزء منها... وهنا فقد تتفارق الأسباب ولو أن "الموت" واحد. فالرئيس بري جزء فعلي من منظومة الحكم وليس من منظومة السيطرة فحسب، وبهذا المعنى فهو شريك أساسي في سوء الادارة والفساد. وأما حزب الله فالتركيبة تناسبه لأسباب أخرى، و"تعب" في استيلادها وهندستها لتوفر له ضمن ممكنات الوضع السياسي اللبناني ما يحتاجه من غطاء، وسوى ذلك لا يدخل في اهتماماته، وتلك الاسباب هي ما تحمله على رفض المساس بها. وهو الطرف الاكثر تنظيماً، والاقل خشية من ممارسة العنف على الناس لو لزم الأمر، مع تفضيله ارتكابه على من يفترض أنهم ناسه وقد أصبحوا "أبناء ضالين"، وصاروا "مختلفين" في الشكل والمضمون عما يقبله ويعتبره مطلقاً. حزب الله لم يستوعب بعد حجم التململ منه في بيئته نفسها، وبقي يعتبر ذلك نتاج "ارتباط بالسفارات"، بينما هو يعرف أن هذا الادعاء كاذب، ولكن الصحيح أيضاً هو أن لديه قاعدة راسخة، سواء عبر التأطير المؤسساتي للخدمات او عبر ما يُفترض أنه "العقيدة". وأما "الزعماء" الاخرون، فكلامهم غير مفهوم ولا يمكن "ترجمته"، أو أن آرائهم ومواقفهم لا تهم. وهكذا تبدو الاجواء السائدة اليوم في لبنان مألوفة للغاية.. ومملة! وهي تعيد قتل السياسة بما هي انتفاض الناس ضد الفساد الذي يتهدد حياتهم وضد استهتار الطبقة السياسية، سواء منها الحاكمة مباشرة أو المرشحة للحكم. كُلّن يعني كُلّن!

-2-

فرح اللبنانيون كثيراً عندما انفجر غضبهم قبل أسبوعين، فاكتشفوا في تلك اللحظة أن بينهم مشتركات كبيرة. فرحوا بالتلاقي بعدما كان "التعايش" (المهذب أو الجبري، مكتوم الغيظ على أي حال) هو القاعدة التي استبطنوها طويلاً. فجأة صاروا متشابهين. فجأة بدا أن تلك المجموعات غريبة الاطوار التي كانت تقول عن نفسها انها مُنْفكَّة عن الطوائف، كل الطوائف، ليست في نهاية المطاف أقلية قليلة. وإن الجميع لديه استعداد للانتماء الى هذا الانفكاك. اكتشفوا أن "الآخر" هو صنيعة يحتاجها المهيمنون لتمكين هيمنتهم، وأنه هناك دائماً "آخر" ما، تُلصق به كل العبر، وتتجسِّد فيه الهواجس، فتتشكّل بفضل اختراعه الجماعة المقابلة له. فرح اللبنانيون ببعضهم. وكان ذلك أكبر انجاز حققه غضبهم من وصولهم الى تلك الحواف المدْقعة، ومن خوفهم مما ينتظرهم لو لم يغضبوا. لعل تلك المشاعر تُفسّر أكثر من سواها مظاهر البهجة التي رافقت الايام الأولى من تحركهم، الاحتفالية التي ملأت العيون والآذان. الدهشة!

