مسار الحركة النسوية السعودية

ما نجحت فيه الحركة النسوية كحركة حداثية البنية، هو أنها اول حركة سعودية منذ عقود تكسر كل الحواجز الطائفية والمناطقية بل وحتى الطبقية، وتكوِّن جمهوراً واسعاً من الجنسين من ذوي التوجهات التقدمية والمتجاوزة لخطابات وعصبيات التيارات الرجعية الدينية وغير الدينية السائدة.
2019-06-25

موسى السادة

باحث من السعودية


شارك
المعتقلات السعوديات

تمر السنة التاسعة على بدء حركة المطالبات التي شنتها النساء في السعودية والتي بدأت بحملة المطالبة بقيادة السيارة، ومن ثَمّ تراكمت لتنتج حركة نسوية شبه منظمة، متخذة مواقع التواصل الإجتماعي كمنصة. و مع مرور السنين اثبت هذه الحركة قدرتها على التطور والمراجعة والتكيف مع مختلف المراحل بشكل متميز مقارنة بباقي الحركات السياسية في المملكة، وصولاً الى حملة اعتقال ابرز وجوهها والتي، عكس ما ارادت السلطات، لم تساهم في تحجيم الحركة بقدر ما شكلت تجربة وعي وخبرة جديدة لمريديها.

خصخصة المجال العام للرجال

لا يمكن مقارنة احتكار الرجال للمجال العام (وحتى الخاص) وعملية الفصل الحاد بين الجنسين وفي أدق تفاصيل الحياة، التي عاشها المجتمع السعودي، بأي من باقي المجتمعات في المعمورة. ولهذا الإحتكار تجليات داخل تركيبة الأسر الصغيرة والعلاقة بين الأقارب من الجنسين، بل وحتى النظرة للأطفال من الإناث والعلاقة بين الأب وبناته، حتى أن شيوخ الصحوة الدينية حذروا الآباء من السماح لبناتهم "بلبس القصير" أمامهم و امام اخوتهن، كمؤشر على اقصى درجات الجنسنة.

تواجه السلطات السعودية التحركات الشعبية بخطابات واتهامات جاهزة، مستندة خطتها في تقسيم المجتمع طائفياً ومناطقياً. بل ومعتمدة في غالب الأحيان على موجة "محاربة الإرهاب" ليصبح كل حراك سياسي إرهاباً، فإن كان من من طائفة معينة يصبح مرتبطاً بالقاعدة وإن كان من أخرى يصبح ولاء لدولة خارجية..

وتمتد هذه التجليات لخارج البنية الخاصة بالأسر. فهي تلحظ حتى في عمران البيوت في المدن السعودية وتصفيحها لمنع انكشاف العائلة على الجيران والجتمع، وعمران المباني التعليمية الخاصة بالبنات وتسويرها على شكل سجون ضخمة، وصولاً الى الفصل في الأسواق والطوابير والمحلات التجارية. وحتى عمليات فرض وشكل الحجاب وغطاء المرأة التام والمتسم بالسواد حين خروجها للفضاء العام، يعكس حجم خصخصة هذا المجال للرجال، فهو يحتم على المرأة اضفاء ستار حول نفسها اذا ما أرادت الخروج لهذا الفضاء.

لكل هذه التجليات انعكاسات على علاقة السعوديين بالسعوديات. فحجم الفصل انتج تصورات نمطية بين الطرفين، تصل حتى الى داخل بناء العلاقات الزوجية التقليدية، بحيث أنه جعل من حالة لقاء الزوجين بعد الزواج هو في الواقع أول اتصال مباشر لكل منهما بفرد من الجنس الآخر منذ بلوغهما.

أخيرا صوت السعوديات يُسمع

مكنت الاتصالات الحديثة من خلق فضاء افتراضي يخترق الحواجز المفروضة حول النساء، وشكلت لأول مرة منصة لتُسمِع السعوديات أصواتهن للمجتمع. الا ان هذا الدخول بحد ذاته لم يمر دون مقاومة، بغاية محاربة امتلاك النساء للهواتف أو الدخول لشبكة الأنترنت في بادئ الأمر.

لكن ثورة مواقع التواصل الاجتماعي مكنت السعوديين والسعوديات من التواصل المباشر بعد زمن طويل من محاولات السلطات تقسيم المجتمع ضمن كانتونات جنسية ومناطقية وطائفية مغلقة.

ومع موجة التحركات السياسية في الوطن العربي 2011، مكنت منصات الفضاء الافتراضي صوت المرأة السعودية من أن يسمع، لتبدأ معها جملة من التحركات النسوية بدءاً من المطالبة بقيادة السيارة، لتستمر وتتطور وتمر بصعوبات وعقبات عدة، وصولاً الى حملة المطالبة باسقاط ولاية الذكور على الاناث، ما جعل من جموع من الفتيات اللواتي لطالما عشن في هوامش المجتمع، يقعن تحت حملة محاربة مباشرة من السلطات وعلى مختلف الأصعدة.

