أسبوعان على الثورة: أيامٌ مجيدة وأيامٌ حزينة

على مدى الأيام الخمسة الفائتة، انتشرت الشائعات على مجموعات الواتساب وفي وسائل التواصل بطريقة جنونية، حول مصادر تمويل الثورة، ارتباطاتها، علاقاتها بالسفارات، المؤامرات المحلية والعالمية... وهذا بعد كلام السيد نصر الله الذي، فعلياً، "رفع الغطاء" عن الثوار.
2019-10-31

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
مظاهرة طرابلس يوم 30 تشرين الاول/ اكتوبر بعد استقالة الحكومة: "كلن يعني كلن" - (عمر العمادي / عن فايسبوك)

لعلّ الطبقة الحاكمة في لبنان لم تكن تعتقد أن الاحتجاجات ستستمر لأكثر من أيام قليلة في كل شوارع لبنان، مراهِنة على تعب الناس أو على تسلل الخلافات وسرعة عودة الاصطفافات إلتي تفرقتهم، كونهم من كل المناطق والطوائف والانتماءات.

السلطة، بعنجهيتها المعهودة والمتجددة دوماً، تدّعي أنها تعرفكم جيداً أيها اللبنانيون. تعرف تعلّقكم المرَضي المزمن بزعمائكم وتعرف خوفكم من خسران المكتسب الصغير الذي يمنّ به عليكم، ليقينكم باستحالة الوصول إلى الحق الطبيعي الأرحب. وهي تعرف خوفكم من اللبناني "الآخر" الذي تشربتم فكرة كونه يتربص بكم شراً، وتعرف أنكم متعبون، تفضلون بكل تأكيد "كومفورت-زون"، الاستقرار الوهمي الهش على مجهولات الفورة والثورة، وأن ضريبة إضافية أو اثنتين (أو عشرة) تبقى قضاءً محمولاً أمام مجرّد فكرة الانهيار التام المرعِبة.

في مظاهرات  أزمة النفايات عام 2015، سخر المتظاهرون من وزير الداخلية حينها نهاد المشنوق وكتبوا عبارته الأثيرة "إنت عارف حالك مع مين عم تحكي؟" على ألواح الشعارات المرفوعة. قلبوا سؤاله عليه،وسألوا الوزير، هل يعرف من يُكلّم؟ المشكلة تشخّصها لعبة "البينغ بونغ" الكلامية هذه. لنستمر في التواصل، بين شعبٍ وسلطة، علينا أولاً أن نعرف مع من نتكلم. هي أزمة معرفة الآخر وفهمه، ولكنها قبل ذلك، هي أزمة كون السلطة "آخَراً"، منفصلاً تماماً عن الناس، يعيش في كوكب زمرّدة (أو جزيرة سيشيل مثلاً).

يقولون أنهم "يعرفوننا" إذاً، لكنهم منذ السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر مرتبكون ومصدومون. هم "آباء الكلّ" الذين اكتشفوا بعد سنين طوال أن أبناءهم يلفظونهم، يكرهون أن يُسموا أبناءهم أصلاً. هذه السلطة اكتشفت منذ أيام قليلة فقط أنها كانت تتوهم أنها حفظت شعبها عن ظهر قلب، أنها تعي مخاوفه، أنها تعرفه جيداً، وبالتالي تعرف كيف تسيطر عليه جيداً. في خريف 2019، خرج اللبنانيون ليسألوا "جدياً، إنتو عارفين حالكم مع مين عم تحكوا؟"... نحن (اللبنانيون) نعرفكم، أما أنتم، فإنكم لا تعرفوننا.

السلطة، بعنجهيتها المعهودة والمتجددة دوماً، تدّعي أنها تعرفكم جيداً أيها اللبنانيون.. تعرف أنكم متعبون، وتفضلون بكل تأكيد "كومفورت - زون"، الاستقرار الوهمي الهش على مجهولات الفورة والثورة، وأن ضريبة إضافية أو اثنتين (أو عشرة) تبقى قضاءً محمولاً أمام مجرّد فكرة الانهيار التام المرعِبة.

