العلاج على نفقة الدولة.. سند الغلابة في مصر

هل سيتم تطوير منظومة العلاج المجاني وصولاً إلى تطبيق التأمين الشامل، أم هل سيتم تركها للتآكل الذاتي؟
2019-10-09

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
رشوان عبد الباقي - سوريا

"ليست مجرد ورقة، ولكنها تأشيرة حياة". لم يأت هذا التعبير على لسان كاتب مهموم، وإنما من طبيب مسؤول ترأس لفترة المؤسسة الطبية في مصر، المنوط بها مباشرة أوجاع ما لا يقل عن 45 في المئة من المصريين. أي ما يقارب 45 مليون إنسان ممن لا ينتمون لفئات اقتصادية قادرة على تحمل مصاريف العلاج الخاص، وليسوا محسوبين على أي من أنظمة التأمين، فيكون البديل الوحيد أمامهم حين يباغتهم المرض هو الهرولة إلى أقرب مستشفى حكومي، أو التوجه مباشرة إلى العاصمة من أجل السؤال عن تشخيص صحيح، وفرصة للحصول على قرار "علاج على نفقة الدولة". دون ذلك، الصورة قاتمة إلى حد لا تحتمله تلك الأرواح التي أرهقها ضيق الحال وقلة الفرص أمام العيش الكريم.

وها نحن أمام أكثر من عشرين عاماً هو عمر هذه التجربة، بكل إنجازاتها الكبرى وكبواتها، وقد ارتبط اسمها باستغلال وفساد نواب برلمانيين حيناً، ولكنه ارتبط أكثر بسعي آخرين، نواب وأطباء ومتطوعين من أجل نجدة آلاف المحتاجين. كان المقر القديم بوسط العاصمة رمزاً لفكرة أنْ لا شيء يفوق الحاجة للعلاج، وكانت الطوابير الممتدة تهين المعنى كثيراً، ثم تحمل طوق النجاة أخيراً، ولا يزالون جميعاً لديهم ما يقولونه.

اجتهاد بالقلب

تنتشر "الشبكة القومية للعلاج على نفقة الدولة" في محافظات الجمهورية، وتشمل 27 مجلساً طبياً فرعياً بجميع محافظات الجمهورية، و12 من كبرى المستشفيات، وإجمالي 400 مستشفى محلي. بدأ التوثيق لإصدار قرارات "العلاج على نفقة الدولة" منذ العام 1997، وبعد عشر سنوات تمّ وضع خطة على ثلاث مراحل، وهي، وفق الإعلان الرسمي الأخير قد أنجزت 60 في المئة من أهدافها، وشمل الاتجاه نحو مكننة القرارات، وإصدارها فورياً دون اضطرار للذهاب إلى المقر الرئيسي بالقاهرة. كما أن "الإنترنت" أصبح الكلمة المرجوة للخلاص من أسابيع الانتظار وطوابير المناداة على المريض تلو الآخر بالاسم، وهنالك طموح معلن عن الرغبة في استخدام خاصية "الفيديوكونفرنس" للاطلاع على المريض بالحالات الحرجة، وذلك من مكان تواجده بالمستشفى المحلي الصغير دون الاضطرار للانتقال للمركز.

حجم التغطية السنوية، وفق البيانات الرسمية، يصل إلى 1.03 مليون طلب في عام واحد، بتكلفة تتراوح سنوياً بين 1.5 إلى 2 مليار جنيه . جاءت 70 في المئة من طلبات العلاج عبر التسليم باليد في النوافذ المحددة لذلك ب 190 مستشفى. أما عدد القرارات الصادرة فهو 1.4 مليوناً، وسبب الزيادة يعود إلى طلبات متأخرة من عام لآخر، بينما لم يزد عدد الأطباء المستقبِلين للطلبات عن 25 طبيباً. متوسط مدة إصدار القرار من المقر الرئيسي هو خمسة أيام، ثم يتباين تاريخ وصولها للمستشفى المحلي. تغطي هذه القرارات أمراض الباطنة بنسبة 90 في المئة، وتشمل ضغط الدم المرتفع والسكري والتهاب الكبد الفيروسي والفشل الكلوي وقصور شرايين القلب. هناك ما يقارب الـ 200 ألف حالة تتعلق بالأورام، وأخيراً حالات أخرى تتعلق بجراحات الحوادث وأمراض الدم والعيون.