ما يميز الحركة النسوية في السياق السعودي

تحرص السلطات السعودية دائماً على مواجهة التحركات الشعبية بخطابات واتهامات جاهزة، مستندة خطتها في تقسيم المجتمع طائفياً ومناطقياً. بل ومعتمدة في غالب الأحيان على موجة "محاربة الإرهاب" ليصبح كل حراك سياسي إرهاباً، فإن كان من طائفة معينة يصبح مرتبطاً بالقاعدة و ان كان من أخرى يصبح ولاء لدولة خارجية، فيتم عبر ذلك عزل التحرك وقوقعته داخل أطر ضيقة مقسمة طائفياً وجغرافياً، وإشغال اطرافه في صراع عقيم.

إلاّ أن ما نجحت فيه الحركة النسوية كحركة حداثية البنية، هو في انها كانت أول حركة سعودية منذ عقود تكسر كل الحواجز الطائفية والمناطقية بل وحتى الطبقية، وتكوِّن جمهوراً واسعاً من الجنسين من ذوي التوجهات الأكثر تقدمية والمتجاوزة لخطابات وعصبيات التيارات الرجعية الدينية وغير الدينية السائدة.

على الرغم من المظهر البسيط للمطالب الأوّلية للحراك النسوي، أي الحق في قيادة السيارة، إلا أنه صار أحد أعمق التحركات المعارضة للبنى الحاكمة، وهزها جميعاً، وأطلق شرارة حركة ثقافية واسعة.

أوقع هذا النجاح السلطة في ورطة تتتعلق بكيفية التعامل مع هذه الحركة الناشئة، فلم يعد اللعب على التناقضات الطائفية والمناطقية أو على الفتاوى الدينية مجدياً امام تيار عريض عابر لكل شرائح المجتمع. بل ان ورطة السلطات امتدت الى ان هذا الحراك "يزايد" على حداثة تنسبها الدولة لنفسها. فقد كان هذا الحراك من الوعي بحيث أنه افشل محاولة ولي العهد محمد بن سلمان لركوب الموجة وتصوير نفسه كالمجدد.

ولا تنحصر ميزة هذا الحراك في فعاليته أمام السلطة، بل هو مثّل ضربه لعدة عصافير بحجر واحد، فهو ساهم في هز جميع البنى التقليدية في السعودية في آن واحد، من السلطة الى الحركات الدينية والعصبيات القبلية، وصولاً للبنية الأبوية للدولة التي تتقنع بقناع الحداثة والليبرالية وقد أجبرهم جميعاً على اتخاذ مواقف دفاعية.

حراك متجدد

على الرغم من المظهر البسيط للمطالب الأوّلية للحراك النسوي، وهي الحق في قيادة السيارة، إلا أنه صار (دون منافسة) أحد أعمق التحركات المعارضة للبنى الحاكمة.

وهو أطلق الشرارة لحركة ثقافية واسعة انتشرت فيها النصوص والكتب والترجمات النصية والمصورة عبر ناشطين وناشطات، عن شؤون الجندر والأبوية، ليصبح ما بدأ يوما كحراك حول مطالب معينة حركة واسعة وجذرية تطالب بإسقاط ولاية الرجل والمساواة معه، أي المساهمة المباشرة في عملية انهاء البنية الأبوية للدولة بحد ذاتها. ففي ردها حول تهمة أن أكثر مريدي النسوية هن صغيرات السن، تقول الناشطة المعتقلة نسيمة السادة "هذا أمر إيجابي، فسابقاً لم تكن الفتيات تعلمن من أين تأتي معاناتهن.. اليوم هن يعلمن أن المشكلة هي في نظام ولاية الرجل".

مرحلة جديدة

ضمن حملته "الاصلاحية" المدعومة غربياً، حاول ولي العهد استغلال مآسي السعوديات للظهور بمظهر المنقذ والمجدد. فبعد اسابيع من رده على سؤال الصحافة حول السماح للقيادة بأن العائق كان "اجتماعياً" صدر قرار بانهاء هذا الحظر مصحوباً بحملة اعلامية موجهة وواسعة تشكر محمد بن سلمان على "قراره الشجاع"، وتباركه، لتتلقى الناشطات السعوديات اتصالات من جهاز أمن الدولة يأمرهن بعدم الظهور اعلامياً والتعليق على القرار، مخافة أن تجيرن أسباب هذا القرار لغير شخص الأمير.

في ردها على تهمة صغر سن مريدي الحركة النسوية، تقول الناشطة المعتقلة نسيمة السادة: "هذا أمر إيجابي، فسابقاً لم تكن الفتيات تعلمن من أين تأتي معاناتهن.. اليوم هن يعلمن أن المشكلة تكمن في نظام ولاية الرجل".

