لبنان: استمرار المهزلة

بينما تتسلى الطبقة السياسية في لبنان بالتفاهات، بما لا يترك مجالاً للشك في طبيعتها، لقّن أهل طرابلس (ثاني مدن البلاد) هؤلاء درساً في الاخلاق قبل أن يكون في السياسة: انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية الفرعية إلى أقل من 13 في المئة.
2019-04-18

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
محمد عمران - سوريا

بينما يعصف الخوف في قلوب اللبنانيين بسبب ما يسمعونه – ويرونه على أية حال – من مظاهر الانهيار العام في أحوالهم، بشكل مأساوى يتجاوز ما هو عليه اليوم بالنسبة للاغلبية الساحقة منهم، تتسلى الطبقة السياسية بالتفاهات، بما لا يترك مجالاً للشك في طبيعتها (وسنتجنب هنا الشتائم المقزعة!).

اعتبر أن أهل مدينتي – طرابلس، ثاني مدن البلاد – قد لقنوا هؤلاء درساً في الاخلاق قبل أن يكون في السياسة: كانت نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية الفرعية التي جرت يوم الاحد الماضي 14 نيسان/ ابريل.. أقل ببضعة أعشار من 13 في المئة، وهذا رسمياً. ويقال شعبياً إنها 11 في المئة، لجنوح الناس الى مزيد من تتفيهها.

فازت مرشحة تيار المستقبل، الذي سعى لأن تكون وحيدة في الساحة فتنال مقعدها بالاجماع! هكذا، لا لسبب سوى الـ"برستيج". وحين لم يتمكنوا من ضبط المشهد راحوا يتوافدون على طرابلس في زيارات/ همروجات لا تتوقف، وسط دهشة الناس ونكاتهم حول دوافعهم واعتبارها تنحصر بالرغبة في تناول الطعام الفريد بجودته في هذه المدينة أو الحلويات على الاقل.. فقبل رئيس الوزراء سعد الحريري الذي وصل في نهاية السلسلة والمطاف، وصلّى الجمعة حاضراً في الجامع الكبير وبات ليلته في المدينة، حضر لشهر كامل ابن عمته والأمين العام لتياره، ثم عمته وهي نائب عن صيدا، بل حضر في البداية فؤاد السنيورة شخصياً وهو عراب التيار وأبيه (الصارم أو المكروه، كما لدى المراهقين) بعد غياب الأب.. والغاية من كل هذا ممارسة واجب (كما في "الاجتماعيات" من أفراح وأتراح) دعم مرشحة لم يكن عليها أي خطر، بعدما انسحب مَن طعن بنيابتها في الانتخابات العامة ونال من المجلس الدستوري ان تعاد هذه الانتخابات، وبعدما جرت مفاوضات طالت كل "الرموز" السياسية المتنافرة في المدينة لتحقيق التوافق حولها.

لماذا يُحب هؤلاء القوم الاجماع ويكرهون التعدد؟ تماماً كما الانظمة في المنطقة.. ولماذا تبدو المظاهر والواجبات أهم من المضمون والموقف؟

الحاصل: تقدّم الى المنافسة 7 مرشحين، بعضهم لتسجيل وجوده على الساحة السياسية تحضيراً لاستحقاقات مقبلة أو لنكايات عائلية، وبعضهم لأنها فرصة للكلام ولتناول الشأن العام.. والأطرف في كل هذا أن صحافياً من جريدة كبرى في المنطقة (وليس في البلد الصغير، لبنان) سألني باستهجان نزق بعد الانتخابات "ولكنها كانت فرصة للتغيير ولابراز المجتمع المدني طالما انكم تريدون التخلص من هذه الطبقة السياسية المكروهة والتي تقولون عنها أنها منحطّة، فلماذا لم يستغلها أهل طرابلس، وعوض ذلك بقيوا متهالكين على كنباتهم في بيوتهم؟". حقاً يتجاوز قصر النظر أحياناً كل توقع، فيعتبر الصحافي أن الامتناع عن التصويت هو كسل، وليس موقفاً يستحق التفحص والادراك أكثر من دراسة اتجاهات التصويت نفسه. وحين نبهته للأمر أمعن، وقال "كونوا إيجابيين"! يريد التخلص من الحالة المزرية بأقل جهد ممكن. وحين شرحت مجدداً (لأنني عنيدة، ولدي انحراف مهني متبقي من فترة تدريسي في الجامعة!) أُحبط أخيراً وسأل بقلق: "إذاً، ما السبيل؟"، فنصحته باجراء استطلاع رأي حول الامتناع عن التصويت في هذه المدينة العريقة، التي اعتادت أن تكون محط انظار واقامة الناس ورفاههم على مدى التاريخ، منذ الزمن السحيق وحتى مطلع القرن العشرين، والتي يتجاوز تعداد سكانها الـ600 ألف نسمة، والتي يعيش 57 في المئة من أهلها تحت خط الفقر بحسب تقارير الامم المتحدة (دراسة اجريت عام 2012) فصنفتها، على الرغم من جمالها الأخاذ، "أسوأ مدينة للعيش على محيط البحر الابيض المتوسط"، والمقصود لجهة نسب البطالة المهولة، وانعدام الخدمات الاساسية كلها، والترك الى الفوضى في البناء والنظافة والسير، وانسحاب 48 في المئة من تلامذتها من المدارس قبل سن العاشرة (التقرير نفسه)..