كثيرون خافوا بعد مضي الأسبوع الأول من الثورة، وكثيرون علقوا في شباك خطاب السلطة وتهويلاتها. هو خطاب كان يصدر أحياناً كثيرة عن تابعين ومرتهنين فعلاً، ولكنه هو ذاته تسلل إلى دوائر ناس يؤمنون كذلك بالثورة وضرورة التغيير وأحقية المطالب، لكنهم داسوا مكابح اندفاعاتهم لسيطرة الخوف والقلق على كل ما سواهما. في بيروت، رشّ المتظاهرون على الجدار "ينعن (يلعن) أبو الخوف"، والحقّ أنّ شعارات الحيطان تستبطن كثيراً من العمق إذا ما تأملها الواحد منا قليلاً. "هل تعرفون مع من تتكلمون؟"، أولاً، وثانياً، جواب السؤال: "تتكلمون مع من يَلعنُ "أبا الخوف"، بالقول والممارسة الآن وهنا"...

أسبوعان من صوت الشارع

الثلاثاء في 29 تشرين الأول/ أكتوبر بدأ أسودَ بهجوم مناصري أمل وحزب الله على قاطعي جسر الرينغ وعلى المتظاهرين في رياض الصلح وساحة الشهداء، وانتهى باستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. ولكن، قبل الوصول إلى هذه المرحلة المفصلية، فالعصابة الحاكمة تكابر منذ 13 يوماً، وعدا عن أنها كانت ترفض الاستقالة بحجة أنها قدمت ورقة "إصلاحية" (جوهرها بيع البلد وحماية مصالح الطبقة إياها)، فهي لم تتعب نفسها حتى "بالضحك على الذقون" لمحاولة تهدئة الشارع بكبش محرقة مثلاً، كاستقالة الوزير محمد شقير أو جبران باسيل مثلاً. بعناد وإمعان في النكران المستفحل أمام ما يحصل،لم يقْدِم أحد منهم طوال 13 يوماً على الاستقالة، لا نائب ولا وزير، كما لم يُفتعَل أي مقترح لمحاكمة وسجن أيّ من الفاسدين.

إذاً، ما حصل كان كالتالي: بعد الـ72 ساعة الأولى التي منحها الحريري لنفسه للخروج بمبادرة إنقاذية، أعلن ورقته "الإصلاحية" التي سرعان ما فُندت بنودها بنداً بنداً وفُضح قصورها، بل فجورها واحتيالها. بعدها، دخل مجلس الوزراء والنواب والرئاسة في غيبوبة، تخللتها كلمة الرئيس عون للبنانيين (بعد أسبوع من بدء الاحتجاجات! وهي بحد ذاتها كلمةٌ غيبوبة)، وخطاب للسيد نصر لله ربط فيه الثورة بأجندات السفارات وتمويلاتها وشكك في خلفياتها ودوافعها.

وأثناء كل هذا، كررت العصابة الحاكمة، كشريط الكاسيت العالق، "الورقة إنجاز، الورقة بداية جيدة". إعلام وسلطة وأزلام روجوا لفكرة أنّ مطالب الثوار "سقفها مرتفع"، وبدأت حملة منظمة تأخذ شكلاً أكثر خطورة. على مدى الأيام الخمسة الفائتة، انتشرت الشائعات على مجموعات الواتساب وفي وسائل التواصل بطريقة جنونية، حول مصادر تمويل الثورة، ارتباطاتها، علاقاتها بالسفارات، المؤامرات المحلية والعالمية، وهذا بعد كلام السيد نصر الله الذي، فعلياً، "رفع الغطاء" عن الثوار. ثم انتشرت التحريضات حول مسؤولية الثورة، من خلال وجودها في الشارع وإغلاق الطرقات، بإيصال البلاد إلى "المجهول" والتسبب بانهيار اقتصادي أو التسريع به، وشاع التخويف بالحرب الأهلية والتبشير بطيفها... "السقف المرتفع" للمطالب كان استقالة الفاسدين ومحاسبتهم، "كلّن يعني كلّن" بحسب الشعار الموفوع.