نحن أمام أكثر من عشرين عاماً هو عمر هذه التجربة، بكل إنجازاتها الكبرى وكبواتها، وقد ارتبط اسمها حيناً باستغلال وفساد نواب برلمانيين، ولكنه ارتبط أكثر بسعي آخرين، نواب وأطباء ومتطوعين من أجل نجدة آلاف المحتاجين.

يحدث هذا بناءً على دورة عمل مكررة، تبدأ بقطع المريض تذكرة بجنيه واحد للكشف بالعيادات الخارجية، وهي العبارة التي تحمل كثيراً من المزايا والعيوب في آن واحد. بعد رحلة فيها الكثير من الصبر والتعاطف والشقاء، يستطيع المريض الحصول على تقرير طبي يفيد بضرورة عرضه على لجنة ثلاثية داخل المستشفى. وبناءً على قرار اللجنة بأحقيته في الحصول على علاج على نفقة الدولة، يتقدم بأوراقه كاملة لنافذة تلقّي الطلبات، فيقوم الموظف المختص بتسجيل البيانات وملء نموذج الكتروني مرتبط بالشبكة القومية. تتم معالجة الطلب إلكترونياً بالمركز الرئيسي، وعرضه على اللجان الطبية المتخصصة إلكترونياً (إذا لم يتطلب الأمر كشفاً سريرياً)، ثم يُتخذ القرار ويُخطر المواطن برسالة قصيرة على الهاتف المحمول، فيتجه للمستشفى لتلقي الخدمة العلاجية المقررة.

أوجاع بالصورة

وعلى الرغم من هذه الإجراءات المحكمة الواضحة، التي جاءت نتيجة عمل مستمر لأكثر من 20 عاماً تحت مظلة إدارة الطب العلاجي بوزارة الصحة، إلا أنه لايزال هناك العديد من مساحات القصور التي تحتاج تطويراً عاجلاً أو تغييراً شاملاً. فبعضها بطبيعة الحال يتعلق بما هو أكبر من منظومة العلاج، أي بحركة الاقتصاد المحلي وعلاقته بصناعة الدواء وغيرها من فروع الشبكة، التي تحيط بالمريض داخل دولة تعاني من اعتلال بنمو اقتصادها وموازين توزيع الدخول فيها.

سيحكي لك المواطن "م" عن تجربته بعد الحادث الأليم، دخل إلى المستشفى الحكومي للمرة الأولى عبر باب الطوارئ بعد تعرضه لحادث على الطريق، ووفق القانون المصري يحق له تلقي العلاج مجاناً لمدة 28 ساعة. لكن هذا التدخل الجراحي والعلاج لم يشمل تجبير عظامه، قال: "خَيطوا لي الجروح، وأمدّوني بكيس دم لتعويض النزيف، ووضعوا ساقي اليمنى في الجبس، وتقدموا بأوراق علاجي على نفقة الدولة من أجل إجراء تركيب شرائح ومسامير لا بد منها حتى لا أصاب بعاهة مستديمة تعيقني عن السير. أخبرت إدارة المستشفى أسرتي أنه "كان يتم من قبل إجراء العملية وشراء المستلزمات المطلوبة دون انتظار القرار، ثم تجري تسوية الأوراق. لكن مع ارتفاع مديونية المستشفيات لدى شركات المستلزمات، لم نعد نستطيع فعل ذلك". كانت الآلام تزداد في ساقه وتهدد بإصابتها ب"الغرغرينا"، فكان الحل الوحيد المتاح أمام المواطن هو أن يشتري المستلزمات على نفقته الخاصة، ثم يعود بعد شهر إلى المستشفى ليصرف مستحقاته وفق قرار العلاج، والتي جاءت كما هو متوقع أقل من أسعار القائمة الحديثة للشركات.

