السودان: التفاوض مع الذئاب

يبدو رائعاً ما تمكنت منه حتى الآن "قوى الحرية والتغيير" في السودان من تمسك صارم بسلمية التحرك كما من اللجوء الى التفاوض. ولو فشل ذلك، فالغد قاتم على أبناء هذا البلد، لكنه سيعني استحالة التغيير بالاساليب السلمية في بلادنا. فمميزات التحرك الحالي تجعله مِثالاً سيطبع تاريخ منطقتنا، في حالتي التحقق أو الإحباط.
2019-05-24

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
| fr

لا يمكن تخيّل تحرك جماهيري "أحسن" من هذا الذي يجري في السودان. وهي الصفة التي يؤكدها تعداد ملامحه الاستثنائية حقاً: اتساع نطاق المشاركين فيه الى كلّ فئات المجتمع وكلّ مناطق البلاد بما فيهم الشرائح العليا وأحياناً أبناء مسؤولين في النظام، حضور النساء القويّ فيه، وهنّ علامة على نبض أي مجتمع، ديمومته وقد دخل شهره السادس، هيكلته ووضوح بنيته أولاً، وشعاراته ثانياً، وتدرّج تكتيكاته. فهناك إطار له تمثله "قوى الحرية والتغيير" وهي تحالف عريض يقع في القلب منه "تجمع المهنيين". كما أن الحراك انطلق مما يمس حياة الناس ووجدانهم، بعد اعلان البشير نيته الاستمرار في الحكم مخالفاً للدستور الذي وضعه بنفسه، وبعد رفع أسعار الخبز والبنزين، وبعد فتح شهية النهب واسع النطاق والممارس من قبل العصابة الحاكمة الى نيّة التجسس على أوضاع الناس المالية عبر حصر التعاملات كلها بالبطاقات وتجفيف السيولة النقدية.. ووصل سريعاً إلى رفع شعار "السلطة المدنية" بعد "الانقلاب" العسكري على البشير وهو الذي يشبه (نعيد قولها مجدداً) التضحية بالرأس انقاذاً للنظام نفسه. وعلى ذلك، يبدو أيضاً أن البشير قد جُنّ حين بدأ الاعتصام أمام وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، وطالب القوات العسكرية والأمنية بالهجوم على المدنيين السلميين وقتل نصفهم لو لزم الامر لكسر شوكة التحرك.. فصار خطراً على نفسه وعلى أصحابه!

البشير معتاد على المجازر، لا يهابها، كما هو صلاح قوش، رجل النظام القوي ومدير الأمن السابق الذي أُعلن أنه أقيل وقيد الاعتقال، ولكنه يبدو مبتعَثاً في السرّ الى أكثر من بلد حليف لتدبّر ما يجري. وكما هو الجنرال الملقب "حميدتي" قائد قوة الدعم السريع، وهي تشكيل ميليشياوي ولكنه "رسمي" وأقوى من الجيش، وقد كان نائب الجنرال عبد الفتاح برهان في دارفور مثلاً، حيث توليا الإبادة التي تعرض لها سكان هذه الولاية بغرض اخضاعهم. والجنرال برهان هو حالياً قائد المجلس العسكري الذي يتولى السلطة منذ 11 نيسان/ ابريل، ويعلن نيته الاستمرار في توليها خلال السنوات الانتقالية الثلاث، مع القبول ببعض المدنيين في مجلس سيادي يبقى برئاسة العسكر!

ومهما نحيّنا جانباً - أو تناسينا - أحد أهم دروس فترة تولي "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" السلطة في مصر عقب اقالة مبارك، في شباط/ فبراير 2011، ومهما تجنبنا عقد مقارنات خاطئة - بالضرورة ودائماً – إلا أنه تحضر بقوة هنا وتفرض نفسها على الذاكرة أو الوعي أساليب الاحتيال والاحتواء التي مورست حينذاك، والتي ينطبق عليها المثل الشائع "تمسْكن حتى تمكّن"، وانتهى الى السيسي وبشاعة ما يجري في مصر، بعد الآمال التي اثارها ميدان التحرير وأشقائه.. والرعب في قلوب أصحاب السلطة في مصر وفي كل مكان.

