"كانوا يقولون لنا الشيعة بدهم ياكلوكم.. طلعوا بدهم ياكلوا، مثلنا". قالها الشاب الطرابلسي العشريني "المعتّر" أمام عدسات التلفزيون التي هرولت لرؤية "الأعجوبة" الطرابلسية. فهم أيضاً قيل لهم - ورددوا هم أنفسهم وبعناد أحياناً - أن طرابلس مدينة التطرف وداعش والتعصب.. "وطلعوا مش هيك".
الشاب الطرابلسي اختزل بذكاء حاد - وبلا فصاحة متعالمة ولا تحليل معقد - أهم خاصيات ما يجري في لبنان اليوم. وهو أعلن أن الطائفية "خلصت"، أفلستْ مع إفلاس أربابها الأخلاقي. "كلّن يعني كلّن"، شعار صدر عن مئات آلاف الحناجر الشابة ذات صيف من سنة 2015، حين طمرتهم النفايات، وليس أقل، بسبب تقاتل أصحاب السلطة على حصصهم من إيراداتها. شعار لا يأبه بأيّة تراتبيات في توصيف سوء هؤلاء.. كل واحد على طريقته، وإنما كلهم!
وكلام الشاب الطرابلسي يشبه ما هتف به رجال أكبر سناً منه في العراق، وفي قلب النجف والناصرية وهي مدن شيعية في جنوبه: "باسم الدين باكَونا – أي سرقونا – الحرامية"، معلنين انفكاكهم عن سلطة تدّعي أنها تمثلهم لتتمكن من نهبهم بيسر وبقوة أكبر. هناك أيضاً خلْصت الطائفية، على الرغم من التحريض المهول والعنيف بفضل وجود "داعش" الذي احتل ربع أرض العراق في وقت من الأوقات، فكان منحة من السماء لتبرير كل الارتكابات.
قصة الطائفية في لبنان
الطائفية في لبنان ليست علة في النفوس. بل هي نظام متكامل ومبني ومرتّب لتقاسم النفوذ والمال، عبر شيء أسموه "الدولة"، التي بقيت لذلك وعلى الدوام ضعيفة، إذ هي مجرد محصلة للتوافقات، وعاء يعكس هذه الأخيرة (في 1943، ثم في اتفاق الطائف)، فكأنها صالون استقبال دائم. لا أساس خاص بالدولة اللبنانية كما يفترض بأن يكون لدولة حديثة، وكما تُعرّف طبيعة الدول: من كونها قائمة، مستمرة، بغض النظر عن السلطات. وبالطبع تتغير الدولة في كل مكان، بحسب ما يُتخذ من تدابير وقوانين يمكن أن تفعل فيها، إلا أن لها حيثيتها الخاصة، العميقة، المستقرة، سواء أكانت أعمدتها مشكّلة من البيروقراطية المدنية أو العسكرية أو من كليهما. تقوم بإدارة كل شيء بناءً على تصور عميق عن الذات، ومع اعتبار لمصالح من هم "الأهم". وهذا "التصور عن الذات" يمكن تسميته ب"الوطنية" أو بما تشاؤون (وليست الوطنية دوماً مديحاً أو صفة خيّرة إيجابية!!). قبل الاستقلال، في 1943، بعد 20 عاماً أو أزيد بقليل على إعلان نشوء "لبنان الكبير" على يد الانتداب الفرنسي، أُنجز ما سمي "الميثاق الوطني". وهو- الميثاق - كان شرطاً من شروط التهيئة لذلك الاستقلال.
وبغض النظر عن النظرية وعمن بلورها وعن كل تفاصيلها ومحاجاتها، فإن من أنجز الميثاق وحوّله إلى توافق وطني في حينه كانوا أركان الوجاهة العليا في لبنان الكبير ذاك (المدينية بالأخص). وجهاء راسخون في بيئاتهم، وأصحاب مال ونفوذ، ومعه بعض الحرص والحكمة. سنّة وموارنة بالدرجة الأولى باعتبارهما الطائفتين الأكبر والأوجه، ومعهم الأرثوذوكس المتعلمون، بالطبع بعض وجهاء الشيعة. وأغلب هؤلاء بكاوات وأفندية... ما زال أحفادهم حريصين على اللقب العثماني، أو هم "متفرنسون" حين لا يكون الأمر كذلك.