تنتشر "الشبكة القومية للعلاج على نفقة الدولة" في محافظات الجمهورية، وتشمل 27 مجلساً طبياً فرعياً بجميع محافظات الجمهورية، و12 من كبرى المستشفيات، وإجمالي 400 مستشفى محلي. حجم التغطية السنوية، وفق البيانات الرسمية، يصل إلى 1.03 مليون طلب في عام واحد، بتكلفة تتراوح سنوياً بين 1.5 إلى 2 مليار جنيه.

لم يكن الأمر كذلك لدى المواطنة "ي" حين أصيبت بسرطان الثدي، قالت : "كانوا رحماء بي، ومن غيرهم كان لا مفر من الموت". وفق بروتوكول العلاج، كان لا بد من الشروع فوراً بتلقي أولى جرعات الكيميائي عقب إجراء عملية الاستئصال. لم تنتظر المستشفى وصول القرار، تلقت السيدة أولى جرعاتها واستلمت القرار بعد ذلك بأسبوعين.. كانت هناك رحمة، ثم نزعت عن الجميع حين عانت المستشفى نفسها من نقص الإمكانات. أنواع رئيسية من الدواء الكيميائي شحت، وتوقف جهاز رئيسي للإشعاع العلاج. تم تدارك الأمر خلال شهر، لكن من يضمن عدم تكراره؟

صوت من الداخل.. يستغيث

قد يكون من دواعي الأمل أن هذه المشكلات وغيرها مرصودة بالفعل من أصحاب العمل. فوفق تقرير صادر عن إدارة الإحصاء بالمجالس الطبية المتخصصة في مصر، المسؤولة عن إصدار القرارات، ذكرت عشر توصيات تختصر بوضوح مكامن الضعف، بعضها تعلق بالعنصر البشري، وأغلبها تعلق بعجز الميزانية في ضوء الاحتياجات المتزايدة. في بلد ضربته موجة من أمراض الكبد والسرطان والكلى، نتيجة التلوث وإفساد للطعام والشراب والهواء في السنوات الثلاثين الأخيرة .

أشار التقرير أولاً إلى ضرورة إرساء مبدأ الدعم الدائم لميزانية العلاج على نفقة الدولة وسط مطالبات برفعها إلى 5 مليار جنيه، وهو ما يأتي معاكساً سياقاً عاماً تتبناه الدولة المصرية وفق نصائح صندوق النقد الدولي، يعمل على تقليص الخدمات ووقف الدعم في مجالات الصحة والتعليم والمواصلات العامة.

وانتقل البند الثالث من قائمة الأمراض إلى قائمة العلاج، وأسعار الخدمات المقدمة. فمن المعلوم أن قائمة "الأكواد" المحددة من وزارة الصحة لا تتناسب - على الرغم من أي مجهودات مبذولة - مع الارتفاع الدائم والمحموم في أسعار الدواء والمستلزمات الطبية. وهي القضية التي لا يمكن طرحها بمنأى عن دور الدولة في تحقيق الحد الأدنى من الأمن القومي في صناعة الدواء، خاصة وأن لدى مصر شركات عريقة تم إيقاف الإنتاج في خطوط أغلبها، ولا يتم طرح حلول إيجابية لأسباب تعثرها إلى الآن.

"كانوا رحماء بي، ومن غيرهم كان لا مفر من الموت". ووفق البروتوكول، كان ينبغي الشروع فوراً بتلقي أولى جرعات العلاج الكيميائي عقب إجراء عملية استئصال الورم من الثدي. لم تنتظر المستشفى وصول القرار، بل أعطت السيدة أولى جرعاتها، واستلمت القرار بعد ذلك بأسبوعين... ثم نُزعت هذه الرحمة عن الجميع حين عانت المستشفى نفسها من نقص الإمكانات.