لكن حمق المركز الحاكم في الرياض وعنجهيته لم يكتفِ باسكات الناشطات، بل بدأت حملة انتقام ممنهجة بدأت من منع الناشطات من السفر وصولاً الى اقتحام بيوتهن واعتقالهن، بشكل متزامن مع ضجيج حملات السلطة الاعلامية الضخمة الفرحة بانتصار الامير الشاب للمرأة. هذه الحملة بوركت بشكل مباشر من العديد من الوجوه النسائية "المشهورة"، من عضوات مجلس شورى ومن ممثلات ومغنيات ومشاهير وسائل التواصل السعودي منها والعربي، و لعل صورة الأميرة السعودية هيفاء آل سعود خلف مقود السيارة على غلاف مجلة "فوغ" الفرنسية أحدى أهم مظاهر محاولة خطف طبقة المترفين لجهود آلاف السعوديات.

ان الاعتقال من جهة ومحاولة احتكار الحدث واختطاف جهود النسويات، شكلت مرحلة جديدة من الوعي في الحركة النسوية، وزادت من استشعار البعد الطبقي لـ"اصلاحات" بن سلمان، وبالاضافة الى خوائها..

شكّل هذا الوعي دفعة جديدة للحركة النسوية بما أن حملة السلطات الشعواء على النسويين والنسويات لم تُنهِ هذه الحركة، بل على العكس أعطتها زخماً جديداً ودفعتها نحو مزيد من التجذر، وهو ما عبرت عنه الناشطة منال الشريف بقولها "ان المسألة لم تعد مطالبات حقوقية بل أنها تحتاج الى تغيير سياسي حقيقي".

هيجان السلطة

بعكس ما ارادت السلطات، فان حملة الاعتقالات لم تنهِ تحرك السعوديات انما أنهت مفعول ملايين الدولارات من أموال الشعب التي ضختها الدولة لحملات العلاقات العامة. وقد أنتج الزخم الجديد للحركة النسوية ردة فعل هوجاء من السلطة واتباعها وضعت التيار النسوي تحت المدفع المباشر للبرامج الإعلامية والتغريدات وحملات التشويه العشوائية، ما بين اتهام النسويات بالإرهاب وتشبيههن بالدواعش، كما قالت عضو مجلس الشورى كوثر الأربش، أو كما عبرت عن ذلك الطبيبة لمياء الابراهيم بقولها أن النسويات مرضى نفسيين.

ليست عذابات لجين الهذلول وغياب سمر بدوي ونسيمة السادة وايمان النفجان عن أطفالهن، ومعاناة عزيزة اليوسف ونوف عبد العزيز في المعتقل، الى جانب غيرهن، سوى تضحيات نبيلة في سبيل انهاء الظلم الممنهج التي تعانيه المرأة العربية وبناء مواطنة حقيقية تحتفي بها الأجيال القادمة.

علقت الناشطة النسوية ملاك الشهري على هذه الحملة مغردة: "وش شعوركم بنات بالله وأنتم كذا صايرين تخوفونهم حتى وأنتم بمعرفات وهمية لدرجة أهم الشخصيات (حقهم) ينسألون عنكم بالبرامج والثانية اللي تركت مشاغل الشورى وتنام وتصحى وهي متأزمة نفسياً بسبب وجودكم، واللي دكتورة من كثر ما تأزمت منكم نست أبجديات الطب اللي درستها سنين؟" كما علقت بدورها الناشطة الدكتورة هالة الدوسري قائلة إن "حملة التجريم الحالية هي استمرار للحملة الإعلامية التي صاحبت اعتقال الناشطات قبل عام واخماد أصوات كل الفاعلين، حتى يتم تمرير خطاب التجريم المفرغ من اي حجج منطقية".

نضال مستمر

تقبع اليوم أغلب الناشطات والناشطين في الحركة النسوية ما بين السجون والغربة. لكن مرحلة الاعتقال هذه انما هي جزء من المخاض العسير الذي تخوضه نساء المجتمع العربي ككل نحو التغيير، فليست عذابات لجين الهذلول وغياب سمر بدوي ونسيمة السادة وايمان النفجان عن اطفالهن، ومعاناة عزيزة اليوسف ونوف عبد العزيز في المعتقل الى جانب غيرهن سوى تضحيات نبيلة في سبيل انهاء الظلم الممنهج التي تعانيه المرأة العربية وبناء مواطنة حقيقية تحتفي بها الأجيال القادمة.

للكاتب نفسه

الإعدامات الجماعية في السعودية

الإعدامات في السعودية، فردية كانت أم جماعية، متشابهة. فقرار الإعدام ليس نتاج آلية عمل جهاز قضائي يمتلك لوائحَ وقوانين تصدر وفقها العقوبة. بل كان ولايزال أحد سبل توجيه الرسائل السياسية...