يحدث كل هذا فيما مجمل لبنان على كف عفريت، أين منه العفريت الذي التهم اليونان قبل بضع سنوات وما زال أهلها يأنّون من أنيابه.. فالشائعات عن غموض مصير المعونات والقروض التي تمنح للبلد والتي جعلته في مديونية تتجاوز المئة مليار دولار كما يقال، رافقت اجتماعات برنامج "سيدر" الاخيرة، والتنبيهات الى أن "الجماعة" (أي المانحين والمقْرضين الدوليين) انتهوا الى الضجر من "الاولاد المدللين" (ابناء الطبقة السياسية الحاكمة)، على الرغم من كل الاعتبارات التي حمت لبنان حتى الآن: عدم المس بالهدوء فيه إن لم يكن لشيء فحماية لاسرائيل، ومن اجل الحفاظ على النسبة المتناقصة من المسيحيين وهم عماده بالاصل ومن يمنحه طابعاً متميزاً، وتجنب انفجار لا أحد يعرف مآلاته، وللحفاظ على اطمئنان كتلة الجواسيس الذين يعملون فيه بأمان وهدوء إلخ الخ الخ.. ). حتى فرنسا، وهي "أمه الحنون" قد ضاقت زرعاً به.

الطبقة السياسية تتقاتل إفرادياً على النهب المنفلت من كل عقال، ولم تنفذ مثلاً مشروع اعادة تأهيل الكهرباء بعد أكثر من عام على اقراره وعلى رصد أمواله.. المهولة، وذلك في مكان لعل كلفة الكهرباء فيه (وهي "مختلطة"، فنحن ندفع للدولة وندفع لمافيات المولدات الخاصة التي توفر الكهرباء حين تنقطع كهرباء الدولة، وهي كثيرا ما تنقطع) هي الأعلى عالمياً، وكذلك كلفة الانترنت والمياه، على الرغم من أنها شديدة التلوث ولا تصلح للاستهلاك الآدمي بحسب تقارير لمنظمات الصحة الدولية المختلفة، وعلى ذلك فهي تنقطع عن البيوت فيشتري المحظوظون الماء من مافيات نظمت بيع الماء بفضل "سيترنات" (خزانات مياه على ظهر شاحنات) تجوب الشوارع ليل نهار.. وهكذا.

واليوم يأتينا وزير الخارجية بمشروع تحميل الموظفين مدنيين وعسكريين عبء "اختلال" الموازنة، وهو يريد خفض المعاشات والتعويضات والتقديمات الخ.. لممارسة التقشف! يسمونه "التصحيح المالي"، وفي رواية أخرى يتحضرون لاقرار "سلة متكاملة من الإصلاحات في الانفاق العام" أو لتحديد "نسبة العجز" المقبولة .. وتتسرب بهذه المناسبة خبريات، منها مثلاً حجم الاعفاءات الجمركية للبعض (ومنها المؤسسات التابعة للطوائف!) والتي يُنظر الآن في الغائها. والفظيع في الأمر، انهم في سياق هذه النقاشات المتوترة فيما بينهم، والتسريبات، يعلمون اننا "نعلم" (مقدار نهبهم بشكل مباشر وشخصي وبدائي وفج) ولكنهم لا يأبهون، لأنهم يعلمون أن لا أحد سيسأل احداً "من اين لك هذا؟" (ولوّ! عيب!).. وقد سقطتْ نقطة الحياء تماماً، وهي ما كان يضبط الأشياء ولو قليلاً في ظل غياب المؤسسات الدولتية (ولنتذكر كيف فوجئ اللبنانيون بفضائح السياسيين الفرنسيين مثلاً في انتخاباتهم الماضية ووجدوا أن أرقامها "ما بتحرز").

ذلك هو السلوك العام الذي يطبع منهج الطبقة السياسية الحاكمة. وهناك مثال صغير ولكنه بالغ الدلالة والتجسيد لتجربة علنية جرت في الشارع: حين تَقاتل افراد تلك الطبقة فيما بينهم على أرباح جمع النفايات في 2015، فتركوها في الشوارع في عز الصيف حتى بلغت امتاراً، واستنكروا أن يعترض الناس ويستنكرون! وقمعوا تحركهم ذاك وشنعوا عليه وعلى اصحابه. وعلى كل حال فما زال مصير الحلول التي اعتمدت لرفع تلك القمامة وما تلاها حتى اليوم مجهولاً، وهي تتراكم، سواء في الهواء الطلق في أماكن منكوبة، أو في اكياس بيضاء انيقة. وسيبقى الحال كذلك الى ما شاء الله . ويومها (كما اليوم، في الصغيرة والكبيرة) أدوا لعبتهم المفضّلة في التأجيج الممجوج للإصطراع المذهبي ومعه للاستقطاب في آليات "الاقطاع السياسي"، وهو المتجدد بشكل أكثر ابتذالاً مما كان عليه أيام زعامات ما قبل الحرب الاهلية التي بتنا نترحم عليها.

فهل في كل هذا من ينتبه الى مفهوم غائب تماماً عن الاذهان، وهو يتجاوز كل الانقسامات المذهبية والجهوية والسياسية والفكرية: اين "المصلحة العامة" يا قوم؟ أم أن بعض اللبنانيين يكتفي باتقانه للغات الاجنبية واجادته للاكل بالشوكة والسكينة وارتدائه ثياباً "سينيّه" ليظن أنه متحضِّر؟

شكرا لابناء طرابلس المعدمين إذ استحضروا كل ذلك دفعة واحدة ومجدداً.

اقرأ/ي أيضا

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...