تحدث التقرير عن وضع حلول جذرية لمشاكل مثل "بدلات" انتقال مرضى الفشل الكلوي، وكم الدعاوى القضائية المقامة ضد الوزارة في هذا، وهو ما يعود بنا إلى ما سبق ذكره لجهة عدم تناسب حجم المبلغ المعتمد مع حجم التكلفة الحقيقية. وقد وصل الأمر ـ وفق التقرير نفسه ـ إلى إحجام بعض المستشفيات عن صرف العلاج للمرضى لوجود مديونيات سابقة على المرضى، مثلما حدث في المعهد القومي للأورام: فعند إصدار قرار العلاج لا يتم صرف الجرعة للمريض، وإنما تصادر لتسديد المديونية التي تكونت نتيجة فروق الأسعار والتي أصبح المريض مطالباً بتحملها .

الرقابة عنوان واسع، أشار له التقرير في أكثر من منحى من دون تحديد، فألمح إلى ما يتطابق ومشكلة المواطن "م" حيث تتآكل مساحة العلاج المجاني بالمستشفيات. حتى أن بعضها يحجم عن عمل الجراحات لعدم إرهاق موازناته العامة، فلا مانع من إغلاق باب العلاج في وجه مريض محتاج مقابل ألا تصدر التقارير السنوية بعجز ملحوظ يدين الإدارة الجديدة .

تحجم بعض المستشفيات عن صرف العلاج للمرضى لوجود مديونيات سابقة عليهم، وهو ما حدث في المعهد القومي للأورام: فعند إصدار قرار العلاج لا يتم صرف الجرعة للمريض، وإنما تُصَادر لتسديد المديونية التي تكونت نتيجة فروق الأسعار، والتي أصبح المريض مطالباً بتحملها.

وفيما يتعلق أيضاً بالعنصر البشري، جاءت بعض الملاحظات العامة، فعلى الرغم مما تظهره البيانات من صدور القرارات فور وصولها للمجلس ولا تتأخر عما متوسطه 5 أيام، فإن رحلة صدور القرار، ثم أن يستفيد منه المريض قد تتخطى الشهرين، والسبب هو تلكؤ الموظفين في إرسال البيانات، والاعتماد الكامل على التكنولوجيا في ذلك. أما القصور التكنولوجي المتعلق بالمجلس الرئيسي، فيظهر في حالات مرضية حرجة تحتاج إلى عرضها على لجان عليا، مما يعني الانتقال في رحلة شاقة إلى القاهرة من كل حدب وصوب، بدلاً من اعتماد ميزانيات خاصة تسمح بانتقال لجان تخصصية متنقلة إلى المحافظات لمناظرة المرضى، أو اعتماد خاصية "الفيديو كونفرنس" بشكل حقيقي مفعل ليتحقق التواصل والكشف وتحديد العلاج عن بعد.

***

العمل كبير ولايزال أيضاً قيد التطوير، لكن أسباب العجز أصعب. وتعلن الدولة عن خطتها طويلة الأمد لتطبيق نظام التأمين الصحي الشامل خلال 15 عاماً بما يتيح إعادة تقسيم شرائح المرضى، واقتصار "غير القادرين" على أصحاب الأمراض المزمنة، ومن يتلقون إعانات إعاشة وبطالة مباشرة من الدولة، أو لديهم ما يثبت قلة دخلهم الشهري عن الحد الأدنى للأجور المعتمد رسمياً.

أعوام قادمة، تتداخل الأصوات حولها والتكهنات، فهل سيتم تطوير منظومة العلاج المجاني حتى تطبيق التأمين الشامل، أم هل سيتم تركها للتآكل الذاتي؟

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...