في الأيام الأخيرة، ساد الترقب، وبقي الشارع يخترع طرق الصمود. اعتُدي على الناس في النبطية من قبل مجموعات بلطجية هتفت باسم حركة أمل وحزب الله. أمس كان المشهد يتكرر بصورة أكبر وأكثر فجوراً. فبعد أن انتشرت أخبار اقتراب استقالة الحريري عصر 29 تشرين الأول/ أكتوبر، انتفضت مجموعات البلطجية وجنّ جنونها.

هذا سقف اعتُبر "مرتفعاً" جداً. فبالنسبة للعصابة، بزيادة عليكم ورقة فيها ما يرضي الحريري "ولا يرضيكم" باعترافه هو نفسه، وكثيرٌ عليكم طلب أكثر من ذلك بقشّة.

تسخير المُعدم في العدوان

في الأيام الأخيرة، ساد الترقب، وبقي الشارع يخترع طرق الصمود. اعتُدي على الناس في النبطية من قبل مجموعات بلطجية هتفت باسم حركة أمل وحزب الله. أمس كان المشهد يتكرر بصورة أكبر وأكثر فجوراً. فبعد أن انتشرت أخبار اقتراب استقالة الحريري عصر 29 تشرين الأول/ أكتوبر، انتفضت مجموعات البلطجية وجنّ جنونها. هجومٌ على قاطعي طريق جسر الرينغ أوّلاً، سرعان ما امتدّ إلى ساحة الشهداء، حيث حطّم وأحرق وقلب كلّ ما فيها، منتقلاً أخيراً إلى ساحة رياض الصلح حيث كسرت الخيم كذلك. المشاهد المباشرة أظهرت المئات من الشبان حاملين عصياً يعتدون على شباب وفتيات، يلاحقونهم حتى عندما يهربون من وجههم.

الشبان اختاروا (أو اختيروا) ليقوموا هم بالمهمة الوسخة، فهم "سيئو السمعة" بكل الأحوال، وما الضير في إضافة صفات البلطجة والتشبيح إليهم؟ هذا "الخندق الغميق" خندق حزنٍ عميق كذلك، وهؤلاء الذين ضُربوا على الرينغ جلّهم "شيعة" للمفارَقة. الطائفية تحاول أن تخرق، فتصطدم بأبناء الطائفة ضمن مجموعات المتظاهرين المتنوّعي الطوائف.

أنا وآخرون كثر، رَبينا مع أناشيد ثورية في بيئة المقاومة، عرفنا منها "امضِ ودمّر عروشَ الطغاة، امضِ وحارب كلّ الغزاة". نحن حفظنا النشيد، وصار الطغاة والغزاة متلازمَين في ضمائرنا: وجبَ تدمير العروش مع محاربة الغزاة، وقبل محاربة الغزاة وبعدها ولأجلها، بالذات لأجل التمكن من ذلك.

المعتدون الذين كانوا يصرخون شعارات مثل "شيعة! شيعة!"، دمّروا بفعلهم هذا أسبوعين من صورة البلاد الجديدة، صورة ما بعد 17 تشرين الخارجة من عباءات كل الطوائف. صحيح أنه من السذاجة تصديق أن الشعب رمى وراء ظهره الطائفة مرة واحدة هكذا وإلى الأبد، لكن أن تخرج الشعارات بهذه الفجاجة في هذا الوقت، ضد متظاهرين لم يلقِ أي منهم شعاراً طائفياً واحداً طوال 13 يوماً، فهذا أمر بغاية الحزن.