بلدٌ اتفق هؤلاء يومها على أن قيامه مرتبط بتعيين دوره، وإلا فلن يقوم. وكان أن مهمته هي التجارة والتوسط بين أوروبا والمنطقة العربية، باعتبار فرادة تركيبته. واعتبروا أيضاً أن طبيعة "مهمته" تلك تتطلب قدراً من المرونة والانفتاح والاعتدال والتسامح.. سميت "حرية". وأنه يمكن أن يكون واحة مالية (البنوك فروع الشركات والوكالات) ومعرفية (بفضل الجامعات العريقة، والتي كان قد مضى على تأسيسها مئة عام أو أزيد). ومع البحبوحة، تتوفر سياحة متنوعة في ربوع البلد الجميل، وخدمات بمستوى من الجودة لا وجود لما يضاهيها في سائر المنطقة: طباعة ودور نشر وصحف ومجلات، واستشفاء وتعليم جيدان على كل المستويات، بما فيه اتقان عدة لغات أجنبية، وترفيه متنوع الخ الخ..
اشتغل هذا "الميثاق الوطني" طالما كانت عناصر تكوينه فاعلة: طالما كان الغرب هو أوروبا، وفي القلب منها فرنسا، وطالما كانت المنطقة العربية بحاجة لخدمات هذه النخبة الغريبة العجيبة. ولكنه كان اتفاقاً هشاً تعريفاً، مرتهناً إلى صفقة يمكن لأي طارئ أن يحفّز على إعادة النظر فيها. هكذا وقعت "ميني" حرب أهلية (ستة أشهر) في 1958، لأن عبد الناصر بادر إلى قبول الوحدة مع سوريا، وإعلان "الجمهورية العربية المتحدة"، بينما كان نوري السعيد قد أسس في العراق - بمعيّة البريطانيين والأمريكان - "حلف بغداد" في العام 1955، الذي كانت مهمته المعلنة هي محاربة "المد الشيوعي". وهو اقنع الرئيس اللبناني وقتها، كميل شمعون، (ومن دون تفاصيل، فقد كانا صديقين منذ زمن طويل، واشتركا معاً في أطر سياسية في السابق) بالانضمام لهذا الحلف. هل هو من أقنعه؟ أم هم الأمريكان الذين أنزلوا دعماً له قوات من "المارينز" على شواطئ جونية، حين اشتعل معظم البلد رفضاً لهذه الخطوة، بل وطالبوا بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة. المهم، رحل شمعون على إثر ذلك، واتفق الأمريكان مع عبد الناصر على الإتيان برئيس جمهورية هو قائد الجيش فؤاد شهاب، وكان اشتهر بنزاهته، وبميله لعقلية المؤسسات (محاولة إيجاد "دولة" تبني مؤسسات وتعتمد على الكفاءات). ولعل سائر قادة الجيش الذين جاؤوا كرؤساء للجمهورية بعد "اتفاق الطائف" الذي أعلن إنهاء الحرب الأهلية الطويلة (1975- 1990).. اعتقدوا أنهم أشباهه!
وأما التجربة الشهابية فقد عمّرت سنوات قليلة، ثم نخرها نظام المحاصصة الطائفية الذي يوفر للزعماء مصالحهم وأرباحهم، ويصون إعادة توزيع فتاتها على دوائرَ من الزبائن متفاوتة الأحجام، دوائر من الناس تحتاج لرضى الزعيم، ودعمه حتى تنال حقوقها في التوظيف والأعمال. و"الزعماء" يقاسمون أفراد تلك الدوائر الأرباح لو كانت كبيرة، ويمننونهم بكل الأحوال بأنهم آلهتهم، وأنه لا حياة لهم من دونهم. وبالفعل فالإنسان في لبنان يولد ويتعلم ويشتغل ويتزوج ويموت داخل طائفته. وهي التي تنظم كل شؤونه. ولا حيّز أبداً خارجها... هذا نظام مبني، وليس مزاجاً سائداً.