السودان بلد مترامي الاطراف، متعدد المناخات، ويمتلك إمكانات انتاجية غير مستثمرة (يقول النص الخاص بالسودان من ملف "مسألة الارض" الذي أنجزه السفير العربي "أن مساحة الأراضي القابلة للزراعة، حتى بعد انفصال جنوب السودان، تمثل نحو 40 في المئة من إجمالي الأراضي القابلة للزراعة في المنطقة العربية. لكن معظمها مهمَل. فمن أصل 170 مليون فدان صالحة للزراعة يُستخدم ما لا يتجاوز ربعها، أي 40 مليون فدان، سواء في الزراعة المطرية أو المروية". فيا الله!). وهذا مثال من بين سواه! لا سيما أن عدد مواطني هذا البلد لا يتجاوز 40 مليون نسمة.. لكن معظمهم جائع. وهناك مثلاً 40 في المئة من الاطفال السودانيين دون سن العاشرة غير متمدْرسين لفقر حال أهلهم.

وقد طور السودانيون عبر التاريخ (وإلى ان جاءت هذه العصابة الحاكمة حاملة مخططها لـ"الأسلمة" وفق مفهومها)، ثقافة التسامح التي لا يمكن للبلاد البقاء من دونها. فصحيح ان أغلب السودانيين يعتنقون الاسلام (95 في المئة) ولكنه - كما في كل مكان، لكن هنا أكثر من أي مكان- إسلام متنوع تتمازج فيه تقاليد ايمانية عربية وإفريقية، وتطغى عليه الروحانية الصوفية. وصحيح أن اللغة المتّبعة هي على الاغلب العربية (حوالي 70 في المئة من السكان) ولكنها هي الاخرى عربية متعددة وفيها لهجات تناسب الموروث في الجهات وتتأقلم مع من يتبعها من بين الـ570 إثنية التي تتعايش في هذا البلد، عدا الانتماءات القبلية والجهوية. فهناك بالطبع النوبيون والفوريون الخ.. ممن ليسوا عرباً، وهذا إن تجنبنا تناول ما جرى لجنوب السودان غير العربي وغير المسلم بنسب كبيرة، من تخلص متعمّد منه (بدعم من واشنطن الرسمية، ومن الانجيليين الصهاينة فيها) بعدما استحال اخضاعه بالقوة العارية.. وقد كان ذلك الانفصال "الطوعي والديمقراطي" وَبالاً عليه وعلى السودان نفسه. وكان يوجد حتماً خيارات أخرى مرْضية للجميع وعقلانية، غير المجازر والحروب وغير التخلّي والطلاق... لكن الأوان يفوت غالباً حين تمعن الاطراف في ما تنتهج، وحين يتغذى الحقد من الحقد المقابل والغباء من الغباء المقابل، ويُفتقد الخيال السياسي وخصوصاً مفهوم المصلحة العامة كبوصلة.

... وعلاوة على كل هذا التعقيد في المشهد السوداني، ففي البلاد تقاليد سياسية حداثية عريقة، وأحزاب ونقابات ومتعلمين يصلون الى أعلى المناصب العالمية بفضل قدراتهم.. وفيها أيضاً انتشار كبير للسلاح وخبرات قتالية نمَّتها سنوات النزاعات المتعددة التي عاشها البلد خلال ذلك التاريخ الحديث نفسه.