ولكن، وحتى في تلك اللحظة، فالحذر كان واجباً، باعتبار رسوخ "التقاليد" الطائفية. وقد اتخذ شكلاً طريفاً وحكيماً في آن: أن تتولى كل "منطقة" (يُفهم انها ذات طابع طائفي غالب أو ساحق) تصفية حسابها مع "زعمائها"، فتشتمهم هي بنفسها، تنزع صورهم من الطرقات وتحرقها، تسخر منهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ترسل عليهم النكات اللاذعة، تفضح فسادهم، فتنهي صفات التبجيل أو حتى القُدسية التي تحيط بهم. طرابلس تتولى انزال الزعماء السنة من عليائهم، وصور والنبطية وبنت جبيل وبعلبك ينزلون زعماء الشيعة من عليائهم. ولأن الانشطار السني الشيعي هو ما كان سائداً بقوة في السنوات الماضية، فلم يكترث أحد كثيراً لكون التحرك في جل الديب – المسيحية – يُنزل الى الحضيض زعماء مسيحيين، ولكن ليس "كُلّن". فالمهم في الصورة الاجمالية كان اشتراك الجميع، كلٌ في تحطيم قيده.

كان المشهد مفاجئاً. وراح الناس يتبارون في المزيد من إجادته. وهو أربك تماماً هؤلاء الزعماء. بدوا غير فاهمين أو مستوعبين لما يجري، متجاهلين له عسى يمر وينقضي، غير مصدقين أن الناس اختزنوا مثل هذا الحقد عليهم، والاحتقار، والادراك – هذه هي السياسة وليس شيء آخر – لطبيعتهم وعوارهم. أما "الزعماء" فاكتفوا بالاستمرار في التحرك – قولاً وفعلاً - في الدائرة المألوفة من قبلهم، وهي باتت فقاعة معزولة عن العالم. بدوا عاجزين حيال تلك اللحظة وناسها "الجدد".. الى أن التقطوا أنفاسهم. ظهرت علامات على خيارات كل منهم. حركة أمل بداية ومعها حزب الله قررا أن معالجة الموضوع تتم باستعادة السيطرة المادية والرمزية. بالقوة. والاخبار اليوم تقول إن أعضاء المجلس البلدي في النبطية الذين "تجرأوا" على الاستقالة اعتراضاً على العنف اللاحق بالناس، استُحضروا وأُجبروا على الاعتذار العلني، بل خرجوا الى الناس رابطين حول اعناقهم منديل حركة أمل تأكيداً على الطاعة. يا للهول!

وأما الحريري، فقد بدأت خطته تتبلور باكراً، فصدرت عنه علامات الاستعطاف لناسه، وانه متفهم لمطالبهم، وأنه ضحية، بل وأنه محتَجز في السراي ومهدد بالقتل لو استقال الخ.. ولا حاجة للافصاح عن الجهة القادرة على ذلك، فقد وصلت الرسالة، بل صدرت ردود فعل تدعو للمطالبة بانقاذه! وكل ذلك بقي في عالم الشائعات التي ملأت الدنيا، ولكن الشائعات هي الأخرى أداة في السياسة. ملأت الدنيا. وفي الامعان بدور الضحية، استقال الرجل مباشرة بعدما اعلن نصر الله أنْ لا استقالات، فبدا متحدياً لذلك الاعلان، ومستعيداً تعاطفاً في بيئته كان قد وصل قبلها الى الحضيض.

وأما رئيس الجمهورية فعلاوة على السن والتعب، فقد عصفت به صراعات عائلته التي خرجت الى العلن، فبدا ذاهلاً. وبدت تنظيمات كالقوات اللبنانية أو حزب الكتائب - تقلصت في سنوات بعد الحرب وإتفاق الطائف، وكذلك بفعل التحالف المبكر بين حزب الله والحركة التي أسسها الجنرال عون – بدت مستعيدة لشارعها.