.. ها نحن أمام الحاجة إلى إبرام ثلاثة "توافقات" كبرى في مدة تقل عن نصف قرن: 1943، 1958، 1990! وبينها كل التوترات الممكنة. أو ما يسمى في لبنان "الأزمة الدائمة، وهي طبيعة نظام المحاصصة الطائفية نفسه. سوى أن الاتفاق الأخير – الطائف – كان صفقة متخلعة بكل معنى الكلمة، وجاء في وقت اهتزاز إقليمي ودولي: بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، وطرد المقاومة الفلسطينية منه، وتشتيتها في كل أصقاع الأرض، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومعه المعسكر الاشتراكي المعبَّر عنه رمزياً بسقوط جدار برلين، وما افتُرض أنه سيادة الأحادية القطبية على العالم، ومعها مفهوم النيوليبرالية وثقافتها، ومع بدء التحضير للحرب الأمريكية على العراق، وبعيد "اجتماع مدريد" للتعامل مع المسألة الفلسطينية، والتمهيد لـ"حلول" لها على طريقة "صفقة القرن" الترامبية الحالية، ولو بوجل وخفر أكبرين...
"صفقة الطائف" إذاً كانت توليفة تمت على عجل، ولزوم تدبير إطار لحكم لبنان بالتي هي أحسن (المفتقِد بشكل متعاظم لأهميته). وهي اختُصِرت ببعض التعديلات على نسب المحاصصة الطائفية، سواء في البرلمان أو في الوزارات أو في الوظائف العليا أو في "البزنس". ولكن الأهم أن لبنان - الذي كان قد فقد دوره التأسيسي منذ زمن، كوسيط ضروري ونافع بين عالمين تغيرا كثيراً أو تبعثرا، ثم عاد ففقد أهميته أو خطورته مع خروج المقاومة الفلسطينية منه - صار معلّقاً في الهواء.
وقد راهن رفيق الحريري على إعادة تعريف "دور" لبنان (على الأقل أدرك ضرورة ذلك، وهو ما يُحسب له)، على أساس أن اجتماع مدريد/ اتفاق أوسلو سيتحققان، وأن المنطقة مقبلة على سلام وازدهار، وأنه يمكن أن يعاد تعريف مكانة البلد وسطهما (فبنى مثلا الأوتوسترادات التي تتجه شمالاً باتجاه سوريا، وجنوباً باتجاه كان يفترض أنه يمكن أن يكون فلسطين- إسرائيل، وبنى ال"داون تاون" لأثرياء الخليج ليعودوا إلى ربوع البلد الذي هجروه خلال حربه الأهلية الخ)... وحكم ذلك الافتراض أيضاً منطق "إعادة الإعمار" بعد الحرب، ما لا يمنع التفكير بالأرباح والمكاسب المهولة ل"الخاصة"، وخصوصاً أنه كان من نتائج تلك الحرب الأهلية المديدة "تجديد" الزعامات والنخب، حتى حين يُحافَظ على اسم العائلة نفسه. فبشير الجميل لا يشبه أباه. وأما سمير جعجع فكان شاباً "مستحدثاً" وليس سليل الوجاهات المؤسِّسة، آتياً من إحدى أطراف المنطقة المارونية (بشرّي) وفقيراً بالأصل، بل هو يقول أنه فكّر في شبابه بالانتساب إلى الحزب الشيوعي، وكان يقرأ جريدته. وأما رفيق الحريري الذي تنطبق عليه الكثير من مواصفات جعجع، وكان عضواً في "حركة القوميين العرب" في شبابه، فكان رسول مشروع أكبر من لبنان. وأما الزعامة المتمثلة بالإقطاع الشيعي التقليدي (آل الأسعد وحمادة خصوصاً) فقد عصفت بها وبددتها "حركة المحرومين" بداية ثم "أمل"، ثم حزب الله، ومعه تحقق صعود أبناء الطائفة الأفقر في لبنان إلى الثروة (بداية من الهجرة إلى إفريقيا، ومراكمة رأس مال كبير هناك يعاد توظيفه ولو جزئياً في لبنان، أو التباهي به على الأقل)، ثم بالتعليم وبالثقافة وبتبوء المناصب.. عن جدارة، أو حتى عن وساطة وزبائنية مثل الباقين تماماً. يا الله كم تغير لبنان!