مقالات ذات صلة

حسناً، ما الذي يمكن أن يكون حصيلة "كل" ذلك، بمعنى اعتبار هذه الخلفية، وبمعنى المعطيات المباشِرة اليوم؟ تعلن "قوى الحرية والتغيير" أنها ستنتقل الى الاضراب العام والعصيان المدني لو لم يستجب المجلس العسكري الانتقالي لآخر مقترحاتها خلال المفاوضات معه، وهي تساوي أعضاء المجلس السيادي بين المدنيين والعسكريين وتداول رئاسته بينهما، وهو يبدو أقصى تنازل ممكن بالمقارنة مع المطلب العام السائد، أي تسليم السلطة للمدنيين وإنهاء الحكم العسكري. والجنرالات يعلنون رفضهم وتمسكهم بالغلبة، ويهددون بالانتقال الى قمع "الفوضى"، وهم في ذلك مدعومون من السعودية والامارات (اللتان تمتلكان مصالح اقتصادية في البلاد علاوة على أحلامهما الامبرطورية) ومصر التي تخشى كثيراً ما يجري في جارتها الجنوبية، ولذا فهي تلجأ الى "التقية" وعدم التدخل الفاضح، والاكتفاء بنصائح الخبراء اللعينة. وهناك علامات استفهام كبيرة تخص المواقف الغربية، الامريكية تحديداً، والبريطانية وهي المستعمر القديم، التي تُظهِر تعاطفاً مع مطلب السلطة للمدنيين وتمارس اشارات تضامنية مع المعتصمين، بينما لا يشبه ذلك سلوكها في سائر الكوكب، ولا يلبي حاجات علاقاتها مع الجنرالات (كصلاح قوش رجل واشنطن الذي رشحته في البداية لخلافة البشير، وبكل "سذاجة" أو استغفال للسودانيين). وهناك مصالح رنانة – هائلة - للعصابة الحاكمة لا يريد أفرادها خسارتها، وهناك تناقضات بينهم وتناحرات واختلافات بين الأجهزة نفسها وتنافسات.. وهناك فوق كل ذلك الخشية من المحاسبة، حتى المحلية أو الوطنية، ناهيك بالمحكمة الجنائية الدولية. وهي لو حصلت فستكون ثقيلة الوطأة. فالجماعة قتلة ونهّابون!

يبدو رائعاً ما تمكنت منه حتى الآن "قوى الحرية والتغيير" (على الرغم من وجود اتجاهات متعددة وأحياناً متصارعة في صفوفها)، من تمسك بسلمية التحرك كشرط أعلى حَكم كل الخطوات والمراحل. كما أن ما قامت به من اللجوء الى التفاوض يمثل موقفاً بالغ الحكمة، يذكِّر بما قامت به قوى الحرية والتغيير الأخرى -بغض النظر عن اسمائها - في إسبانيا (1975-1977) لحظة التخلص من نظام فرانكو بعد وفاته، والدور التفاوضي لتلك القوى الذي نجح في "اقناع" الملك باعادة الحياة الديمقراطية والمدنية إلى البلاد (ربما مقابل بقائه ملكاً، وأيضا مقابل القبول بـ"طيّ صفحة" الماضي من دون التنازل عن أبرز المبادئ والأساسيات)، وفي البرتغال (1974-1976) لحظة "ثورة القرنفل" التي تخلصت من حكم الجنرال سبينولا بفضل النضالات السلمية الهائلة التي قام بها العمال والفلاحون الذين احتلوا مصانعهم والاراضي التي يعملون فيها في ذروة الأزمة الاقتصادية للبلاد، وأيضاً بفضل الدور الذي لعبه صغار الضباط الذين وضعوا أزهار القرنفل في فوهات بنادقهم، أو قبلوا بأن يضعها الناس لهم.

عسى ينتهي الأمر في السودان الجميل كما في هذه الامثلة! لأنه لو فشل ذلك، فالغد قاتم على أبناء هذا البلد الطيبين، ولكنه سيعني أمراً بالغ الاهمية والخطورة: استحالة التغيير بالاساليب السلمية في بلادنا. فمميزات التحرّك الحالي في السودان تجعله مثالاً وهو سيطبع تاريخ منطقتنا سواء تحقّق أو أُحبط.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...