مقالات ذات صلة

وما يجعل الأمر أشد حزناً هو كونُ هؤلاء المعتدين هم أنفسهم أشد المتضررين من فساد الحكام واستفحال الفقر ومن الطائفية المقيتة، وهم أنفسهم كانوا وقوداً للثورة في أيامها الأولى، خرجوا من الخندق الغميق المدقَع، المعلّق على كتف "الداون-تاون" الثري الفاحش، وصرخوا "ثورة"! اسم منطقتهم وحده فيه من معاني إقصائهم بعيداً عن دورة الحياة الكثير الكثير، هم وُضعوا في "خندق" يُسمَح لهم أن يتحولوا لقبضايات داخله فقط، وأن يعلّقوا صور الزعماء ويصفّوا الأراكيل في المقاهي، ليمارسوا قهر الإقصاء والقلّة وانعدام فرص العمل في حيّز عميق سحيق، لكنه في الوقت نفسه على تماس مباشر مع المدينة والبرجزة وشوارع السهر والمطاعم الأكثر غلاء ونوادي اليخوت الفارهة، وفوقها هم "جيران" على مسافة ضربة حجر مع كل مراكز ومؤسسات الدولة الكبرى، مع السراي الحكومي ومجلس النواب ومكاتب الوزراء وشارع المصارف.

ما هو أشدّ أشدّ حزناً هو أن هؤلاء الشبان اختاروا (أو اختيروا) ليقوموا هم بالمهمة الوسخة، فهم "سيئو السمعة" بكل الأحوال، وما الضير في إضافة صفات البلطجة والتشبيح إليهم؟ هذا الخندق الغميق خندق حزنٍ عميق كذلك، وهؤلاء الذين ضُربوا على الرينغ جلّهم "شيعة" للمفارَقة. الطائفية تحاول أن تخرق فتصطدم بأبناء الطائفة ضمن مجموعات المتظاهرين المتنوّعي الطوائف.

أول الطريق؟

عاد الثوار لتنظيف وبناء الساحات بعد إعصار الصباح، واستقال رئيس الحكومة سعد الحريري عصراً وسقطت حكومته... اليوم تنهي الثورة أسبوعها الثاني وتدخل في الأسبوع الثالث. كيف ستمضي الأمور من هنا؟ الثوار يعلنون أنها "البداية فقط"، وأنهم مستمرون. ما زال الطريق طويلاً حتى المحاسبة. أمّا شبان العصي، فقد أعلن كثير من المتظاهرين عن السماح عنهم وتكرار دعوتهم إلى الانضمام (مجدداً) إلى صفوف الثوار.

ما بقي بعد هذين الأسبوعين كلامٌ كثيرٌ حول دور حزب الله على الخصوص في كل هذه التعقيدات على الأرض. هو موضوع شائك لا بد أنه سيزداد تعقيداً في الأيام المقبلة. كل ما أعرفه أنني وآخرون كثر ربينا مع أناشيد ثورية في بيئة المقاومة، عرفنا منها "امضِ ودمّر عروشَ الطغاة، امضِ وحارب كلّ الغزاة". نحن حفظنا النشيد، وصار الطغاة والغزاة متلازمَين في ضمائرنا، وجبَ تدمير العروش مع محاربة الغزاة، وقبل محاربة الغزاة وبعدها ولأجلها، بالذات لأجلها.

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

أجمل من خيال

صباح جلّول 2023-07-06

إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً...

خضر عدنان شهيداً: قتلوا المناضل المثال!

صباح جلّول 2023-05-02

روح الشيخ خضر عدنان المقاتلة التي لا تلوِّثها اعتبارات السياسة والفصائل والانتماءات والمصالح هي بالذات ما أرّق الاحتلال. كان شيخاً تقياً منفتحاً وعاملاً خبّازاً يعمل في مخبزه في بلدته عرّابة،...