لبنان: اللعنة عليكم!
19-09-2019
ويقول كل ذلك كيف أن صيغة المحاصصة الطائفية تلك تمتلك قوة مادية وليس رمزية فحسب. قوة لا علاقة لها بالمشاعر أو بالمعتقدات، يستبطنها الناس وتصبح جزءاً من بنيتهم النفسية والعقلية، شيئاً بديهياً مألوفاً منهم. كان يقال في طرابلس المعدمة أنهم "الموارنة"، من يعتدون على حصتهم هم، وياخذون أكثر من حقهم خلافاً للاتفاق، فيتسببون بافقارهم، ثم صار يقال أنهم "الشيعة". آخر هو الظالم والشرير، وليس النظام القائم. وحين اكتشف الطرابلسيون أن غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت يديرها متنفذون واثرياء من السنّة، ذهلوا. وأن المرفأ الذي صار من عشرة أرصفة في بيروت، بينما ممنوع على مرفأ طرابلس التوسع، يدار كذلك من أمثال هؤلاء، ذهلوا. وفهموا أن الشيعة الذين قيل أنهم يسيطرون على التجارة عبر وضع أيديهم على المطار والاستفادة من اعفاءات جمركية غير مشروعة، هم ليسوا كل الشيعة، وإنما رفاق "زعمائهم" بغض النظر عن الأيديولوجيات والشعارات، وأن عموم "الشيعة بدهم ياكلوا"، أي أنهم جياع، مثلهم تماماً، وكذلك عموم الموارنة.
الإقطاع السياسي الجديد: رث
صار لبنان يُدار من ساسة يشبهون في كثير من النواحي الإقطاع السياسي القديم، وإنما مع طفوح الشكل والمضمون الرثين عليهم، حيث تتغلب التفاهة والجهل... بشكل يثير الخجل! وفي وقت تتناقص ثروة لبنان لأسباب موضوعية. وبعد استباحته المدمِّرة من قبل الاحتلال السوري له، الذي دام على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، وبعد 15 سنة من الحرب الأهلية فيه، يمارِس هؤلاء نهباً بدائياً منفلتاً من كل عقال، وهو يطال كل شيء. وأما الصفة الخاصة بمعظم هؤلاء، فهي كونهم مقتَلعون من بيئاتهم، نبتوا فيها على السطح، مثل الفطر في الأقبية.
وإذا كان نظام المحاصصة الطائفية قد تعطّل لأنهم "طلعوا بدهم ياكلوا، مثلنا"، أي أن الفقر الشديد والشعور بالإهمال، وبانسداد الأفق قد تعمم لدى كل أبناء "الطوائف"، واكتشفوا أن زعمائهم المُفدّيين ليسوا سوى لصوص جشعين إلى حد أنهم يخرِّبون البلد عن قصد، وعمداً، لمزيد من النهب (مسألة الكهرباء هي أفضل مثال)، وأنهم غير مكترثين باحد سوى بأنفسهم (مسألة التصارع على عوائد النفايات التي انفجرت في 2015 هي كذلك مثال فصيح)، وأنه لا شأن لهم بالشأن العام بتاتاً (مسائل توفير التعليم والصحة الأساسيين مثالاً)، مما يعني أنهم غير مكترثين بقواعدهم الزبائنية نفسها، وقد أحالوها إلى شحاذين بالمعنى الحرفي للكلمة، يستجدون "كراتين" التموين من أمام مراكز "الزعماء"، ويستجدونهم قسائم استشفاء صمموها بقدرة قادر لولوج المستشفيات الخاصة، وهي تصل غالباً بعد فوات الأوان أو لا تصل أبداً.. حتى صارت صفات الزبائنية نفسها منحطة انحطاطاً شديداً حتى عما كانت، أي عن المحاصصة، التي هي بمعنى ما "حقٌ" لكل فئة في ظل النظام..
