رواية الوضع في السودان!

ليست المؤامرة – كما روتها رويترز - أصل الحدث ولا هي نبضه، ولا المقرِّر فيه، حتى وإن كانت صحيحة. يميل الناس الى تصديق خبريات المؤامرات لأن ذلك أسهل على الفهم، وإنما وخصوصاً لأنهم فقدوا الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على الفعل، وبقيادات تدعي النطق باسمهم وتكرر خيانتهم.. فتكون المؤامرات هي قوى الجن والشر القديمة وقد ارتدت لبوساً حديثاً.
2019-07-04

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
من مظاهرات 30 يونيو في السودان

من يتابع أخبار السودان يقف باعجاب كبير أمام المظاهرات التي عمت البلاد يوم 30 حزيران /يونيو وشملت 14 ولاية من ولايات البلاد الثمانية عشر، وأنزلت الى الشارع في ذلك اليوم وحده ما قدر بأكثر من 12 مليون انسان من أصل الـ40 مليوناً هم عدد سكان السودان بعد انفصال جنوبه عنه. وهذا يعني اجماعاً وطنياً شاملاً في بلد مترامي الاطراف (تقترب مساحته من مليوني كلم مربع إلا قليلاً)، متعدد الظروف، ومتنوع التركيب الاثني والديني والجهوي والقبلي. وقد قامت "قوات الدعم السريع" (الجنجويد سابقاً التي ارتكبت فظائع في دارفور وسواها) بأعمال قنص واطلاق نار خلال ذلك اليوم، لكنها لم تثنِ المتظاهرين والمتظاهرات، ورمت ببعض جثث من اعتقلتهم على قارعة الطريق بعدما قامت بتعذيبهم، وتركت آثاراً ظاهرة بقصد بث الرعب في القلوب.. بلا طائل. كما لم يردع الناس عن تكرار الاحتجاج العارم والمطالبة بحكم مدني، فض الاعتصام مطلع حزيران/ يونيو بوحشية أدت الى سقوط 130 قتيلاً بين المعتصمين، ألقي بجثث بعضهم في النيل لمزيد من الإرعاب.. بلا طائل.

وقد أعلن تحالف "قوى الحرية والتغيير" عن برنامج تحركاته للأيام المقبلة وعن يوم اضراب وعصيان كبيران في منتصف الشهر الجاري، فيما هو وافق في الوقت نفسه على استئناف التفاوض لأيام قليلة مع المجلس العسكري بناء على وساطة المبعوث الاثيوبي والاتحاد الافريقي.. ليس أملاً في اقناع هؤلاء الأوغاد، ولكن دحضاً لكل حجة وكسباً لمزيد من الثقة والاحترام من ناسهم كما دولياً، وإظهاراً لسوية عالية في فهم ضرورات الممارسة السياسية، ومن موقع الحرص على تحقيق توافقات حين يمكن، وذلك على أساس مبدئي – وليس كصفقات – ولاسيما أن هذه التحركات قد حققت توازن قوى فعلي ليس في مقدور الرصاص أن يلغيه أو يتجاهله.

وفي الاثناء، تتواتر الأخبار والروايات. وكالة "رويترز" كشفت "السيناريو السري" للاطاحة بعمر البشير، يمكن تلخيصه بأنها اتفاقات جرت في الكواليس ولعبت فيها امبرطورية الامارات العربية المتحدة دوراً أساسياً، تخلصاً من البشير الذي لم يفِ بعدد من تعهداته، مع انه أرسل قوات سودانية للقتال في اليمن الى جانب السعودية والامارات التي ضخت - بحسب رويترز - مليارات الدولارات لحكام البلاد (ولا يهم أن يكون بعضها قد وصل الى البنك المركزي بشكل رسمي، فالنهب لا يقف أمام مثل هذه الاعتبارات!). ولا يُفهم من التقرير ما إذا كانت الامارات قد فقدت الثقة بالبشير لأنه لم يتمكن من استباق التظاهرات الهائلة التي انطلقت في كانون الاول / ديسمبر 2018، ولم يقدر على احتوائها بشكل حاسم، أم أن هناك أسراراً أخرى في علاقته بهم، سننتظر موجة رويات اخرى لتظهر الى العلن. المهم أن رويترز تضع تاريخ التدخل الاماراتي عبر رئيس "جهاز المخابرات والأمن الوطني السوداني" آنذاك صلاح قوش، بعد أكثر من أربعة أشهر من بدء التظاهرات، أي عشية الاطاحة بالبشير في 10 نيسان/ إبريل.