مقالات ذات صلة

ما حدث في الشارع ثمين. وهو يبقى ذخراً للناس بغض النظر عما سيؤول اليه الموقف. والمهمة الاولى من الآن فصاعداً هي حمايته من التشكيك به، ومن تسخيفه. والسؤال بعد ذلك هو كيفية حفظه وكيفية البناء عليه، وهو الأصعب من النزول الى الاعتصام ومن قطع الطرق ومن ملئ الفضاء المادي والافتراضي بالشعارات وبالسخرية. كانت قد بدأت مبادرات للتشبيك وللتفكير، ولعلها تستمر، فمن دون ذلك لا يمكن ممارسة الضغط على القوى الحاكمة وتوقع ضرباتها ومخططاتها وافشالها، ثم التفاوض معها عند اللزوم. هذا مثلاً ما يميز سيرورة الانتفاضة السودانية الأخيرة التي أطاحت بالبشير وحافظت على سلمية التحرك وشموليته لكل انحاء البلاد، مترامية الاطراف ومتعددة المكونات، ثم فاوضت الضباع حتى توصلت معهم الى تسوية معقولة سياسياً – هي المرحلة الانتقالية الحالية – التي تفتح الافق أمام المزيد من التحقيق والانجاز، بفعل صراع دائم بالطبع. كانت هناك أطر مبنية من زمن، اسمها "تجمع المهنيين"، وهي تضم لجان مهنية، فرعية وجهوية ومركزية، وكانت تخوض نضالات مطلبية في الماضي، وكانت بديلاً عن النقابات التي حُلت أو أفرغت من مضمونها، أو سيطر عليها النظام. وتمكن تجمع المهنيين من إنجاز "إعلان الحرية والتغيير" مع أحزاب وتشكيلات سياسية في البلاد كانت في حالة من التشرزم والتقوقع الخ... هذا هو الفارق مع انتفاضة الجزائر المستمرة، وهو الفارق مع ما جرى في 2011 في أكثر من مكان. نقول هذا مع التحفظ بالطبع، فلكل بلد تاريخه وتكوينه ومعطياته المخصوصة. لكن ما نفع الوعي لو لم يتمكن من الملاحظة والادراك والاستفادة من التجارب الاخرى من دون الدعوة البليدة لنقلها.

-3-

ما معنى حكومة تكنوقراط؟ من هم هؤلاء الخبراء الذين يعرفون ما الذي جرى خلال السنوات الطويلة الماضية، ويعرفون – بالاخص - كيف يمكن ترميم الوضع بما يمنع الانهيار التام؟ ولكن والأهم، فكيف سيحكمون في ظل سطوة هؤلاء الضباع (ويقال إن الضباع كريهة الشكل فحسب، وإنما هي غير مؤذية في الحقيقة! وهؤلاء كريهون ومؤذون!). الخشية كل الخشية أن يُحمّل "التكنوقراط" (سواء كانوا فعلاً خبراء أو كانوا وجوهاً باهتة، كومبارس) وزر وضع لا دخل لهم به: لا في ما آل اليه، ولا في كيفية اشتغاله الراهن.. وأن تجهض الفكرة خلال وقت قصير بل قياسي، فتكون مبرراً لعودة الضباع بلا أقنعة، بعد التواري خلف ستائر مسرحية سخيفة.

مقالات ذات صلة

لقد تكثفت "اللحظة" فجأة خلال ذلك الانتفاض، ولمس الناس الثغرات في قدرتهم على الفعل، وهي ثغرات تراكمت عبر الزمن ولم يكن من الممكن حلها بعصا سحرية وبسرعة. وما زالت لليوم طاغية، على الرغم من كل ما انجز.

ثم أين اليسار، ليس كأحزاب وتنظيمات، فهذه إما أنها متلاشية متكلسة، أو هي خانت معناها فسارت مع المستبدين خشية من مستبدين آخرين، أو حتى مع الاستعمار! اليسار كفكرة نقدية جذرية، كمحللين ومثقفين ومناضلين.. يصوغون قراءة للموقف، يلتقطون الوقائع ويتلمسون الاتجاهات الممكنة.. ويبلورون موقفاً من الوضع العام في المنطقة والعالم. فلبنان ليس جزيرة ضائعة في إحدى المحيطات ولا يقع على المريخ. يقولون الموقف من الصراعات الاقليمية، من الانظمة المستبدة الرثة، ومما يجري في العراق وسوريا واليمن.. ومن فلسطين باعتبارها الكشّاف الكاشف. كانت ولم تزل...

-4-

... يتبع!

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...