النفايات في لبنان: أين "الكامورا"؟
16-08-2019
"زعماء" أحالوا البلد يباباً، فازداد فقر الفقراء وأُعدِمت الطبقة الوسطى التي يهاجر أبناؤها – شباناً وشابات - للعمل حيث يتمكنون، بعدما يُنفق عليهم أهاليهم مالاً مهولاً لتأهيلهم لوظائف وأعمال في .. الخارج، أو يتسكعون في المقاهي بانتظار الفرج. وقد عرفوا بالملموس أن "زعمائهم" متفقون في الكواليس على تنظيم تقاسم ترانزيت مشاريع إعادة اعمار سوريا مثلاً، ولا تعطّل خصوماتهم اليومية اتفاقهم هذا، وكذلك لا تعطله مواقف بعضهم المعلنة، المعادية لبشار الأسد ونظامه... بحيث صارت تهمة "العمالة" لسوريا نكتة يتداولونها فيما بينهم. والشاهد على ذلك ما يجري في مرفأ طرابلس، أو عبره. ومن هذا الترانزيت إلى سوريا لا ينتفع أحد من أبناء المدينة البائسة المهملة إلى حدود النكبة (58 في المئة من أبنائها عند خط الفقر حسب تقرير للأمم المتحدة)، ولا حتى في العمل كحمالين!
تتمثل صفة "الرث" في هذه المعطيات، وهي التي تجعل هؤلاء "الزعماء" منقطعين عن قواعدهم، ولا يفهمون ما يجري الآن، وما زالوا يفكرون بالعقلية نفسها، فيتجادولون حول صيغ للتعديل الوزاري، إرضاء للملايين الغاضبة. صيغاً تافهة، معدومة الخيال السياسي، وأدنى بكثير من الحد الأدنى من اليقظة لو كانوا يريدون الحفاظ على حد أدنى من الصدقية.
حالة حزب الله
يختلف سياق نشوء حزب الله ومساره عن هذا التوصيف. إلا أنه على ذلك ليس منشغلاً إلا بالاعتبارات التي يسميها "جيواستراتيجية"، وهي في حقيقة الأمر وأكثر فأكثر تخص مكانة إيران في الصراع الإقليمي الدائر. هو لا يفكر بالناس وبهمومهم، بل لا يكترث إلا لسطوته، وللتوازنات التي تُوظّف في أبعاد لا تخص الحياة اليومية لهؤلاء الناس، بمن فيهم أبناء البيئة التي يتحرك وسطها، ويجنِّد شبابها في حروب مشروعة وغير مشروعة..
وهو بعد صموده في وجه العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، أصيب بالغرور ومعه بقلة البصيرة، ومارس فعلاً بشعاً في 7 أيار/ مايو 2008، حين أراد – عن حق – تعطيل مؤامرة أمريكية إسرائيلية كانت فعلاً جارية عليه، فبدأ بالاعتذار وبالقول إنه اضطر إلى احتلال بيروت ذات صباح. ثم عاد الغرور فغلب، وراح بعد أسابيع من ذلك الاعتذار يهدد "بتكسير الرؤوس"، وما زال.. يا للخيبة!!
ولم يساعده في التبصر أن ارتباطه بإيران قد تفاقم بعد هذا التاريخ، وكذلك بعد انفجار 2011 في المنطقة. ولم يساعده أنه طُلب منه إيرانياً لعب دور بشع في اليمن وفي العراق، فدرب نكاية بالسعودية المنشقين الجنوب يمنيين بداية وقبل 2011، ثم درّب وتعاون مع بعض الفصائل الموتورة من "الحشد الشعبي" في العراق، وما زال.