.. لا بد من تصويب الرواية حتى لا تميل باتجاه أن كل هذا الذي يجري في السودان ليس سوى ترتيبات تُحاك في الخفاء، تتشابك فيها الاحقاد والمصالح والحسابات والاطماع.. فقد تكون القصة التي أوردتها رويترز صحيحة، إلا انها ليست أصل الحدث ولا هي نبضه، ولا المقرِّر فيه. وتأكيد هذا ضروري لأن الاستعداد العام لدى الناس هو لتصديق خبريات المؤامرات، ليس لسبب إلا لأن ذلك أسهل على الفهم، ولأنهم خصوصاً فقدوا الثقة بانفسهم وبقدرتهم على الفعل، وبقيادات تدعي النطق باسمهم وتكرر خيانتهم.. وهم أبناء منطقة منكوبة بكل أنواع الفساد والتعسف والاستغلال والقمع والإستهانة، تقع عليهم من قوى عظمى كما من قوى محلية تهيمن على مقدرات بلادهم.. وهول ذلك يدفعهم للاعتقاد المتين بوجود ما يتجاوزهم، فتكون المؤامرات هي قوى الجن والشر القديمة وقد ارتدت لبوساً حديثاً.

وهذا لا يعني أنه لا وجود للمؤامرات والتدخلات، بل هو تعيين لحدودها ودورها وتمييز لها عن العناصر الحاسمة والاساسية في كل فعل، وبالاخص في الحالات التي تشهد تحركات عظمى.

وأما الرواية الثانية فتخص الجنرال (ورتبته مستجدة وهو يطالب بالترفيع!) حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري وقائد "قوات الدعم السريع" /الجنجويد. وهذا اتفق مع شركة علاقات عامة كندية يقودها جنرال اسرائيلي سابق، لتتولى تلميع صورته وصورة المجلس العسكري وترتيب لقاءات مع كبار هذا العالم، علاوة على توفير قنوات لشراء معدات للقمع والتجسس على الناس. وكل ذلك ب6 ملايين دولار... يا بلاش!

هناك افتراض آخر سائد في عالم اليوم (علاوة على تأويل الأحداث بالمؤامرات وهذا قديم قدم البشرية)، يعتبر أن من يسيطر على الدعاية والترويج و"الصورة" يحكم الكون، وهو افتراض مستند الى سمات ما سمي "الحداثة السائلة"، المفتقدة للبنى والمتقلبة وسريعة العبور والطي والنسيان.. سوى أن في ذلك الافتراض قدر من الوهم يلائم "خفة" الممارسة المرتبطة به هي نفسها.. وها شركة العلاقات العامة وأساليب اللوبي التي تتبعها تنكشف للعالم فيظهر أن الاتفاق وُقِّع بين حميدتي (باسم المجلس العسكري السوداني) وشركة ديكنز ومادسون الكندية (Dickens & Madson) ورئيسها الجنرال السابق في الاستخبارات الاسرائيلية آري بن ميناش (Menashe Ari Ben) بتاريخ 8 أيار/ مايو، أي منذ أقل من شهرين.. ولأن القانون في الولايات المتحدة ،حيث تنوي الشركة ممارسة إحدى نشاطاتها، يلزم بالتصريح التفصيلي، فقد صارت بنود العقد علنية وقرأنا مثلاً أن "الخبراء" ينصحون المجلس العسكري السوداني بالتعاون مع الجنرال الليبي خليفة حفتر وبتبادل الخدمات معه.. وعلمنا كذلك أن فضائح كثيرة تحيط بتلك الشركة وأنها عرضة لملاحقات قضائية شتى، وأنها فشلت في تلميع صورة الدكتاتور المخلوع روبرت موغابي مثلاً – تمساح زيمبابوي..

مقالات ذات صلة

يظهر بجلاء حدود "تبييض الصورة"، وكيف أن بضع خزعبلات ورشى لن تقوى على محو بشاعة حميدتي وصحبه، ولن تغسل دماء مئات الشبان والشابات التي سالت خلال الأشهر المنصرمة من التحركات، وأنها لا تغلب صورة تلك الابتسامات الوضاءة التي أنارت وجوه هؤلاء الشبان والشابات قبيل استشهاد بعضهم، ثم عدنا لملاقاتها بعدما رحلوا في وجوه رفاقهم أثناء استئنافهم للمهمة.

هو صراعٌ إذاً، وإن لم يفعل السودانيون (هم اليوم، ومعهم الجزائريون، وقبلهم وبعدهم كثر) كل ما ينوون عليه، فقد سجّلوا أن هناك دوماً محاولات لتحقيق الأمل، فمن دونه تزوي الحياة.

.. فإلى التحرك الكبير القادم يوم 14 تموز/ يوليو.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...