____________
اقرأ/ي أيضا
مدينة طرابلس: من يقوى على الحلم؟
____________
هذا "الاختلاف" في السياقات لم يمنع "تبرجز" بعض كوادره، وانخراط بعضهم الآخر في التعاطي مع أشكال متنوعة من الاستفادة من سلطة حزبهم في "البزنس" كما في المناصب. كما لم يمنع ذلك تضخم حجم المؤسسة الخاصة التي بناها، والتي تشمل منح المرتبات، وتوفير الضمانات الصحية والاجتماعية ومعهما التعليم، وحتى السكن في بعض الحالات، والتي خلقت بيئة واسعة مرتبطة معيشياً به، بغض النظر عن شعارات "لبيك يا زينب" و"يا حسين" (والشعار الأخير رُفع مؤخراً في طرابلس رداً على إحراق علم حزب الله من قبل أحد الشبان). أما معاداة إسرائيل، فقد صارت نوعاً من "المتاجرة"، مثلها مثل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" العتيد، يُقصد بها التغطية على سائر الصفات البشعة.. ولكن الخشية هو أن تتسبب بما يشبه رد الفعل الذي يكْفر بفلسطين، لولا أن هذه عليها إجماع في طول المنطقة وعرضها..
كما أن أزمته المالية الكبيرة الحالية لا تتيح له بالطبع إرضاء كل أبناء البيئة التي يتحرك وسطها، ما يُوسِّع دائرة المتفلتين من سطوته وشبكاته. وكذلك، فإن "السهولة" التي افترض بأنه يمكنه أن يدير بها تجنيده لعشرات آلاف الشبان للقتال في سوريا، والثمن المهول الذي دفعه هناك، لا يخدمان بالتأكيد شعبيته، وذلك على الرغم من كل التخويف والتحريض... وعلاوة على كل ذلك، فقد ارتفع منسوب طابعه الطائفي البحت. كل ذلك أحال حزب الله رويداً من وضعية إلى أخرى، وإن كانت الوضعية الحالية كامنة بالأصل في نواة الأولى، إلا أنها صارت الآن فجة ومطلقة.
ماذا بعد؟
الله أعلم! الأزمة عميقة، وليست ظرفية ولا جزئية ولا عابرة. وهي تتعلق ببنية متكاملة رست في العقود الأخيرة، بينما لم يكن وضع لبنان أصلاً، وقبلها، لا آمناً ولا مزدهراً. المراهنة هي على أن يكون الخوف الذي طغى على السلطة بكل رموزها خلال انفجار الناس رادعاً كافياً عن القمع المباشر: كان ربع عدد سكان لبنان في التظاهرات! مليون ومئتا ألف في أحد الأيام. وهي مستمرة لليوم الثامن، وبزخم عالٍ على الرغم من الأمطار. وهي سيّست من كانوا حقاً أبعد الناس عن التسييس. وهي رائعة في سلميتها، وفي تجاوزها للانقسامات الطائفية، وفي سخريتها من الكل. ولكن هؤلاء "الكل" سيلجؤون إلى ما يمكن أن يخيف الجمهور الأعظم، عبر التخريب، وعبر افتعال المشاكل العنيفة وما يشبهها، بواسطة زعران يسمونهم في مصر "البلطجية" وفي فلسطين "السحتجية".. وحين يصبح عدد الباقين في الشارع معقولاً ومقتصراً على بضعة آلاف من المتظاهرين، يمكن ساعتها – ربما – اللجوء إلى العنف الرسمي..
إلا أن ما تحقق صار ملك الناس كلهم، وهو ثمين للغاية. فكيف يُبنى على أساسه وكيف لا يُبدد، وكيف يُقطع الطريق على المحبَطين (بصدق أو عن كذب) الذين سيسارعون للقول عند أول نأمة: لا نفع ولا فائدة وأنتم سذّج، أو قد يقولون أن بعض من كان في التظاهرات مجرد وصوليين الخ.. وكيف يُقطع الطريق على المتعالِمين، الذين يقولون "لازم تنظيم"، و"لازم أطر" و"لازم برنامج"، وهي ادعاءات محقة لولا أن القصد بها في مثل هذا الظرف هو إرجاع الناس إلى بيوتهم وإلى بؤسهم ويأسهم.
"الطريق تُشق أثناء السير بها"، قال الشاعر الأندلسي "انطونيو ماتشادو". نحاول وقد نفشل.. إلا أننا سنعيد المحاولة! هذا هو الصراع، وهو قانون الحياة.